٢٠ رجب ١٤٤٤ هـ
أساطير ديموقراطية
بقلم الدكتور سعد الفقيه
يُروَّج للديموقراطية في نموذجها الغربي على أنها الشكل المثالي للحكم، بل الشكل الذي ستؤول إليه كل الشعوب كما قال "فوكوياما" في رسالته "نهاية التاريخ". وما جاءت به الديموقراطية من مبادئ مثل: الانتخاب والمحاسبة والشفافية وفصل السلطات؛ لا شك شيء رائع وإبداع بشري.
لكن في المقابل نجد كثيرًا مما يُنسب للديموقراطية بطريقة أسطورية تدل على محدودية علم وفهم مَن يطرح مثل هذه الأساطير. وسرد هذه الأساطير هنا ليس ذما للديموقراطية ولا ثناءاً على الاستبداد بل هو إثبات لبعض الحقائق التي تخفى على الكثير بسبب انبهارهم بهذا النظام الذي هو في الجملة أقرب لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة.
(١) الديمقراطية مطلب بشري طبيعي:
كثير من الشعوب سعت للديموقراطية ونالتها، وشعوب أخرى تتوق إليها بعد الخلاص من الاستبداد، لكن الزعم أنها مطلب طبيعي لجميع البشر غير صحيح. هناك شعوب مستمتعة بالحاكم المستبد وتُثني عليه باختيارها، وتتهكّم على الدول الديموقراطية وتستغرب لماذا يتغير حكام الدول الديموقراطية بين الفينة والأخرى؟
ربما سبب ذلك أن هذه الشعوب تعيش وفرة مالية بسبب موارد طبيعية هائلة، ورغم أن حُكَّامها يأخذون نصيب الأسد من تلك الثروات إلا أن هناك ما يكفي لرَخائهم الفردي أو لمستوى راقٍ من الخدمات في بلادهم؛ ولذلك بعض إمارات الخليج وسلطنة بروناي مثلا تعيش هذه الحالة، ولا تتمنى شعوبُها أي تغيير في نظامها السياسي.
وعلى صعيدٍ آخر؛ هناك شعوب كانت تعيش ديمقراطية كاملة مثل: ألمانيا قبل هتلر، وإيطاليا قبل موسوليني، والبرتغال قبل أنطونيو سالازار؛ ولكنها فرحت بالاستبداد ووقفت خلف المستبد ونسفت الديموقراطية باختيارها بسبب ما كانت تُعانيه قبل الاستبداد. هذه الشعوب لم تنقلب على هتلر وموسوليني و سالازار على الديموقراطية بانقلابات عسكرية، بل أخذوها برضا الشعب وتأييده!
ولا يُستبعَد بعد الانقسامات التي تعيشها أمريكا وبعض دول أوربا أن يحصل فيها ما حصل في ألمانيا وإيطاليا والبرتغال. وما حصل على مستوى العقل الجمعي هو تكتل لفئات من الشعب على بعضها ضد فئات أخرى بحيث لا تثق أيُّ فئة بالأخرى، ثم تنجح إحداها في الانتخابات فتخطف البلد لصالحها وتنتهي الديموقراطية.
الظريف أن شيئا من هذا يحصل حاليا في إسرائيل بعد أن تكاثر اليهود الأورثودوكس عدديّا بسبب تحريمهم الحد من النسل ففازوا في الانتخابات لأول مرة في تاريخ إسرائيل. والأورثودوكس لا يفكرون بطريقة براغماتية مثل العلمانيين، بل هم محكومون بالأيديولوجيا الأرثودوكسية مما يعني توجيه السياسة الداخلية والخارجية بما يخدم أجندتهم الدينية فقط دون اعتبار للتَفكير البراغماتي الإسرائيلي التقليدي الذي ساهم في قوة إسرائيل وبقائها.
(٢) الديمقراطية تحقق الاستقرار.
يزعم البعض أن الاستقرار نتيجة طبيعية للديمقراطية، لما يلي:
أولا: لأن الشعب هو الذي يختار الحاكم؛ فلا حاجة للتمرد عليه ولا للخروج عن سلطته.
