top of page

٨ رجب ١٤٤٥ هـ

أوروبا "ذات القرون"

بقلم الدكتور سعد الفقيه

شعوب متميزة

يعتبر التكتل البشري الممتد من بريطانيا إلى اليونان، ومن اسكندنافيا إلى جنوب إيطاليا في المنطقة المسماة أوروبا، من أهم التكتلات البشرية التي أثرت في التاريخ ونافست "الشرق الأوسط" في العطاء الحضاري. تتفاوت الأعراق الأوروبية في التفاصيل، لكنها متقاربة في القدرات والكفاءات والصفات العامة التي جعلتها أهلا لأن تتبادل التفوق العسكري والعلمي والفني على مدار التاريخ.


من اليونان إلى الألمان

تفوقَ اليونان ثم المقدونيّون ثم الرومان ثم الفايكنج ثم "الإمبراطورية الرومانية المقدسة" ثم البرتغال والأسبان والهولنديّون ثم الفرنسيون والإنجليز والألمان. وهكذا لم يمر زمان في التاريخ إلا ولِأوروبا شي من الحضور والتفوق إما عسكريا أو تجاريا أو ثقافيا وعلميا. جاء في الحديث  ( فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها أبداً، والروم ذات القرون أصحاب بحر وصخر، كلما ذهب قرن خلف قرن مكانه، هيهات إلى آخر الدهر، ……الحديث).


الروم أكثر الناس

إضافة لذلك فقد استوطن الأوروبيون ما يسمى بالعالم الجديد، الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا، فصاروا سكانا لأربعِ قارات بعد أن كانوا يسكنون في قارة واحدة. وبهذا الانتشار صار الأوربيون أكبر كتلة بشرية الآن في العالم ولا يزالون في تكاثر وانتشار. ولعل هذا مصداق كلامه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح"تقوم الساعة والروم أكثر الناس".


والأوروبيون هم الوحيدون الذين صمدوا أمام الفتح الإسلامي، واستعادُوا المناطق التي فتحها المسلمون مثل الأندلس واليونان والبلقان وبلغاريا ورومانيا والمجر (هنغاريا). ولم يكتفوا باستعادة ما فتحه المسلمون بل غزوا بلاد المسلمين  وكرّروا الغزو في عدة حملات صليبية، تلتها حملات احتلال وهيمنة لاتَزال قائمة حتى الآن.


ما هو السر؟

هذا التفوق ليس مرتبطاً باعتناق أوروبا المسيحية، بل إن أسوأ فترات أوروبا هي فيما يسميه الأوروبيون "القرون المظلمة" حينما كانت أوروبا متشددة في التمسك بالمسيحية. وكان أعظم مجد لأوروبا قبل وبعد التزامها بالمسيحية، حيث علا شأنها في عهد اليونان والرومان الوثني، وعلا شأنها بعد ما يسمى بعصر النهضة حين تخلت تدريجيا عن المسيحية وسادت فيها العلمانية.  وما دام التفوق العسكري والحضاري  ليس مرتبطا بالمسيحية، فهل من تفسير آخر لقُدرة أوروبا على أن يظهر لها قرن كلما ذهب قرن؟


الانتخاب الطبيعي

ربما يكون التفسير في قصة وصول الإنسان إلى أوروبا وقدرته على البقاء فيها. حين استوطن الإنسان أوروبا قبل آلاف السنين وجدها أرضاً خصبة ثرية لكن لا يمكن البقاء فيها إلا بمواجهة صعوبات كثيرة، يجب على الإنسان أن يتحملها ويجد لها حلولاً من أجل أن يبقى على قيد الحياة. هذه الصعوبات جعلت من يستطيع أن يتعامل معها هو الذي يتمكن من البقاء، فيكون نسله مشابها له على طريقة ما يسمى بالانتخاب الطبيعي.


ومن خلال هذا الانتخاب الطبيعي تشكلت مجموعة من الصفات الخلقية التي تكاد تكون مثالية في العنصر الأوروبي. هذه الصفات هي التي مكنت أوروبا -والله أعلم- أن تكون "ذات القرون" وأن يكون أهلها أكثر الناس يوم القيامة. قد تشترك بعض الأجناس البشرية الأخرى مع الجنس الأوروبي في بعض الصفات، لكن لم تجتمع في جنس مثلما اجتمعت في الجنس الأوروبي والله أعلم.


