top of page

٢ مارس ٢٠٢٥

إيران الثورة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً
(٣\ ٣)
عوامل القوة والضعف في إيران

بقلم الدكتور سعد الفقيه

في الجزء الأول من هذا المقال تحدثنا عن التحولات التاريخية الكبرى بعد الثورة في إيران، وفي الجزء الثاني تحدثنا عن ظاهرة ثنائية السلطة في الثورة الخمينية وأثرها على مستقبل إيران. وفي هذا المقال نتحدث عن عوامل القوة مقابل عوامل الضعف في إيران من أجل أن تكتمل الصورة في استشراف مستقبل إيران والمنطقة.


إيران في حالة تحدي مستمر مع أمريكا وإسرائيل سواء بسبب صِدام النفوذ أو بسبب البرنامج النووي، ولذا فإن احتمال المواجهة العسكرية الشاملة أو الجزئية ممكنٌ في أي وقت. ولا يمكن معرفة سيناريو هذه المواجهة واحتمالات المكاسب والخسائر إلا بعد معرفة عوامل القوة والضعف في النظام الإيراني.


عوامل القوة في النظام الإيراني

تتضمن عوامل القوة هيبة المؤسسات و ولاء القوات المسلحة والأمنية وبقايا العقيدة والامتداد في العراق واليمن ولبنان والموقع المحاذي لنفط الخليج والقوة الصاروخية الكبيرة وصياغة الاستراتيجية الدفاعية بناء على معرفة العدو وضعف أنظمة الخليج والعلاقة الجيدة مع روسيا والصين.


قوة المؤسسات

لا تزال المؤسسات التي تدير الدولة في إيران تعمل بمصداقية وهيبة وتماسك رغم تدهور شعبية النظام في العقد الأخير. وهذا الكلام يندرج على المؤسسات "العليا" التي تفرّد بها النظام الإيراني مثل مجلس تشخيص النظام ومجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور ، أو المؤسّسات التقليدية مثل البرلمان والقضاء والحكومة والبلديات.


ولم يظهر حتى الآن تصدّع في هذه المؤسسات ولا صدام بينها، إلا ما كان في حدود ما يمكن احتواؤه بطريقة دستورية. هذا التماسك، حتى لو كان ظاهرياً، يُبقي هيبة السلطة ويُعطيها مناعة من أن تنهزم أو تتفكك بسبب الاحتجاجات الشعبية حتى لو كثرت. وهو كذلك وسيلة لإبقاء البلد متماسكاً عند دخولها في حرب شاملة.


ولاء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية

حَرص النظام الإيراني على ضمان ولاء أي قوة عسكرية أو أمنية في البلد بدءاً من القيادات العليا وانتهاء بصغار المجندين. ويحقق النظام هذا الولاء بطريقتين، الأولى: التربية والتدريب النفسي على أساس حماية الثورة سواء من منطق ديني أو وطني، والثانية: ربط مصير ومصالح جميع المنتسبين بقوة الدولة وتماسكها.


لا شك أن هناك تفاوت في درجة الولاء، فالحرس الثوري أكثر ولاء من الجيش، والباسيج أكثر ولاء من قوات مكافحة الشغب، واستخبارات الحرس الثوري أكثر ولاء من استخبارات الجيش .. الخ. لكن هذا التفاوت في الولاء لا يعني أن هناك قوات غير موالية، لأن أقل القوات ولاء أكثر استعداداً في الدفاع عن المؤسسات الحاكمة من معظم الجيوش وقوات الأمن العربية.


بقايا العقيدة

واجه النظام الإيراني تحديات ثقافية وجدليّة في وضع النظام السياسي موضع التنفيذ بسبب ما أشرنا إليه في الجزء الثاني من المقال عن غياب أي مشروع سياسي في الفكر الاثني عشري الذي اعتبره النظام الإيراني مرجعية شاملة للسلطة. ومع ذلك كانت القناعة العقدية بمشروع الثورة عاملاً مهما في قوة النظام الإيراني في مراحله الأولى. هذه الدرجة من "الإيمان" بلغت أوجها في العقد الأول بعد الثورة سواء داخل إيران في استبسال الإيرانيين في الحرب العراقية الإيرانية أو خارجها كما تمثل ذلك في بطولات حزب الله مع الأمريكان.


