٥ شعبان ١٤٤٤ هـ
أسئلة صعبة حول السُّنن الكونية (1)
بقلم الدكتور سعد الفقيه
السُّنن الكونية هي النواميس والقواعد الحاكمة في نظام الكون بكل حركاته ومجرياته على الأمم والمجتمعات والأفراد كافةً، وهي مما لا خروج لأحد عنها لأنها خاضعة للقدَر الرَّبَّاني ومُتعلِّقة بصورة تلازُمية بالمشيئة الإلهية، وحتمية الوقوع والحدوث.
وإكثار الحديث عن قضية سُنن الله تعالى في المجتمع مهمة للوعي العام ومدعاة لحسن التعامل مع الأحداث؛ نظرًا لمركزيتها في كثير من القضايا التي نتفاعل معها كأفراد وجماعات على كافة الأصعدة، هذا إضافة إلى أنها تُفسِّر لنا حوادثَ التاريخ وإشكالاتِ الحاضر وخفايا المستقبل، وتبيّن لنا أيضًا كثيرًا من الظواهر الغائبة عنَّا.
وقد تناول العلماء موضوعَ السنن، وأفردَه بعضهم في كتب مستقلة، وآخرون بثوه في ثنايا كتبهم، وبعضهم تعامل مع السنن بفهم دقيق وقرأ الواقع والمستقبل من خلالها. لكن تبقى مجموعة من الأسئلة حول موضوع السنن قد تبدو مُحيِّرة، ويحتاج فيها المسلم إلى المزيد من التوضيح والتبيين؛ لأنها مبنية على انطباع أوَّلي بمخالفة بعض الأحداث والظواهر لهذه السنن.
لماذا لا يصيب الكافرين من أُمم الغرب والشرق كمَن في أوروبا وأمريكا والصين وروسيا واليابان مثلُ الذي يصيب أُمَّتنا الإسلامية من قتلٍ وتشريدٍ، بالرغم من أن هؤلاء الكافرين لديهم فساد وبُعد عن الله تعالى إضافةً إلى كفرهم الأصلي وقد توعَّدهم الله سبحانه بالعذاب بسبب كفرهم؟
هذا السؤال يطرحه مَن انحصرت معرفتُه بالسنوات الأخيرة دون غيرها من عقود وقرون سبقت، أو ممَّن يكتفي بمتابعة الأخبار الآنيّة في وسائل الإعلام دون سبرٍ للتاريخ وتجارب الأُمم والشعوب؛ فإن الكافرين قد أصابهم أيضًا من القتل والتشريد والدمار والفُرقة والتشرذُم والتنازع وكل ما يخطر في الذهن من الحروب وويلاتها وحرائقها التي أكلت الأخضر واليابس.
فأوروبا مثلًا مَرَّت عليها حروبٌ خلَّفَت قتلًا وتشريدًا بقدر ما مَرَّ على المسلمين بأكثر من عشرين ضعفًا -بلا مبالغة-؛ كحرب الثلاثين عامًا وحرب المائة عام وحروب بسمارك وحروب نابليون والحرب العالمية الأولى والثانية والحروب الأهلية في بريطانيا وأمريكا وأسبانيا وتسليط الشيوعيين على شرق أوربا والقائمة لا تنتهي.
هذه الحروب ذهب ضحيتها الملايين من القتلى والجرحى والمُشرَّدين والأيتام والأرامل والدمار للعمران، حتى لقد اقترب عدد قتلى الحربَيْن العالميتَيْن الأولى والثانية -وحدهما- من المائة مليون قتيل، وهما من الحروب الأكثر دمويةً في التاريخ، إضافةً إلى الحروب داخل بعض الدول والتي ما تزال فيها من الخلافات الكثير إلى اليوم، وربما تنفجر في أي وقت.
