يحصل إذا كان الوضع المحلي أو الإقليمي أو العالمي محتقنا أو مرتبكا أو في حالة توازن هش ثم يأتي هذا الحادث ليضرب بؤرة التوازن فيختل التوازن، وتنطلق تداعيات تشبه ما يسمى بـ "تأثير الدومينو" فينتج عنها تغيير تاريخي كبير.
كان العالم قبل اندلاع الحرب العالمية في حالة توتر وترقب بسبب العلاقة القلقة بين القوى الكبرى في ذلك الزمن، وكثير من علماء الاجتماع والتاريخ وقتها استشرفوا حدثا كبيرا لكن لم يتوقع أحد أن يكون السبب اغتيال شخص واحد ولم يتنبأوا أن يصل إلى مستوى حرب عالمية شاملة.
في أمريكا قبل حرب التحرير تحرك الكثير من الكتاب والفلاسفة في تحريض المهاجرين إلى أمريكا ضد التاج البريطاني، وتنامى الغضب والتمرد الكلامي الذي لم يصل إلى مرحلة تمرد حقيقي، ولم تكن حادثة الشاي مرسومة ولا مخططة من قبل هؤلاء المنظّرين، بل لم تكن متوقعة، ومع ذلك أتت بكل هذه النتائج الخطيرة، والذي حولها إلى حدث تاريخي هو ذلك التهيؤ النفسي لدى المهاجرين في أمريكا ضد التاج البريطاني.
في فرنسا كان الشعب مواليا و منصاعا للملك لويس الرابع عشر وبعده للملك لويس الخامس عشر، ولم تنطلق الثورة إلا ضد لويس السادس عشر تحديدا، رغم أنه لم يكن اسوأ منهما، فما الذي حدث؟ ما حدث هو أن الشعب تراكم لديه الغضب ضد الاستبداد، وتنامى الشعور بالظلم والفساد والبطر، وصاحَب ذلك تنظير من الفلاسفة والشعراء والكتَّاب أدى في معظمه إلى أن لوضع قابل لقدح شرارة الثورة، وكأنها ظاهريا رد فعل على قرار الملك، لكن الحقيقة أنها نتيجة طبيعية لهذه التراكمات.
قبل أن تضرب الطائرات عمارات نيويورك كانت علاقات أمريكا مع العالم الإسلامي من خلال حكّامه مستقرة ومتينة ولم يظهر أن حدثا ما سيغير العلاقة إلى الأبد. في المقابل كان العداء لأمريكا عند الشعوب المسلمة بسبب سياستها في تأييد اسرائيل وحصار العراق ودعم الأنظمة العربية القمعية قد وصل ذروته، بل كان من الطبيعي تحميل أمريكا مسؤولية أزمات العالم كله من شدة الحنق عليها. ولهذا فحين حصل الحادث تلقاه الكثير من الشعوب المسلمة بالشماتة بأمريكا وتحويل ابن لادن إلى رمز تاريخي. ورغم أن كل التيارات الإسلامية الأخرى نأت بنفسها عن الحدث وتبرأت منه لم ينفع هذا في إخلاء ساحة المسلمين من المسؤولية، ولم تغير من مستوى رد الفعل الأمريكي. الأهم من ذلك أن رد الفعل الأمريكي نفسه أدى لتصاعد التداعيات وحولها لحرب طويلة الأمد غيرت في نفسية شعوب كاملة.
على مستوى الحالة الداخلية للدول تمر أمريكا بحالة انقسام خطير كشفه استلام ترمب للسلطة، فلم يعد الشعب الأمريكي يختلف فيما بينه ومن خلال ممثليه في الكونجرس بمفهوم الاجتهاد الذي يعذر به طرفٌ الطرفَ الآخر، بل الخلاف الآن عداء و تخوين وتجريم وترصّد ومكر دفع البعض إلى التحذير من حرب أهلية جديدة.
في أوروبا انقسام آخر بين اليمين المتطرف والليبراليين وغياب للوسط المعتدل وخلاف عنيف حول قضايا شقت صف الشعوب. في بريطانيا مثلا لم يستقر الوضع منذ التصويت على البريكست، والبلد في حالة ارتباك مستمر وعجز عن التعامل مع المشاكل الملحّة، وفي فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا صراع شرس بين اليمين والمحافظين من جهة واليسار والليبراليين من جهة أخرى، وفي شرق أوروبا عودة للعنصرية والتدين، وفي كل هذه الدول مناداة قوية للخروج من الاتحاد الأوروبي. لم يخطر ببال أحد في فترة ازدهار الوحدة الأوروبية أن يصل التوتر الاجتماعي والسياسي إلى هذا الزخم الذي لا يمكن إيقافه، وحتما سيؤدي إلى صدام داخل الدول أو بين الدول.
في معظم الدول العربية حالة مصطنعة من أنظمة قمعية مناقضة لتوجهات الشعوب، سواء في تعاملها مع الدين والأخلاق، أو في موقفها من الكيان الصهيوني، أو في سياساتها الاقتصادية، أو في سياساتها الإقليمية والعالمية. غياب الشرعية وضعف قناعة الشعوب بالسلطة يعني هشاشة الوضع وقرب انهياره، ولم تكن هذه الأنظمة لتبقى لولا استقرار وقوة النظام العالمي الذي هو ذاته مقبل على التفكك بعد انفجار بؤرة التوازن الهشة.
في داخل إيران ثورة مستمرة أنهكت النظام الإيراني وقوّضت دور الحوزة ولم يبق للنظام الإيراني من شرعية إلا القمع بالحرس الثوري والباسيج. في سوريا واليمن وليبيا انقسمت الدولة إلى أجزاء وكل طرف يعيش على دعم خارجي في حالة هشة تشير إلى تغيير حتمي إذا توقف هذا الدعم الخارجي والذي سوف يتوقف على الأرجح.
على مستوى التوتر بين الدول تسببت حرب أوكرانيا في تحد بين روسيا والغرب، وكل طرف يعتقد أنه يجبر الآخر على التنازلات بنفوذه الاقتصادي والعسكري والسياسي. صحيح أن الحرب رغم أثرها الاقتصادي لم تُحدث حتى الآن تغييرا جوهريا في الوضع العالمي، وصحيح أن الجميع لا يريد حربا نووية، لكن عناد وتحدي الطرفين سيأتي - والله أعلم - بما يحرك قطع الدومينو باتجاه تداعيات كارثية.
والتوتر كذلك موجود بين الصين وأمريكا تجاه تايوان، وموجود كذلك بين إيران وخصومها الذين يريدون تجميد المشروع النووي، وكلا التوترين لا يبدو في الأفق ما يدل على زواله بل الأدلة على تصاعده وتحوله إلى صدام حتمي.
فنحن أمام أوضاع عالمية ومحلية تشبه بنيانا قائما على أسس هشة سرعان ما يسقط، أو ينقض أحدها حتى تسقط أو تنقض البقية.
لا يمكن التنبؤ بالشرارة المحددة التي تطلق التغيير الإقليمي أو العالمي، لكن يمكن الجزم أنها قادمة وأن تداعياتها كبيرة. مثلا لو دخلت إيران في حرب إقليمية بعد استفزازها سوف يترتب على ذلك انهيار أنظمة كثيرة وربما إعادة تشكيل دول الخليج كلها واليمن ثم تداعيات هائلة على العراق وسوريا ومصر وفلسطين وليبيا وغيرها. وتبقى الاحتمالات قائمة لأمثلة أخرى سواء بين الدول أو بتطور داخل الدول نفسها.