ثم انحسر هذا الالتزام بعد تراكم الأسباب التي تشكك في مصداقية هذا المشروع السياسي وبعد أن تورطت إيران في ممارسات قبيحة ضد أهل السنة في العراق وسوريا بل ضد تيارات شيعية تتبع مراجع ليست مع إيران. لكن مع ذلك بقي عدد كاف من الإيرانيين سواء من المنتسبين للقوات المسلحة والأمنية أو من المدنيين متشبثين بهذه العقيدة غير مبالين بهذا التناقض.


الامتداد في العراق واليمن ولبنان

بعد انسحاب أمريكا من العراق سيطرت إيران عليه بالكامل تقريباً في سياسته الداخلية والخارجية وبذلك أضافت لنفسها مساحة العراق و إمكانات العراق المادية وعدداً ضخماً من الميليشيات الشيعية التي تأتمر بأمر إيران. ورغم بُعد اليمن عن إيران فإن تمكين الحوثيين الموالين لإيران أعطى إيران قوة في موقع داخل الجزيرة العربية فصار لإيران ما يشبه الحدود المباشرة مع السعودية.


من جهة أخرى طُردت إيران من سوريا وتقلص نفوذها في لبنان بعد أن كسرت إسرائيل ظهر حزب الله، ويبدو أن حزب الله خسر معظم ترسانته من الصواريخ والمسيرات وليس لديه المستلزمات اللوجستية ولا الكوادر الكافية لتشغيلها. ولهذا يصعب التكهن بما يمكن أن يقّدمه حزب الله لو حصلت مواجهة شاملة بين إيران من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى.


الموقع المحاذي لنفط الخليج ومضيق هرمز

يُعتبر الخليج العربي أهم منطقة مصالح لِأمريكا وأوروبا بسبب كمية النفط والغاز الذي تساهم في إنتاجه. وبما أن كل الساحل الشرقي للخليج في مرمى الصواريخ الإيرانية فإن ذلك يعطي إيران القدرة على تعطيل إنتاج النفط وتصديره. وهذا يعني توقف ما لا يقل عن خمس إنتاج النفط العالمي ورفع أسعار النفط إلى مستويات تسبب كساداً عالمياً خطيراً.


وتستطيع إيران كذلك تعطيل الملاحة في مضيق هرمز بما يساهم في الحصار النفطي على الغرب ويفاقم الخسائر الاقتصادية العالمية. وبالمناسبة فالمضيق لا يمكن إغلاقه بإغراق الناقلات لأنه عريض وعميق بما يمنع انسداده بناقلة غارقة، وإنما يغلق بالزوارق والطوربيدات والمسيَرات والصواريخ والألغام وكلها إجراءات مؤقتة.


قوة صاروخية ضخمة وسربٌ هائل من المسيرات

اعتمدت إيران في بداية الثورة على الصواريخ المستوردة أو بقايا الصواريخ من أيام الشاه لكنها سرعان ما طورت قدراتها الذاتية في صناعة الصواريخ. وتمكنت إيران من صناعة ترسانة ضخمة من الصواريخ "فرط الصوتية" قصيرة المدى ومتوسطة المدى تصل إلى كل مناطق الشرق الأوسط. ويأتي خطر الصواريخ فرط الصوتية من أن تقنية مضادات الصواريخ لم تصل في أحسن حالاتها إلى ٢٠٪ مما يعني أن ٤ من كل ٥ صواريخ سوف تصيب أهدافها.


ونجحت إيران كذلك في تطوير قدراتها في صناعة المسيرات وتعتبر من الدول الرائدة في صناعتها. نعم ليست بمستوى تقنية المسيرات الأمريكية والأوربية لكنها تكفي لإحداث ضرر كبير في مصالح أمريكا في المنطقة. وخطورة المسيرات تأتي أيضاً بسبب كثرتها حيث تنوي إيران إرسال أسراب ضخمة من المسيرات فحتى لو أُسقِط الكثير منها يبقى ما يكفي لتحقيق الهدف.


عدد كبير من المقاتلين وخلايا نائمة في الخليج

يقترب عدد القوات المسلحة الإيرانية (مع جنود الاحتياط) من المليون عنصر. ويتلقى الحرس الثوري تدريباً عالياً وكفاءة في استخدام الأسلحة الحديثة وتخطيطاً مبنياً على كل الاحتمالات والسيناريوهات. وقد نجح الحرس الثوري في نقل قدراته التدريبية إلى حزب الله والميليشيات العراقية والحوثيين بما أدى لتحويل كل هذه القوى إلى ما يشبه امتدادٍ للحزب الثوري.