وأمريكا من أجل وحدتها واستقلالها عن بريطانيا دخلتْ في حرب طاحنة تجاوز عددُ المعارك فيها مائةً وعشرين معركة، فضلا عن الحروب الصغيرة والمُناوَشات الجانبية التي تجاوز عددُها المئات، ثم تلا ذلك الحرب الأهلية التي استغرقت أربع سنوات (1861م-1865م) وقُتل فيها ستمائة ألف، وهو ما يعادل بتعداد اليوم ستة ملايين. أما روسيا واليابان والصين فقد جرى فيها ما لا يمكن تصوُّره من القتل والدمار والحرق والحصار والتجويع وسحق قرى ومدن وإِفناء سكانها بالكامل.
وربما يكون الذي يمرون به الآن من استقرار ورغدِ عيش بسبب العدل الجزئي الذي يسود بلادَهم منذ النصف الثاني من القرن العشرين. ومن الإنصاف ألا يُنكَر ما لديهم من قواعد العدالة البشرية متمثلة في سيادة القانون على الجميع واستقلال القضاء، ولا شك في أن العدالة لها دور كبير في رفع الظلم مما يُسهِم في دفع العذاب كما قال ابن تيمية رحمه الله: "إن الله يُقِيم الدَّولة العادلة وإن كانت كافرةً، ولا يُقِيم الدَّولة الظالمة وإن كانت مسلمةً".
والعدالة هي الركيزة الأولى واللَّبِنَة الصلبة لقيام الأُمَم والدول واستقرارها وقوتها وديمومتها، لكننا اليوم نجد بدايات ظواهر تصدُّع ركائز العدل في أوروبا وأمريكا، ويتجلى ذلك في مظاهر انتشار النزعات الشعبوية والعنصرية والسيطرة على آليات الديموقراطية من قبل فئات قادرة على خطفها. وربما بدأت علامات ذلك في سَنِّ قوانينَ وفرضِ تشريعاتٍ وإجراءاتٍ تتعارض مع مفهوم العدالة، إما بحجة الأمن أو مجاملة للنزعات الجديدة المناقضة للفطرة. وما يحصل الآن من تراشق إعلامي، وانقسام اجتماعي، وتشكيك الناس بعضهم ببعض إلى حدِّ التخوين والتجريم؛ كل هذا سيؤدي بهم إلى صدام ودماء.
لكن يبقى سؤال آخر: أليس الفساد الأخلاقي من أسباب العذاب، والغرب قد استغرق في ذلك فلماذا لم يحلّ به؟ والإجابة أن كفة إقامة العدل كسبب للاستقرار رجَحَت كفةَ الفساد كسبب للعَذاب؛ فكانت النتيجة الاستقرار والطمأنينة. هذا إذا كان الفساد في حدود الشهوات التي تبقى داخل دائرة الفطرة، أما إذا تجاوزت الفطرة -كما يحصل الآن- فربما لن ينفع العدل في تأخير العذاب الرباني.
تحركَ الناس ضد الظلمة في الثورات العربية ثم لم ينالوا إلا مزيدًا من المعاناة، أوَليس السعي لرفع الظلم مانعًا من العقوبة؟!
تراكم الظلم والفساد الذي حصل خلال سلطة الطغاة يؤدي إلى تراكم مستوى العقوبة وشدتها، والتعجيل برفع الظلم وإزالة الفساد يؤدي إلى منع العقوبة أو تخفيفها.
ومعظم الشعوب التي تحركت ضد الظلم في البلاد العربية تأخرت كثيرا حتى ترسخ الظلم والفساد وتجاوز مستوى السلطة إلى أن صار ثقافة عامة بين الناس، ولذلك فإن هذا التراكم يؤدي إلى رفع الثمن الذي تدفعه الشعوب حتى تتخلص من الطغاة.
وما جرى في بعض بلاد المسلمين من الفساد والظلم والطغيان والنفاق والعادات القبيحة لا بُدَّ من دفع ثمن باهظ من أجل غَسلِه. وفي هذه المرة تمثل الثمن في القتل والتشريد والسجن والفقر والجوع والخوف.