وثانيا: لأن اختيار الشعب أحرى أن يأتي بالأكفأ والأقدر على قيادة البلد وتحقيق الرخاء والاستقرار.
لكن تجارب التاريخ تقول إن الديموقراطية قد تتسبب في أوضاع اجتماعية واقتصادية سيئة تؤدي إلى الاستبداد. والنماذج وإن لم تكن كثيرة فهي كافية لأن تُثبِت عدم صدق هذه المقولة.
في ألمانيا مثلا انتشرت الجريمة والبطالة والمخدرات في عشرينيات و ثلاثينيات القرن الماضي، وفرح الألمان بـأدولف هتلر بعد أن قضى على البطالة والجريمة والمخدرات وأعطاهم بلدا مثاليًا في الانضباط والإنتاج.
وفي إيطاليا نجح موسوليني في القضاء على الفوضى الأمنية فلحقه الشعب الإيطالي مصفقا ومؤيّدا.
وفي البرتغال نجح سالازار في إنقاذ البرتغال من أزمتها المالية الخانقة فتحول إلى مستبد وبقي في السلطة عشرات السنين.
وفي السودان ابتهج الشعب السوداني بانقلاب سوار الذهب على الصادق المهدي في منتصف ثمانينات القرن الماضي بعد أن تسببت "الديموقراطية" في فوضى عارمة في السودان.
٣) الديموقراطية تمنع الاقتتال والفوضى.
من الأساطير المنتشرة أيضا أن الديموقراطية -بما أنها اختيار الشعب- فليس من المتوقع أن يحارب الشعب نفسه، وأن كل خلاف شعبي سوف يُحَل في صناديق الانتخابات. وقد أثبت التاريخ أن هذا الكلام أسطورة؛ فقد تكرر الاقتتال والحروب الأهلية والفوضى في كثير من الديموقراطيات. وفي المقابل هناك دول تعيش تحت الاستبداد عاشت قرونا في حالة استقرار.
انطلقت الديموقراطية الأمريكية سنة ١٧٨٩ ولم يمنع هذا من اندلاع حرب أهلية طاحنة في أمريكا استمرت أربع سنوات وتسببت في وفاة ٦٠٠ ألف أمريكي (بحساب هذا الزمان ٦ ملايين).
وعاشت إسبانيا تحت حكم ديموقراطي برلماني ١٠٠ سنة قبل أن تندلع الحرب الأهلية سنة ١٩٣٦ وتُحسم لصالح فرانكو بعد أربع سنوات طاحنة راح ضحيتها ٢٠٠ ألف قتيل!
وفي دولة اليونان الحديثة كانت بدايات الديموقراطية في القرن التاسع عشر ومع ذلك تتابعت الانقلابات والفوضى والحروب الأهلية ولم يستقر الوضع إلا سنة ١٩٧٥.
(٤) ضرورة الدستور للديموقراطية.
من الاعتقادات الخاطئة أن الدستور المكتوب الذي يتم إقراره باستفتاء شعبي كما هو الحال في أمريكا وفرنسا وغيرها ضروري لنجاح الديمقراطية.
لكن الواقع أن دولًا كثيرة فيها دستور مكتوب وجرى إقرارُه بما يُمكن تسميته استفتاءً شعبيًا، وهو قائم على مبادئ الديمقراطية، ومع ذلك تمثل هذه الدول أسوأ أنواع الاستبداد مثل: سوريا ومصر وكوريا الشمالية، وفي المقابل هناك دول من أفضل النماذج الديمقراطية مثل: بريطانيا ونيوزيلندا، ليس فيها دستور مكتوب، وتحكمها تراكمات عادات وتقاليد وأنظمة متوارَثة.