إضافة إلى ذلك يوجد عدد كبير مما يمكن تسميته بالخَلايا النائمة من الموالين لإيران في دول الخليج، حيث يقال أن عدداً كبيراً من هؤلاء تلقى تدريباً في لبنان وسوريا والعراق وإيران وطلب منهم أن يعودوا لبلادهم ويَتكتّموا على وضعهم إلى أن تدعو الحاجة إلى تحركهم. وإن صح ما ينقل فإن أعدادهم لا تقل عن ١٠ آلاف مجنّد ولديهم قدرة على الحصول على السلاح والتَوجيه بما يجب عليهم عمله في ساعة الصفر.


استراتيجية مبنية على معرفة العدو

يدرك المسؤولون في إيران أنهم مهما اجتهدوا في الاستعداد العسكري فلن يكونوا مكافئين لقوة أمريكا الخصم الأكبر لهم والحامي لحلفائها المجاورين لهم. ولذلك بنت إيران استراتيجيتها العسكرية والدفاعية على أساس ما يسمى بـ"الحرب غير المتوازية".


فكرة هذه الاستراتيجية أنه لا يمكن مواجهة الخصم المتفوق في قوة السلاح والتقنية مواجهة تقليدية بل لا بد من أساليب لا يستطيع أن يتعامل معها. ويمكن تحقيق ذلك بمعرفة نقاط ضعف الخصم والتركيز عليها تماماً مثل فنون الدفاع عن النفس التي يستطيع الشخص ضعيف البنية هزيمة قوي البنية.


ضعف أنظمة الخليج عسكرياً

وضعت دول الخليج استراتيجيتها على أساس الاعتماد الكامل على أمريكا والغرب، ولذلك تكاد تكون كل هذه الدول بلا جيش حقيقي ولا قدرة دفاعية ذاتية. ورغم التجربة المريرة بعد غزو العراق للكويت لا تزال القدرات الدفاعية الخليجية مبنية على أساس الاعتماد الكامل على أمريكا.


والأمريكان يدافعون عن هذه المنطقة، ليس فقط مقابل المال، بل لأنها منطقة نفوذ أمريكية ومصالح حيوية لا يمكن التفريط فيها، وهذا كان سبب تدخلهم بقوة لإخراج العراق من الكويت. لكن مواجهة إيران "خامنئي" تختلف عن مواجهة عراق "صدام" والحماية الأمريكية قد تدمّر إيران لكن بعد أن يتدمّر الخليج.


التحالف مع روسيا والصين

تحتفظ إيران بعلاقات جيدة مع روسيا والصين والتي قد نفعتها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً بعد حصار أمريكا. هذه العلاقة تنفع إيران في استعدادها للحرب و تنفعها في منع إصدار أي قرار من مجلس الأمن يبرر ضرب إيران وربما تنفعها بتزويد إيران خلال الحرب بسلاح وذخيرة وقطع غيار، لكن ليس من المتوقع أن تدخل الصين وروسيا طرفاً مباشراً في أي مواجهة مع أمريكا.


وهنا مفارقة قد تفاجيء الكثير، وهي أن روسيا ربما تستفيد من مثل هذه المواجهة، وذلك لأن تعطيل النفط الخليجي يعني قفزة هائلة في أسعار النفط و استماتة الغرب على النفط الروسي مما يقوي روسيا سياسياً واقتصادياً.


عوامل الضعف في النظام الإيراني

تتضمن عوامل الضعف في النظام الإيراني انحسار الدعم الشعبي للنظام وصعوبة الوضع الاقتصادي وكثرة القواعد الأمريكية والغربية القريبة من إيران وخسارتها لسوريا وحزب الله.


انحسار الدعم الشعبي

كما ذكرنا في الجزء الثاني من هذا المقال انطفأت جذوة الثورة وتحول جزء كبير من الشعب ضد النظام بل تخلى عن التشيع إما إلى الإلحاد أو إلى التسنن. ورغم ولاء القوات الأمنية والمسلحة للنظام فإن الدعم الشعبي ضروري في تكوين جبهة داخلية متماسكة عند انخراط الدولة في أي حرب.


يدعي بعض العارفين بطبيعة الشعب الإيراني أنه يصطف خلف قيادته مهما كانت ضد العدو عند اندلاع الحرب، خاصة إذا كان سبب الحرب قضية قومية يتفق عليها الجميع مثل القوة النووية. آخرون يزعمون أن معظم الشعب ينتظر خلاصاً من هذا النظام حتى لو على يد قوة خارجية، و يبدو أن اندلاع الحرب هو الذي سيبين ما هو توجه الشعب الحقيقي تجاه النظام.