وهذه الظاهرة ليست خاصة بالمسلمين؛ فكل الشعوب التي تأخرت في الثورة على الظلم دفعت ثمنًا باهظًا من دمائها ومالها وراحتها وطمأنينتها قبل أن يستقر حالها، كما حصل مع الثورة الفرنسية والإنجليزية وثورات أمريكا الجنوبية، والوقت الطويل الذي يستغرقه الخلاص من الظلم جزءٌ من هذا الثمن الباهظ!
هل الزلازل والفيضانات والعواصف التي تجتاح بلاد المسلمين عقوبةٌ؟
الزلازل والفيضانات والعواصف من الظواهر الكونية الطبيعية التي قد تكون عقوبةً على التقصير في رفع الظلم والفساد، وقد تكون نذيرًا بعقوبة، وقد تكون ابتلاءً ورحمةً وشهادةً للغَريق وصاحب الهدم.
وسواء كانت عقوبةً أو نذيرًا أو غير ذلك؛ فهي ليست حتميةً لمجرد وجود الظلم والفساد، وإنما بالاستكانة إليه والرضا به والتهاون في دفعه والتصفيق له وخُذلان المظلومين.
فإذا كانت مدمرة دمارًا شاملًا فهي على الأرجح عقوبة ربانية، وكونها عامة شاملة لا يعني بالضرورة أن تكون عقوبة لكل فرد، فكل على نيته وعمله. كما لا يعني حصول الدمار في بلدٍ أنه مقصود بأكمله، فقد يكون المستهدف منطقة صغيرة في بلد واحد، أو العكس فقد تشمل بلادًا كثيرة يجمع بينها ما يستحق العقوبة. وليس من الضروري أن يُجزَم بسبب معين للعقوبة، بل المهم أن تُراجِع الأمة سجلَّها وتتخلصَ من كل الأسباب التي يُرجَّح أنها سبب لتلك العقوبة.
أما إذا كان الحدث محدودَ الدمار فهو على الأرجح نذيرٌ بعقوبة أشد إذا لم يُرفَع الظلم ويُزال الفساد ويتوقف البطَر. فإذا كانت السجون تعجُّ بآلاف من المعتقلين من الرجال والنساء ظلمًا، وغالب الأمة مهضومةً حقوقهم، وملايين معتدًى عليهم في دينهم وأعراضهم ومنازلهم وأموالهم وكرامتهم، وإذا كانت السلطات تتحدى الله في تبنِّي الفساد وحمايته والتشجيع عليه، فكيف يُستغرَب النذير؟ وهذا ليس تشاؤمًا لكنه قراءة متأنية للسُّنن الكونية وَفقًا لمقتضى الكتاب والسُّنة، وكأنّ التحذير الرباني يُنبِّه بعد هذه الحوادث الكونية أن هذه فرصة أخيرة للتصدي للظلم ومدافعته، وإلا ستكون العقوبة أشد وأنكى!
إذا كان الظلم منتشرًا وليس له مُنكِر ولا ساعٍ لإزالته، والظالم الفاسد المُفسِد مُتمكِّن ولا أمل بردعه أو تغييره؛ فهل يعني ذلك أن مآل الناس إلى العقاب والغضب الرَّبَّاني؟ فإن كان الجواب "نعم" فلماذا السعي إذًا؟
أولا: لا يستطيع أحد أن يجزم أنّ أسباب العذاب قد اكتملت، ومن ثَم ييأس من إنقاذ الأمة كلها، بل عليه أن يستمر في السعي لإزالة أسباب العقوبة الربانية حتى لو بدا أنّ العذاب متحقِّق.
وقد ورد نفسُُ هذا السؤال في القرآن في سياق قصة أصحاب السبت في حوارٍ جرى بين مَن ظنَّ أن العذاب متحقِّق وبين المصرِّين على الاستمرار في وعظ المخالفين لأوامر الله: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}، فكان ردهم: {قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فالقرآن أثنى على الفئة الثانية سواء في سعيهم لبراءة الذمة (معذرة إلى ربكم) أو في أملهم بإصلاح الفاسدين (ولعلهم يتقون) أي: لعلهم يَتركون ما هم عليه من المخالفات.
