top of page

٢٣ شعبان ١٤٤٦ هـ

إيران الثورة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً (٢ \ ٣)
الجزء الثاني: مستقبل إيران تقرّره ثنائية السلطة

بقلم الدكتور سعد الفقيه

بعد مرور ما يقارب نصف قرن من عمر الثورة في إيران والأطوار المختلفة التي مرت فيها كيف يبدو مستقبل إيران؟ وما هي قدرتها على البقاء بنفس نظامها السياسي؟ وما هي التحديات الكبرى التي تواجهها ويمكن أن تؤثر في مُستقبلها ومستقبل الدول المحيطة بها؟ هذه الأسئلة يمكن الإجابة عليها بعد معرفة عوامل القوة والديمومة مقابل عوامل الضعف والتدهور في دولة إيران الحالية. وفي هذا الجزء نتناول مسار الشرعية الدينية في إيران وعلاقتها بمستقبلها.


زخم الثورة والتبعية العمياء للخميني

حين انتصرت الثورة على الشاه وتمكّن الخميني من ترسيخ سلطته والقضاء على منافسيه سعى لأن يُحوّل نظام الحكم في إيران إلى نظام طويل الأمد بدستور ظن هو أنه يحقق الموازنة بين تمثيل الشعب من جهة وهيمنة المؤسسة الدينية الشيعية من جهة أخرى. لكن هذه الموازنة لم تكن عادلة حيث أنتجت ثنائية استحوذت فيها المؤسسة الدينية على كل النشاطات السيادية والرقابية على بقية المؤسسات، واجتمعت كل خيوط الحكم في يد المرشد الأعلى. 


تغيير الدستور تثبيت لِسلطة المؤسسات الدينية

وحين حصل ارتباك في تفسير بعض بنود الدستور سنة ١٩٨٩ وظن الجناح الممثل للشعب أنّ له بعض النفوذ السيادي حصلت تعديلات في الدستور أدت لإغلاق الباب أمام هذا الاحتمال. تضمنت هذه التعديلات إنشاء مجلس تشخيص مصلحة النظام وتوسيع صلاحيات المرشد بما يضمن إغلاق الفرصة أمام المؤسسات الشعبية في تجاوز خط النفوذ السيادي. هذا فضلاً عن أن كل الوزارات السيادية والمؤسسات الصلبة بيد المرشد الأعلى مباشرة، بل إن المرشد الأعلى لديه ممثلون في كل نشاط من نشاطات الدولة حتى في السفارات.


ورغم أن انتخابات الرئيس والبرلمان حرة ونزيهة فإنه لا يمكن لأحد أن يرشح نفسه للرئاسة ولا للبرلمان إلا بعد موافقة مجلس صيانة الدستور، ولا يصبح أي قانون يصدره البرلمان سارياً إلا بعد إقراره من مجلس صيانة الدستور الذي يعتبر مؤسسة دينية. وإذا اشتكى البرلمان من التدخل السافر من قبل مجلس صيانة الدستور فإن الجهة التي يحتكم إليها هي مجلس تشخيص مصلحة النظام والذي هو كذلك مؤسسة دينية صرفة. 


هل في الفكر الاثني عشري تنظير سياسي؟

إدراك هذه الهيمنة المطلقة للمؤسسات الدينية يعطي فكرة عن مستقبل إيران، لأن هذه المؤسسات تنطلق نظرياً من مجموع التراث الشيعي الإثناعشري الذي نص الدستور على الالتزام به سواء من ناحية الهوية أو من ناحية المرجعية بالتزامٍٍ أبدي غير قابل للتغيير. وما دام هذا التراث هو المرجع فإن التعرف على محتواه يبين إن كان لدى النظام الإيراني قدرة على التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية في المستقبل. 


من المعلومات الصادمة للكثير أن التراث الشيعي الإثنا عشري (التقليدي) لا يوجد فيه أي طرح سياسي نابع من النصوص الشرعية كما هو عند السنة. وقبل أن يحوّل الخميني نظرية ولاية الفقيه إلى مشروع عملي كان هناك إجماع بين الشيعة الإثنا عشرية على فكر سياسي واحد وهو انتظار خروج المهدي وعدم السعي للسلطة. 