ويحتج البعض بأن سبب غياب الديموقراطية في الدول التي فيها دساتير هو أن صياغة الدستور الخاطئة هي التي تسمح بالاستبداد. وهذا غير صحيح؛ فنصوص دساتير بعض الدول المحكومة بالاستبداد أفضل من دول محكومة بديموقراطية حقيقية ولم يجد المستبد صعوبة في تغييرها لصالحه، والعكس بالعكس، فإن دساتير عريقة -مثل الدستور الأمريكي- فيها ثغرات كثيرة يمكن أن يستغلها الانتهازيون ويحولوها إلى دولة مستبدة، ولم يحصل ذلك.
(٥) الديموقراطية حكم الأغلبية.
يُفترض أن حكمَ الأغلبية هو الثابت الوحيد في الديموقراطية، بمعنى أنه إذا لم يكن الأغلبية هم الذين اختاروا الحاكم أو من يمثلهم في البرلمان؛ فهذا النظام ليس ديموقراطيًا.
وهذه كذلك أسطورة لعدة أسباب:
الأول: أن كثيرا من الدول الديموقراطية لا ينص الدستور فيها على الأكثرية العددية للناخبين؛ ففي أمريكا مثلا يتم اختيار الرئيس بناءً على كسب الولايات ونقاط كل ولاية، وكثيرًا ما تكون النتيجة خلاف الأغلبية الحقيقية، وفي بريطانيا والأنظمة البرلمانية الأخرى يفوز برئاسة الوزراء رئيس الحزب الذي حقق أكبر عدد من المقاعد في البرلمان والتي كثيرا لا تمثل الأغلبية العددية الفردية للسكان.
الثاني: أن علماء الاجتماع السياسي متفقون على أن عوام الشعب الذين يحق لهم الانتخاب هم دائما تابعون للنخَب، والنخب قد يمثلون الشعب أو لا يُمثلونه، وفي المجتمعات الجاهلة أو الخالية من القيم تسيطر نخَب موجهة "لوبيات" على المشهد من خلال إمساكها بزمام الإعلام والمال، ثم من خلال "إتقان" اللعبة الديموقراطية يستطيعون توجيه النتائج في الغالب لصالحهم. ومن أقوى النماذج على ذلك اللوبيات التي تتحكم بسياسة أمريكا وعلى رأسها اللوبي الصهيوني.
الثالث: أن كثيرا ممن يحِقّ لهم الانتخاب لا يكترثون بالانتخاب، ونسبة من يشارك لا تصل إلى العدد الكامل إلا في الدول القليلة التي تُجرّم من لا يشارك في الانتخاب؛ فإذا كانت نسبة المشاركة ٨٠ أو ٦٠ بالمئة أو أقل فأين أصوات الذين لم يشاركوا؟
(٦) الديمقراطية تأتي بطرقٍ سلمية.
من الأساطير التي تدل على جهل مَن يروّج للديمقراطية بشكل أعمى؛ زعمهم أنها بما أنها رغبة الشعب وأمنيته فهي دائما تأتي بطرق سلمية ولا حاجة للدم.
والذي يقول هذا الكلام جاهل بالتاريخ عمومًا وبتاريخ الديموقراطيات خصوصًا، فلو نظر إلى تاريخ الديموقراطيات لوجد أنه لا تكاد تُعرَف ديموقراطية تشكّلت إلا بالدم، وذلك إما بقتال مسلَّح أو بتضحيات هائلة قدَّمها مَن كان سببا في القضاء على الاستبداد.
ديموقراطية أمريكا تشكّلت بعد حرب التحرير الأمريكية التي ذهب ضحيتها أكثر من ٥٠ ألفًا، وديموقراطية بريطانيا تشكلت بعد ثورة كرومويل التي ذهب ضحيتها قرابة ٢٠٠ ألف إنجليزي، وديمقراطية فرنسا تشكلت بعد الثورة الفرنسية الشهيرة التي ذهب ضحيتها أكثر من مليون فرنسي.
وحتمية الدم في الخلاص من الاستبداد يكاد يكون قانونًا ثابتًا في التاريخ، فلم يتخلص شعب من مستبد إلا ودفع هذا الثمن. وما يبدو أنه استثناء يتبين فيما بعد أن الثمن قد دُفِع بطريقة أخرى قبل أو بعد الخلاص من المستبد.