ثانيا: أكَّدَ القرآن أنَّ مَن يُصِرُّ على الإصلاح حتى في حالة اليأس ثم يَحِل العذاب؛ فسوف يحصُل على نتيجتَين: النجاة في الدنيا، والفوز في الآخرة، والدليل في تتمةِ حكاية أصحاب السبت في القرآن: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}، فحينما قامت الفئةُ المصلِحة بإبراء الذمة والإعذار إلى الله -وإن لم ينجحوا في التغيير- كانت العاقبةُ بتعميم العقوبة والعذاب على المُمارِس للظلمِ والفساد وعلى الساكتِ عنه، ولم ينجُ سوى مَن نهى عن السوء، وهم الذين قالوا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
فنَجاة المسلم قائمةٌ على ركيزة واحدة؛ وهي السعي لرفع الظلم لإزالة العقوبة، فكل مَن سعى جاهدًا في دفع الظلم وإزالة الفساد فقد أبرأ الذمة إلى الله تعالى، وسينجو بإذن الله من العذاب، والله سبحانه هو المتكلف بكيفية النجاة.
ويؤكِّدُ نفسَ المعنى قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «فمَن كَرِهَ فقَدْ بَرِئَ، ومَن أنْكَرَ فقَدْ سَلِمَ» حيث يُفرِّق بين مَن يكتفي بكُره الظلم والفساد بقلبه، وبين مَن يسعى عمليًا لإزالته. وطِبقًا لهذا الحديث فإن الذي كرِه الظلم والفساد الطغيان فقط ولم يفعل شيئًا عمليًا لإزالته؛ فقد برِئ من الإثم وبَرَّأَ ذمتَه أمام الله في الآخرة، لكن لم يُشِر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى نجاتِه في الدنيا، بل قرَنَ النجاة بالإنكار؛ لقوله: «ومَن كَرِهَ فقَدْ سَلِمَ»، فالنجاة مقرونةٌ فقط بالمجاهدة والمساهَمة في التغيير والسعي إليه.
هل يستطيع العالِمُ المتمكِّنُ الراسخُ في علوم الشريعة والتاريخ تحديدَ بعض وقائع المستقبل من خلال فهم السُّنن الكونية؟
الجواب: نعم، ولا.
"نعم" إذا كان المقصود بيانُ بعض الخطوط العريضة لمستقبل المجتمعات والدول؛ تماما مثل تنبؤ الأستاذِ الحاذِق بمستقبل تلميذه المجتهد ومستقبل تلميذه المهمل. والعالِم الراسخُ بين يديه معطياتِ الشرع، وعنده فهمٌ سديدٌ للسُّننِ الإلهية في الكون، واستقراءٌ عميقٌ للتاريخ، ثم معرفة تفصيلية بالواقع الذي يعيشه، وبهذا يستطيع تطبيقَ معرفته للسنن الكونية على الواقع ويخرج باستنتاج عام دون تفاصيل.
وقد لا يقتصر هذا على علماء المسلمين؛ فقد يكون بين علماء الاجتماع والتاريخ مَن يملك القدرة على توقع الأحداث بشكل عام بسبب معرفته للأسباب والنتائج في التاريخ. ومثال ذلك توقُّع سقوط الأنظمة وتداعي الحضارات ونشوبِ الحروب وحلول الفوضى في بلد معين، فهذه قد يصيب فيها العلماءُ والمؤرخون.
والجواب "لا" إذا كان المقصودُ تحديدَ الأحداث بصورة جازمة وتفصيلية بالمكان والزمان، وكأنه من الأنبياء، بل إن مَن فعلَ ذلك فهو من التنجيم والشعوذة.