وأدت عقيدة الانتظار هذه إلى غياب أي تنظير سياسي مبني على سلطة رجال الدين مما دفع الخميني لتبني نظرية ولاية الفقيه وتحويلها إلى مشروع عملي. وكانت هذه النظرية قد طرحت قبله بعدة قرون ولكن لم يفكر أحد بترجمتها إلى مشروع عملي بسبب تصادمها مع مجموع النصوص الشيعية التقليدية ومعارضة معظم المراجع الشيعية لها. 


مرجعية بدون نصوص

والذي مكّن الخميني من جعل هذه الفكرة قابلة للتطبيق في تنظيره الذي نشره قبل الثورة (كتاب الحكومة الإسلامية) هو اجتماع ظروف سياسية واجتماعية هيأت الفرصة لتحويلها إلى برنامج عملي، ثم تمكن من خلال دهائه السياسي من التغلب على معارضة المراجع التقليديين وتحويل هذه النظرية المنبوذة إلى الأصل في الطرح الشيعي. 


وحين واجه الخميني تحدي كتابة الدستور وجد التراث الشيعي "النصّي" فارغاً، ولذا كان لا خيار له إلا أن يستعير من التجارب البشرية الأخرى ويزاوجَها بولاية الفقيه ثم يعتسف تركيبة يحقّق فيها تلك الهيمنة لمراجع الشيعة. هذه الصلاحية للمراجع الشيعية بدون إرث شرعي "نصيّ" اضطرّتهم لاختراع قرارات وفتاوى وأنظمة وأقضية غير مدعّمة بمرجعية "نصّيّة" لكنها تحقق هيمنة المؤسسة الدينية. 


انفصام مستور

أدت هذه التركيبة وتداعياتها إلى حالة انفصام رسمي في الدولة حيث تنطلق المؤسسات -زعماً- من مرجعية دينية ثم تصدر القرارات والأنظمة باجتهادات بشرية خالية من أي اتكاء على أدلّة دينية. كان يفترض أن يترسخ هذا الفكر "الهجيني" مع الزمن ويتغلغل في وجدان الناس ويتحول إلى عقيدة وطنية، لكن الزمن أدى لمَفعول معاكس وهو انكشاف العجز والتناقض في المنظومة التأصيلية للنظام السياسي.


كان زخم الثورة وكاريزما الخميني وإخلاص وتفاني جيل الثورة الأول ساتراً لهذا العجز في النظام السياسي، وتمكن الخميني ثم رفسنجاني من التعامل مع التحديات المنبثقة من هذه التركيبة بجدارة. ولتحقيق ذلك أزاح الخميني حسين منتظري عن خلافته واختار خامنئي بدلاً منه لأنه أكثر إخلاصاً لولاية الفقيه، ثم نجح بعده رفسنجاني في تغيير الدستور وبذل جهداً ضخماً في زيادة الميكافيلية في استراتيجية إيران الداخلية والخارجية. 


انكشاف الستر 

مع الزمن انكشفت عيوب هذه التركيبة"الهجينة"، وانتشر إحساس لدى شرائح كثيرة من الشعب الإيراني أن الإثناعشرية إطارٌ لا يناسب نظام حكم شامل، وأن اعتلاء المناصب الدينية لا يجعل صاحبها مؤهلاً لحكم البلد، وترتب على ذلك أمور كثيرة معظمها يصب في تقويض السلطة. انحسرت القناعة الشعبية بِالمؤسسات الحاكمة، وتخلى جزء كبير من الشعب الإيراني عن التشيّع إما إلى اللادينية أو إلى السُّنة، وتكررت المظاهرات والاحتجاجات التي شملت كل المدن الإيرانية، وانتشر التعلق بالغرب وأمريكا بل وحتى إسرائيل. 


كان الخميني يريد للمؤسسات الحاكمة أن يكون لها شرعية تاريخية تتجذر القناعة فيها عند كافة فئات الشعب لأجيال طويلة، بحيث تبقى قدسية المؤسسات والدستور حتى لو تغير المسؤولون، لكن المفارقة المذكورة أدت إلى نتيجة معاكسة، وكان لا بد للنظام أن يلجأ لأساليب أخرى للتشبث بالسّلطة تجعله لا يختلف كثيراً عن الأنظمة الاستبدادية. 


من شرعية الدّين إلى شرعية القوة والأجهزة الأمنية

من هنا صار اعتماد النظام في بقائه مثل كل الأنظمة المستبدة على القوات المسلحة والأجهزة الأمنية متمثلة في الحرس الثوري والباسيج ووزارة الاستخبارات والأمن الوطني. وبعد أن كان الشعب ينصاع طواعية للسلطة في طهران قناعة بها في عهد الخميني فإن معظم الانصياع الآن هو بسبب الخوف من بطش النظام. 