(٧) الديموقراطية تمنع الفساد والغش والمحسوبية.
من الأساطير المتداولة أنه بما أن الديموقراطية تعني الشفافية والمحاسبة وحرية التعبير واستقلال القضاء فهي ضمان لمنع الفساد والمحسوبية؛ لأن الشفافية والمحاسبة كفيلة بمنع ذلك من أصله، وإن حصل فالخوف من التشهير في الإعلام الحر أو العقوبة في القضاء المستقل تؤدّب من يرتكبه، ومن ثَم تردَع الآخرين.
لكن الواقع يُثبت أن ذلك غير صحيح؛ فهذه دول أمريكا الجنوبية -وخاصة البرازيل- كلها ديموقراطيات وقد عشّش فيها الفساد وفرّخ، بل إن الفساد متربع في إيطاليا المعروفة بثلاثيات المافيا (القاضي، ورجل الأعمال، والمسؤول السياسي)، وأسوأ من ذلك كله ديموقراطيات كالهند وباكستان وبنغلاديش القائمة أصلا على الفساد.
وحتى الدول العريقة في الديمقراطية لا تخلو من الفساد مثل أمريكا وبريطانيا ودول أوروبا؛ ففي هذه الدول مسؤولون يُشتَرون بالمال من قِبل دول أخرى ويُبتَزون بالفضائح، ولكن ليس بطريقة فجّة مكشوفة مثل الهند والبرازيل، بل بحيل "قانونية" لكنها تقدح في الأمانة والوطنية؛ فمثلا: يُعرض على المسؤول تعهّد من قبل دولة أخرى مثل السعودية والإمارات أنه إذا غادر منصبه سيُعطى وظيفة براتب ضخم كمستشار في إحدى الشركات أو عضو مجلس في مؤسسة غنية مقابل أن يخدمهم الآن وهو في المنصب؛ فهو في الحقيقة لم يخالف القانون لكنه خان الأمانة.
والعكس صحيح؛ فهناك دول قائمة على الاستبداد ونسبة الفساد فيها صفر بالمئة مثل كوريا الشمالية والعراق في عهد الحكم البعثي وألمانيا خلال الحكم النازي ودول الكتلة الشرقية أيام الاتحاد السوفيتي.
(٨) الديموقراطية تعني الحرية، وتنصر الضعيف، وتضمن حماية للأقليّات!
الديموقراطية ليس فيها إلا ثابت واحد وهو الأكثرية، وما عدا ذلك فهي قيم أُلصقت بها عُرفًا وتقليدًا وليست من البنية الأساسية للديموقراطية. وزعم أن الديمقراطية مرتبطة بالحرية وحماية الضعيف والأقليات بشكل بنيوي وأساسي هو أسطورة وليس حقيقة . لعدة أسباب منها :-
أولا: هناك ديموقراطيات مشهورة لا تحمي الأقليات؛ فالنظام السياسي في الهند مثلا متواطئ مع الهندوس ضد المسلمين، ولا توفر المؤسسات أي حماية للمسلمين. وفي أوروبا بدأت الدول تقلد بعضها في التضييق على المسلمين في منع الحجاب وإغلاق مئات المساجد والمدارس الإسلامية ومنع بناء المآذن واستهداف المسلمين في التجسس وقوانين الملاحقة والإرهاب التي لا تنطبق إلا عليهم.
ثانيا: الديموقراطيات العريقة أيضا بدأت تتخلى عن الحريات في سبيل ما يزعمون أنه أمن قومي، وفي العقود الماضية شُرّعت قوانين كثيرة في بريطانيا وأمريكا تَحُدّ من الحريات، وتتغوّل على الأقليات، وتجعل الضعيف مجردًا من أي حماية.
وبعد الأمن الوطني جاء دور الصَّرَعات الجديدة "المثلية والنسوية والجندر" والتي لم يعُد انتقادها مسموحا به بصفته حرية تعبير، بل هو جريمة يعاقب عليها القانون، بل هناك قوانين جديدة ظهرت في أوروبا تعاقب مَن لم يُخاطِب الذي غيَّر جنسَه باللقب الجديد الذي يريد أن يُخاطَب به.