ضخامة الأجسام والتحمل الجسدي

من الملاحظ أن معدل طول وحجم ووزن الشخص الأوروبي، أكبر من معظم الأجناس البشرية الأخرى ولا ينافسُهم إلا بعض الشعوب الأفريقية. لكن هذه الصفة ليست كافية لولا أن صحِبها القدرة على التحمل الجسدي لكثير من الظروف الطبيعية، والتي تشمل الأمراض والبرد والتعامل مع التضاريس الصعبة، وتشمل كذلك اللياقة والقدرة على العمل لساعات طويلة. وقد تبين أثر هذا الجلد والتحمل في بنائهم للمناطق التي استوطنوها مثل الأمريكتين واستراليا ونيوزيلندا.


طول النفس والقدرة على التعافي

إضافة للتحمل الجسدي، فإن لدى الأوروبيين القدرة على التحمل النفسي والصبر والإصرار وطول النفس سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. هذه الصفة نفعتهم في القدرة على تحمل الكوارث الطبيعية والبشرية والاستعداد للنهوض بعدها بكل عزيمة وقناعة، والانطلاق من جديد. وهذا يفسر قدرتهم على النهوض بعد حروب نابليون والحربَين الأولى والثانية، والبقاء في مقدمة العالم رغم أن هذه الحروب قتلت منهم عشرات الملايين ودمرت مدنهم ومصانعهم وبناهم التحتية.


ولعل هذا ما قصده عمرو بن العاص في الرواية الصحيحة بقوله "وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة وأوشكهم كرة بعد فرة"، وتأمل كيف نهضت ألمانيا بعد دمار الحرب الأولى، وحاربت العالم كله مرة أخرى، وتأمل كيف نهضت بعد الحرب الثانية بسنوات قليلة، وصارت من أقوى الاقتصادات في العالم.


التحكم بالعواطف

الأوروبيون لديهم قدرة هائلة -كأفراد وجماعات ودول- على التحكم بالعواطف والتعامل مع التحديات النفسية بهدوء وتروي وواقعية. والمقصود هنا ليس انعدام العواطف فهم مثل غيرهم من البشر في وجود العواطف لكن المقصود هو كبحها وترشيدها والتعامل مع أي مشكلة بمعطياتِها الواقعية لا النفسية.


على المستوى الفردي تجد الأوروبي حين يصاب بمصيبة في نفسه أو أهله أو بيته أو ماله، أقل ارتباكا أو انهيارا نفسيا من غيره وأكثر جدية في التعامل مع الحدث. وعلى المستوى الجماعي، تجد قرارات الأوروبيين السياسية والعسكرية في الجملة أقرب للمصلحة والواقعية من الغضب وردة الفعل النفسية. ولعل هذا كذلك مصداق كلام عمرو بن العاص "وأحلَمهم عند فتنة".


القدرة على العمل الجماعي والإبداع الإداري

تميزت الشعوب الأوروبية حتى أيام الممالك الصغيرة والقبائل بالقدرة على العمل المنظم واستثمار القوة في المجموعة، سواء في الحرب أو في العمل والزراعة أو لاحقا في السياسة والتنمية. ولذلك ظهرت فيهم الديموقراطية البسيطة منذ أيام اليونان وبداية عهد الرومان. وحتى بعد انحسار الديمقراطيات في العهد الثاني من روما القيصرية، بقي العمل الجماعي في كل شؤون الحياة تقريبا. وكانت الامبراطورية الرومانية نموذجا عجيبا للنظام الإداري المتطور في هيكل الدولة، وتوزيع شؤون الجيش والقضاء والقانون والخدمات والشؤون الاجتماعية.


الإبداع الذهني والفكري

بغض النظر عن سلامة الأطروحات الفلسفية لسقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من فلاسفة اليونان والرومان، فقد كان طرحهم دليلا على نشاط ذهني متوقد عند الأوروبيين. بعد سقوط روما انحسر العطاء الذهني الأوروبي بعد حصار الكنيسة للعلم، لكن ما لبث أن قفز بعد عصر النهضة قفزة جعلته يفرض نفسه عالميا.


وفلاسفة أوربا بعد النهضة هم الذين زودوا العالم بمنظومة فكرية ضخمة في السياسة والقانون والاقتصاد والاجتماع وقضايا أخرى متصلة بحياة الإنسان. وهذا لا ينفي أن الصين والهند وبلاد فارس القديمة لهم مساهمات فلسفية، لكن لا تقارن في حجمها وتأثيرها العالمي بالفلسفة الأوروبية. ومنعا لأي فهم خاطئ فإن المقام هنا ليس مقارنة بالإسلام لأن الطرح البشري لا يقارن بالوحي الرباني.