استبداد قوميٌ وليس استبداداً فردياً امتلاكياً

لكن استبداد المؤسسات الإيرانية مختلف عن استبداد الأفراد والعوائل الحاكمة في الدول العربية، فهو ليس مبنياً على بقاء الحاكم الفرد على الكرسي بأي ثمن، بل لا يزال يحمل واجهة رساليـّة ويتبنى برنامجاً قومياً يخدم الدولة الإيرانية وليس الحاكم الفرد. 


ولهذا لم يتعارض الانحسار في شرعية المؤسسات مع إنجازات عسكرية وسياسية استراتيجية حققتها إيران على مدى العقود الماضية، لأن مثل هذا النجاح قد ينتج من نظام استبدادي كما حصل في نماذج كثيرة في التاريخ. وسبب النجاح عادة هو وجود شخصيات في القيادة مؤمنة بأهداف النشأة الأولى ومتشرّبة للنضال من أجلها وهو ما توفر في المسؤولين في السلطة الإيرانية حتى الآن.


ندّية أمريكا رفعت الرّصيد

من جهة أخرى فإن عاملان في نشأة الثورة جعلتها بالضرورة في مواجهة أقوى تحالف عالمي وهو التحالف الغربي.  العامل الأول هو رساليّة الثورة التي تجعل استقلال الدولة وخروجها من فلك أي دولة أخرى أمراً حتمياً. العامل الثاني هو أن أحد أهم أسباب الثورة الإيرانية هو تبعية الشاه للولايات المتحدة ومن ثم تحميل الولايات المتحدة مسؤولية كثير من المظالم التي قام بها الشاه. 


ومن سوء حظ الثورة أن سَقَطَ الاتحاد السوفياتي فتفرّدت الولايات المتحدة بالمنطقة فارتفع مستوى المواجهة مع أمريكا بشكل كبير، وازداد معها مستوى الندية لأمريكا.  وبقدر ما يسبب هذا التصاعد في مواجهة أمريكا صعوبات للنظام في إيران فإنه يشبع تطلعات بقايا الثوريين ويشفِ صدور المؤمنين بهيبة القومية الإيرانية.


ولاءٌ حقيقي دون شرعية دينية

هذه الطبيعة للاستبداد المبني على مصلحة قومية ثم نديّة إيران لأقوى تحالف عالمي أعطاها شرعية عند شريحة مهمة من الشعب، وهم الذين يتشكل منهم الحرس الثوري والباسيج وبقية القوى الأمنية والإعلامية المؤيدة للنظام. ومعظم هؤلاء لا يخدمون النظام من أجل الراتب والمكاسب المادية، كما هو حال الدول المستبدة في العالم العربي، بل يخدمونه بقناعة رغم الاستبداد والتناقض في الشرعية الفكرية للسلطة ورغم معارضة غالب الشعب.


ولأن ولاء هذه الفئات مضمون حتى الآن فقد تمكن النظام من امتصاص كل المظاهرات والاحتجاجات بجدارة ولا يزال قادراً على ذلك. ومما زاد في قدرته على الصمود أن التيار العام في الشعب الإيراني، وهو المتمذهب شيعياً، لم يتمكن من تقديم رموزٍ معارضةٍ أو إنشاء تنظيمٍ معارض يكافئ النظام، و معظم المعارضين إما علمانيين أو من الطائفة السُّنية، ويصعب لمثل هؤلاء أن يعتبرهم التيار العام قيادة أو رموزاً. 


بناء عليه، ما هو المستقبل؟

الإسهاب في بيان التطور في شرعية الدولة في إيران مهم في استشراف مستقبل إيران، لأن هذه الثنائية في السلطة تؤثر في كل الشؤون الداخلية والخارجية، وبعد فهمها بعمق يمكن معرفة عناصر القوة والضعف في الكيان الإيراني الحالي وقدرته على التعامل مع التحديات، وبناء عليه استشراف مستقبله، وهو ما سوف نتناوله بعون الله في المقال القادم


  • Whatsapp
  • Twitter

عبدالله الغامدي

د. سعد الفقيه

  • Whatsapp
  • Facebook
  • Twitter
  • Snapchat

للإتصال بنا عن طريق البريد الإلكتروني:

لدعم نشاط الحركة الإعلامي:

Digital-Patreon-Wordmark_FieryCoral.png
bottom of page