(٩) الديموقراطية ضمان لبقاء الدولة وقوتها.
مما يدّعيه المتحمسون للديموقراطية أنها لا تنتهي حتى لو تعرضت لهزّات، وأنها سبب لبقاء الدولة بشكلها الديموقراطي.
وهذه أيضا أسطورة؛ لأن المبالغة في تعدد الآراء ليست دائما علامة قوة، بل قد تكون سببا لضعف الدولة في وقت الأزمات، ولذلك تنازل الرومان عن ديموقراطيتهم لصالح دكتاتورية يوليوس قيصر بعد أن تعرضوا لخطر غزو الغال.
والعجيب أن روما تحولت بعد هذه الحادثة إلى امبراطورية، وكل مجدها العظيم المسجّل في التاريخ إنما كان في عهد الديكتاتورية، وليس في عهد الديمقراطية!
في فرنسا انهارت الديموقراطية الجديدة التي صنعتها الثورة الفرنسية على يد نابليون الذي حولها إلى استبداد امبراطوري، ثم انهارت فرنسا كلها على يد الحلفاء الأوروبيين، وصارت عمليًا محتَلّة من قِبلهم حين أعادوا الملكية بالقوة و بشروطهم.
وفي ألمانيا انهارت الديموقراطية وحل محلها استبداد هتلر الذي كان سببا في انهيار ألمانيا واحتلالها بالكامل من قِبل الحلفاء وتقسيمها بين المعسكر الغربي والشرقي.
(١٠) الديموقراطية تُحقق الوطنية والعكس.
هناك اعتقاد له وجاهة أنه كلما شارك الإنسان في القرار السياسي سواء باختيار الحاكم أو اختيار ممثِّليه في البرلمان كلما ارتفع مؤشر الانتماء للوطن. وهذا في الجملة صحيح، لكنّ غموضَ مفهوم الانتماء للوطن وغياب الدوافع الأيديولوجية يؤدي لانحسار معاني الوطنية، ويصبح الحصول على المنصب مع مرور الزمن هو الهدف الذي يُخادِع المرشح ناخبيه من أجله.
ومع تقادُم الحال يتكاثر الذين يصِلون إلى المناصب الحساسة في الدول الديمقراطية من الذين يُقدّمون مصالحهم الشخصية على مصلحة الوطن؛ فخِلال الحرب الباردة مثلا تفوّقَتْ المخابرات السوفيتية على المخابرات الأمريكية؛ لأن السوفيت لديهم عقيدة يخدمونها بينما الأمريكان بلا عقيدة، وخلال نفس الفترة تبين أن عددًا من المسؤولين البريطانيين الكبار في تلك الحقبة كانوا عملاء للاتحاد السوفيتي بسبب نزعتهم اليسارية، وحديثا ظهر "ترمب" رئيس الولايات المتحدة كمثال صارخ لمن يتخذ القرارات لأجل انتفاعه الشخصي وليس لمصلحة الولايات المتحدة، بعد أن بنى علاقات شخصية مع جهات كثيرة استفاد منهم شخصيًا.
وفي المقابل فإن الوطنية يمكن أن تصل إلى الذروة تحت حكم المستبدين مثلما حصل مع الألمان أيام هتلر، والطليان أيام موسوليني، والروس أيام ستالين، والصين أيام ماوتسي تونغ.
(١١) الديمقراطية تتكوّن بمجرد نجاح الثورات.
من الاعتقادات السطحية الخاطئة عند كثير من الكارهين للاستبداد أنه يمكن القفز إلى مرحلة الانتخاب والمحاسبة والشفافية واستقلال القضاء والحريات فور زوال الاستبداد. ومَن يؤمن بذلك لا يفهم قوانين الحركة الاجتماعية، ولم يبذل جهدا في معرفة التاريخ؛ فإنه ما من استبداد يسقط إلا ويورّث تركة ضخمة لا بد من استئصالها وإلا سَيعود الاستبداد.