الإبداع الفني والهندسي

قدمت أوروبا للبشرية إبداعات فنية وعلمية وهندسية رائعة منذ أن انطلقت فيها الحضارات. رغم أن الشعوب الأخرى لها مساهماتها وخاصة حضارات الرافدين والصين لكن ميزة أوروبا هي التواصل في الإبداع، حيث لم تنقطع مساهمات الأوروبيين إلا أيام ما يسمى بالعصور المظلمة التي سادها الجهل، بسبب قمع الكنيسة لأي إبداع.


قبل سقوط أوروبا في الظلام كان الإبداع الهندسي والفني في أوروبا هائلاً، فقد كان فيها شبكات طرق  ونظام سير ومدن منظمة وشبكات مياه وصرف صحي، ونظام بريد ومواصلات عامة، وغيرها مما يدل على تفوق في المدنيّة. أما بعد النهضة الأوروبية فهو ما نحن فيه من تفوق تقني ومدني وتنموي، بل إن كل تطور في أي مكان آخر، مثل اليابان والصين، إنما هو تقليد للتنمية الأوروبية.


الاعتداد بالذات وتميز الانتماء القومي

من طبيعة الأوروبيين الاعتداد بذاتِهم وانتمائهم لقوميتهم الصغيرة، التي غالبا ما يكون تشكيلها أقرب للسلالة أو الجنس البشري. والتاريخ الأوروبي حافل بالحروب بين القوميات المختلفة والتمرد المستمر من قبل كل قومية على محاولات الدول التمدد في امبراطوريات. وما يسمى بحرب الثلاثين عاما بين الممالك الألمانية والبوهيمية "التشيكية"، وحرب المئة عام بين إسبانيا وهولندا دليل على هذه الحقيقة.


ولذلك ترى الدول الأوروبية لا تستطيع أن تستعمر بعضها لكنها تستطيع أن تستعمر دولا بعيدة تفوقها في المساحة وعدد السكان عشرات المرات. ولنفس السبب يستمر التمرد في بعض الدول الأوروبية الحالية على السلطة المركزية، مثل تمرد الكاثوليك في أيرلندا الشمالية على بريطانيا، والباسك على إسبانيا، وصراع "الفلمنك" و"الوالون" في بلجيكا.


نزعة الاستعمار

كثر السكان في أوروبا فأصبحت الموارد لا تكفي، وهذا سبب توجه الأوروبيين لظاهرة الاستعمار منذ اليونان وحتى الآن. توجه اليونانيون والمقدونيّون شرقا حتى وصلوا الهند، وتوجه الرومان جنوبا حتى استعمروا كامل شمال أفريقيا إضافة لبلاد الشام. و في فترة ما يسمونه العصور الوسطى توجهوا بالحملات الصليبية للعالم الإسلامي، ثم جاء عهد الاستكشاف و غزَوا الأمرِيكتين وأفريقيا واستراليا وشرق آسيا. ثم جاء عهد الاستعمار الحديث وغزا الأوروبيون أجزاء كبيرة من العالم في مقدمتها الهند والعالم العربي. هذه النزعة الاستعمارية لا يمكن أن تزول من الوجدان الأوروبي بعد زوالها شكليا، ولذلك تتصرف أوروبا كمسؤولة عن العالم، وعلى أساس ضمان مصالحها في العالم حتى بدون وجود احتلال حقيقي.


الواقع الحالي

الشعوب الأوروبية ليست بمنأى عن الطبع البشري في سفك الدماء، بل إن اعتدادَهم بانتماءاتِهم كان سببا في أكثر الحروب فتكا في التاريخ. وتجربة حرب الثلاثين عاما وحروب نابليون والحربين العالميتين هي فقط نماذج من سلسلة طويلة من الحروب بين الممالك. أما داخل الممالك فقد فتكت الحرب الأهلية والثورات الدموية بالشعب البريطاني والألمان والإيطاليين والفرنسيين والأسبان ولم يسلم شعب أوربي من حرب أهلية أو ثورات دموية.


أدرك الأوروبيون أن الصراعات ليست من مصلحتهم، وفي نفس الوقت أدركوا أنهم لا يمكن أن يتّحدُوا في دولة واحدة، فكان الحل في مستوى من التفاهم والتنسيق دون الذوبان في دولة واحدة فتأسّست الوحدة الأوروبية. ومن خلال هذا الكيان تجسدت كثير من الحقائق المذكورة، وتم تفعيلها لتقوية هذا الكيان وجعله من أقوى الكيانات العالمية.