ويُستثنَى من ذلك الجزم بشيء واحدٍ دون تفاصيلَ أخرى مثلما جزم ابن تيمية بانتصار المسلمين في معركة "شَقحَب"؛ لأنهم استكملوا أسبابَ النصر واستكمل أعداؤهم أسبابَ الهزيمة، ومثلما نسمع عمن جزم بأن مالَه وتجارته سلمَتْ من حريق أصاب غيرَه لأنه قد زكى أمواله.
وهنا لا بد من إشارة إلى مسألة مهمة؛ وهي جزم البعض بالمستقبل بناء على تأويل الرؤى، ولا شك أن الرؤيا الصادقة جزءٌ من النبوة، لكن الجزم بما تُخبِر به الرؤيا لا يحصُل إلا بشرطين: الأول: أن هذه رؤيا وليست أضغاث أحلام، والثاني: أن التأويل صحيح. وبما أن هذين الشرطين لا يمكن تحقيقُهما دون معصوم؛ فلا يمكن الجزم بصحة الرؤيا ولا بتأويلها، لكن يجوز الاستئناس بها إذا ترجَّح أنها رؤيا، وغلب على الظن أن تأويلَها صحيح.
سؤال قديم من أيام الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- وهو: أليس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} دليلًا على سقوط مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا استقام الإنسان في ذاته؟
يفهم كثيرٌ من الناس الآية بمعنى "عليك بنفسك ولا عليك بغيرك، فلن يضرك شيء ما دمتَ مستقيمًا"، وبعضهم يضيف من عنده عبارةَ: "دَعِ الخلق للخالق" ونحوها من التحريفات التي لا تستقيم شرعًا ولا دِينًا ولا مع مقتضى الكتاب والسُّنة ومراد الشارع الحكيم وفهم السلف الصالح.
وقد كان أبو بكر -رضي الله عنه- قد أجاب على هذا السؤال في رواية صحيحة ردًّا على مَن فهم الآيةَ فهمًا خاطئًا قائلا: "أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ تَقْرَأونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ"؛ فالعقوبة هنا تصبح جماعيةً شاملةً عامةً وليست فرديةً خاصةً، وهذا فهمُ أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- للآية وهو الفهم الذي يجب أن نتبعه.
كما أن الآيةَ فيها إشارتان لا يعرفها مَن لم يبذل جهدًا في قراءة التفسير:
الأولى: قال تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} ولم يقل: عليكم بأنفسِكم، والمعنى الصحيح هنا هو "الزَموا أنفسَكم واضبِطوها واحرصوا عليها وانضبِطوا معها بالكتاب والسُّنة"، فكلمة {عَلَيْكُمْ} هنا يسميها النحويون "اسم فعل أمر" كقولهم: "دونكَ الكتاب" أي: خذ الكتاب، وقولهم "إليكَ عني" بمعنى تَنَحَّ عني، وقولهم "وراءَك قليلًا" بمعنى: تأخرْ قليلا.
الثانية: تتمة الآية {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أي: إذا كنتم مُهتَدِين فلن يضرَّكم مَن ضَل، ولا تتحقق الهداية إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي لإقامة العدل الذي هو أعلى مراتب الأمر بالمعروف، وإزالة الظلم الذي هو أعلى مراتب النهي عن المنكر؛ أمَّا في حالة الخُذلان عن تطبيق ما أوجبَ اللهُ من الأمر بالمعروف والعدل، والنهي عن المنكر والظلم فالضرر هنا متحقِّق على المستوى الفردي وعلى المستوى العام بعقوبة ربانية؛ لأن الهداية نفسَها لم تتحقق.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن الله تعالى قال: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي: الزَموها وأقبِلوا عليها، ومن مصالح النفس فعلُ ما أُمِرَتْ به من الأمر والنهي، ومن الأمر والنهي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقوله: {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنما يتم الاهتداء إذا أُطيعَ الله وأُدِّيَ الواجبُ من الأمر والنهي وغيرهما". ثم ذكر خمسَ فوائد، منها: "أن يقوم بالأمر والنهي؛ فإن ذلك داخل في قوله: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} وفي قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما مِن لُبِّ الهداية وصُُلبِها.