هذه التركة تشتمل على مؤسسات هائلة معتمدة على المستبد، ومفاهيم تشرَّب بها جزءٌ كبير من الشعب بسبب طول عهد الاستبداد، وعدد كبير من الطفيليين الذين عاشوا على بقاء المستبد، وقضايا أخرى تُعيد الاستبداد إذا لم تُستأصَل. وهذا هو سبب الصعوبات الضخمة والدماء التي مرت بها الثورة الفرنسية والثورة الروسية وثورات الربيع العربي.
ولا يمكن للديموقراطية أو الشورى أن تتحقَّق إلا بأن تمارِس الأقلية الثورية الاستبدادَ المؤقت إلى أن تزيل كل آثار الدولة العميقة، وإلا فسيعود المستبد بشكل آخر كما حصل في تونس ومصر وليبيا وغيرها.
وفي تجربة تدل على صحة هذه القاعدة أن نصف الشعب المصري بعد الثورة مباشرة انتخب شخصية محسوبة على نظام حسني مبارك وهو أحمد شفيق رغم كل زخم الثورة ضد حسني مبارك، ورغم أن الانتخابات كانت حرة ونزيهة!
(١٢) لا بد من تغيير كل الشعب لتحقيق الديموقراطية.
من الأساطير كذلك الاعتقاد بأن الخلاص من الاستبداد لا يمكن أن يحصل إلا بعد أن يتشرب غالبية الشعب مفاهيم الديموقراطية. وهذا الكلام مناقض لطبائع الشعوب وطريقة تفكير العقل الجمعي، فلم يحدث تغيير في العالم منطلقا من الأغلبية. نعم ربما يكون لدى الغالبية حَنقٌ دفين على الظلم والاستبداد والطغيان، لكن حمل راية التغيير والقناعة بالتحرك والاستعداد للتضحية والمبادرة دائمًا يكون بأقلية صغيرة تكسر الحواجز ويلتف حولها الناسُ بعد ذلك.
هؤلاء الذين التفوا حول الطليعة المُضحّية كانوا قبل أيام -وربما ساعات- يُمجّدون الطاغية مثل القطيع، ثم تحولوا إلى تمجيد الثورة مثل القطيع، ولذلك فحتى لو انطلقت مسيرات مليونية فإنها لم تنطلق ابتداءً بشكل مليوني، بل إن النواة التي بدأتها كانت بضع مئات أو آلاف ثم تضخَّمت تدريجيًا. وهكذا كان حال الثورة الفرنسية والإيرانية وثورات الربيع العربي وغيرها من الثورات.
وحتى الثورات المسلحة يسرِي عليها نفس القانون، حيث تبدأ المقاومة بشكل محدود وتكسر الحواجز وينضم المزيد والمزيد إلى أن يُلزِموا المستبد بالتنازل كما حصل في الذين انضموا للمؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، أو يقضوا عليه كما حصل في الثورة العباسية وفي كوبا وروسيا.
(١٣) أبطال الديموقراطية دائمًا مخلصون.
ومن الأساطير كذلك أن روَّاد النضال من أجل الديموقراطية دائما مخلصون وعلى درجة عالية من الخلق والنزاهة.
والحقيقة أن كثيرا ممن قاد الثورات وسعوا في التخلص من الاستبداد والاحتلال؛ إما منحرفون أخلاقيا، أو دمويون، أو ساعون للسلطة وليس للثورة.
فهذا "روبسبير" الرجل الأول في الثورة الفرنسية دموي شرس تسبب في مقتل الكثير ثم قتَله رفاقُه، وقبله "أبو مسلم الخراساني" من أهم الشخصيات في الثورة العباسية قتل مئات الآلاف، ثم قتله أبو جعفر المنصور.
وأما جيڤارا -الشخصية الرمزية العظيمة- فمعروف بقسوته ودمويته وتعذيبه للأسرى وشهوانيته واحتقاره لكرامة الإنسان. وماوتسي تونغ تجاوز الجميع في دمويته واستخفافه بحياة البشر، بل كان ساديًا يستمتع بمشاهدة الأفلام التي كانت تُسجَّل لتعذيب أقرب رفاقه في الثورة.