والظريف أن أوروبا الحديثة أقرب لكلام عمرو بن العاص حيث تحقق فيها بقية الصفات وهي (وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك)


ما هو الذي سيضعف أوروبا؟

على مستوى الاستشراف التاريخي فإن أوروبا مهددة بالانهيار بعد وصولها للدرك الأسفل في الانحلال الخلقي وتقديس الشذوذ وتدمير الأسرة فضلا عن الضياع العقدي وانعدام الثوابت في مرجعية الصواب والخطأ. ومهما بلغت أوروبا من التقدم التقني والإداري والمدني فلا يمكن أن تبقى قوية بمثل مستوى الانحلال الذي تعيشه.


وآليات الديموقراطية الحالية لن تمنع هذا الانهيار بسبب انعدام الثوابت وصعود الشعبوية التي ستجعل هذه الآليات سبباً للانهيار وليس حصانة منه. وغالبا ما يكون الانهيار على شكل انقسام هائل في المجتمعات وغياب المبادئ المشتركة التي كانت سببا في نجاح الديمقراطية في امتصاص المشاكل.


وقد بدأت ملامح ذلك في بعض الدول الأوروبية فقد أجبرت الشعبوية بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتسببت الشعبوية في وصول أحزاب تنسف سياسات كانت تعتمد عليها الدول في استقرارها وقوتها.


لكن هذا لا يعني بالضرورة انهيار كل أوربا، فهي والله اعلم ستبقى "ذات قرون" وربما يسبب الصراع الشعبوي تكتلات تتصاعد فيها الهوية والانتماء إلى درجة تلغي الديمقراطيات وتعود الممالك القوية بطريقة تشبه صعود الألمان أيام هتلر لكن دون تهوّره ومجازفاتِه.


من ينافس أوروبا؟

لم ينافس أوروبا في التاريخ في تكرار الحضارات وفي التفوق العسكري والفكري والمدني إلا ما يسمى حاليا بالشرق الأوسط، فقد تعاقبت الحضارات العظيمة على فارس والعراق وبلاد الشام ومصر ثم بعدها الحضارة الإسلامية. وفيما عدا محاولة مغولية قصيرة وتجربة روسية محدودة فإنه لم يدخل مع الأوروبيين في صراع طويل إلا الفرس ثم المسلموُن.


كانت الغلبة للمسلمين قرونا عديدة، فقد أخرجوا الروم من بلاد الشام ومصر وغالب تركيا والأناضول وكامل شمال أفريقيا ثم فتحوا الأندلس. وحين خسر المسلمون الأندلس عوضوها بفتح القسطنطينية وفتح جزء كبير من شرق أوروبا قبل أن تنحسر سلطتهم وتهيمن أوروبا بعد ذلك على المنطقة كلها.


الصراع المستقبلي مع أوروبا

من الأمور المجزوم بها أن ضعف المسلمين الحالي أمام أوروبا ليس قدَرُهم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن استمرار المواجهة مع الروم بملاحِم عظيمة تنتهي بانتصار المسلمين. لكن استعادة المسلمين للقوة لا يمكن أن تخالف سنن الله في حاجة الأمم للوقت والصراع الطويل. وهذا يعني أن وصول المسلمين لمرحلة القدرة على هزيمة الروم لن تأتي إلا بعد زمن وصراع وجهاد طويل، لكنه قطعاً سيأتي ما دام قد أخبر به النبي صلى الله عليه.


متى يبدأ التحول باتجاه التفوق على أوروبا

أول خطوة في تحول الشعوب نحو القوة والتمكين هي في تنامي الشعور بالهوية والانتماء عند المسلمين ثم ظهور من يستثمر ذلك في توجيه أصحاب هذه الهوية باتجاه واحد. ومهما بدت الأمة التي يدب فيها هذا الشعور ضعيفة فإنها ستكون في طريقها للتفوق والتمكين بعد مرورها بما يجب أن تمر به من صراع وتجاذب.


وفي مقال سابق بعنوان "هل تنتصر الأمة بعد هذا التآمر العالمي عليها؟" أشرنا إلى ملامح نهوض المسلمين وعودتهم للتمكين.

  • Whatsapp
  • Twitter

عبدالله الغامدي

د. سعد الفقيه

  • Whatsapp
  • Facebook
  • Twitter
  • Snapchat

للإتصال بنا عن طريق البريد الإلكتروني:

لدعم نشاط الحركة الإعلامي:

Digital-Patreon-Wordmark_FieryCoral.png
bottom of page