الوضع الاقتصادي الصعب

تسبب الحصار في معاناة شديدة عند الإيرانيين وانهارت عملتهم واختفت كثيراً من السلع من أسواقهم وصَعبت الحياة على كثير منهم. وأدى هذا إلى هبوط معنويات الكثير خاصة مع انحسار المد الثوري والتوجه الديني مما تسبب، كما يزعم البعض، إلى غياب الاستعداد النفسي للحرب بعد هذا الإرهاق الجماعي الذي يقولون أنه تلام فيه السلطة ولا يلام فيه الأمريكان.


آخرون يجادلون بأن معاناة الناس الاقتصادية تجعلهم أكثر استعداداً للتعامل مع الواقع الحربي، أولاً لأنهم تعودوا على الحياة الصعبة، وثانياً لأن ليس لديهم ما يخسرونه. ويبدو مرة أخرى أن الجواب الصحيح لن يتبين إلا بعد اندلاع الحرب.


خسارة سوريا وتدمير حزب الله

لا شك أن طرد إيران من سوريا بالكامل وتدمير حزب الله كسر أحد أجنحة إيران، لكن الأخطر من ذلك هو سرعة الهزيمة للميليشيات الإيرانية في سوريا والاختراق المتغلغل لحزب الله والذي تسبب في تدمير ترسانة السلاح وما يشبه استئصال لقياداته.


هذه الهزيمة السريعة في سوريا ولبنان غيرت الصورة التي كانت مضخمة عن إيران وشجعت خصومها على عدم استبعاد الحلول العسكرية عند الحاجة إليها في مواجهة إيران. ولهذا السبب كثر الحديث بشكل جدي عن تدمير المفاعل النووي بعد أن كان التحذير من ذلك هو الغالب.


كثرة القواعد الأمريكية في المنطقة

يوجد في الخليج العربي ١٢ قاعدة أمريكية معلنة موزعة على كل دول الخليج بلا استثناء. ويوجد كذلك تسهيلات دائمة للقوات الأمريكية في المطارات العسكرية والموانئ كما يحق لأمريكا استخدام الطائرات وأنظمة الدفاع الجوي المحلية عند الحاجة.


وخطورة هذه القواعد على إيران  هو أنها تكاد تكون مؤسسة بالكامل على الخطر الإيراني. نعم هناك شيء من الاعتبار للخطر الصيني والروسي لكن المواجهة مع إيران هو السيناريو الواقعي الذي تسير عليه هذه القواعد حالياً. وجاهزية هذه القواعد تجعل أمريكا قادرة على التعامل بشكل فوري للمواجهة مع إيران بخلاف ما حصل مع العراق حين اضطرت أمريكا الانتظار ستة أشهر في بناء قواتها قبل غزو العراق.


وبناء عليه؟

يتضح من هذا العرض أن النظرية الدفاعية لإيران في مواجهة أمريكا ليست قائمة على هزيمة أمريكا عند اندلاع أي مواجهة بل هي قائمة على إفهام أمريكا أنها لو دخلت في حرب مع إيران سوف تخسر جزءاً كبيراً من مصالحها في المنطقة وخاصة نفط الخليج. ويبدو أن هذه النظرية في الردع نفعت حتى الآن بعد مرور ما يقارب ربع قرن على البرنامج النووي مقارنة بالمفاعل النووي العراقي الذي ضربته إسرائيل في مهده.


وكانت موازنات أمريكا إلى عهد قريب بأن فرض الحصار على إيران وتعطيل قدراتها النووية بوسائل متعددة هو الأولى. لكن يُتداول حديثاً في الدوريات الاستخباراتية الخاصة وتصريحات المسؤولين الأمريكان أن إيران تقترب من إنتاج القنبلة النووية، وهنا يطرح السؤال، هل تقرر أمريكا أن تدمير المفاعل يستحق المخاطرة بكارثة اقتصادية، أو تراهن على أن الحصار يكفي لأداء المهمة؟ هذا ما سيتبين خلال الأشهر القادمة والله أعلم.

  • Whatsapp
  • Twitter

عبدالله الغامدي

د. سعد الفقيه

  • Whatsapp
  • Facebook
  • Twitter
  • Snapchat

للإتصال بنا عن طريق البريد الإلكتروني:

لدعم نشاط الحركة الإعلامي:

Digital-Patreon-Wordmark_FieryCoral.png
bottom of page