(١٤) لا يأتي بالإبداع التقنيّ والإداري والفني إلا الديمقراطية.
يتحمس البعض في الثناء على الحرية؛ فيجعلها سببا في كل شيء حتى في الإبداع البشري في الفنون والتقنية والإدارة والأدب. وهذا ببساطة غير صحيح؛ فقد أثبت التاريخ أن أعلى درجات الإبداع الفني والأدبي والتقني والرياضي حصلت في أجواء استبدادية بامتياز.
فبالنظر إلى كبار الفنانين من أمثال دافنشي ومايكل أنجلو، وكبار الموسيقيين أمثال بيتهوفن وموتسارت، و كبار الروائيين مثل تولستوي ودستويفسكي، كلهم ظهروا في بيئات استبداد، وتفوقوا على كثير ممن ظهروا في بيئات ديموقراطية.
وفي الميدان التقني كانت ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية يسابقان العالم كله في الاختراعات، وبعد الحرب العالمية الثانية تفوق الاتحاد السوفياتي في إخراج أول صاروخ خارج الجاذبية الأرضية، وفي وضع أول قمر صناعي في الفضاء، وفي إرسال أول كائن حي للفضاء، وفي إرسال أول إنسان للفضاء، وفي إيصال أول مركبة للقمر، ثم في تفجير القنبلة الهيدروجينية. والقفزة التقنية الصينية الحديثة تتسارع بما يضاهي أمريكا وأوربا إنما تحصل تحت حكم دكتاتوري مطلق وتحقق نتائج لم تحصل في الدول الديموقراطية.
وأما الميدان الإداري فقد كانت التجربة النازية من أغزَر التجارب البشرية في استثمار الكوادر بالشكل الأمثل حتى صار إنتاج ألمانيا بمساحتها المحدودة وشعبها المحدود يعادل إنتاج دول بعشر أضعاف مساحتها وعدد سكانها! وقبل الحرب أقام النازيون في ألمانيا بنية تحتية مثالية، وخلال الحرب كان عددُ ما يُنتَج من الطائرات والدبابات والسفن والغواصات، ثم بعد ذلك الصواريخ، شيئا لا يكاد يُصدق.
وهنا مثالٌ آخر ظريف في عدم ارتباط الإبداع بالحرية والعدالة؛ وهو أن شعراء العهد الأموي من أمثال: جرير والفرزدق، والعهد العباسي من أمثال: المتنبي والبحتري وأبي تمام والمعري وبشار ابن برد؛ كانوا أكثرَ عددا وشهرة من شعراء الخلافة الراشدة.
(١٥) المساواة ونبذ العنصرية وحقوق المرأة مرتبطة بنيويا بالديموقراطية
معظم الديموقراطيات في العالم حاليا تحقق المساواة وضمان حقوق المرأة ونبذ العنصرية، ولكن ما لايعرفه الكثير أن الديموقراطيات كانت إلى عهد قريب مبنية في مبادئها ودساتيرها على العنصرية واحتقار المرأة والتفاوت الطبقي والاجتماعي بين الناس.
كان الدستور الأمريكي يعتبر السود خمس قيمة الرجل الأبيض، وحتى بعد تعديل هذه الفقرة في عهد لنكولن بقي السود أقل من قيمة البيض إلى منتصف العقد السادس من القرن العشرين. وكانت المرأة طبقا للدستور الأمريكي من ممتلكات الرجل، ولم تتمتع المرأة بحق الانتخاب في بريطانيا وأمريكا إلا في في نهاية العقد الثاني وفي فرنسا في العقد الرابع من القرن العشرين.
أما من حيث حق التصويت والترشّح فإن الديموقراطيات الأولى كانت مبنية في أصلها على العنصرية والتفاوت الطبقي، وكان النظام الديموقراطي نفسه يوفر غطاءً قانونيا للمتنفذين من ملاك الأراضي والعوائل الملكية ورجال الدين للتحكم بعموم الناس وخاصة الفلاحين.