٢٤ رمضان ١٤٤٤ هـ
الإنسان والقرآن
بقلم الدكتور سعد الفقيه
الحمد لله والصلاة على رسول الله وبعد:
فقد كُتب عن القرآن وتدوينه وتفسيره وعلومه ورسمه وإعجازه وقراءاته وتجويده وترجمته الكثير الكثير، ولا يزال يكتب، وسوف يُكتب ويُكتب، لأن عجائبه لا تنقضي، ولا يشبع منه العلماء. هذا المقال كذلك من محاولات صيد الخاطر في عجائب القرآن لعل فيها إضافة تجدي وتذكير ينفع.
الإنسان عنوان القرآن:
المتمعّن في القرآن يدرك أن الله يخاطبه هو كإنسان وكأنّ الله يكلمه مباشرة، ومن لم يدرك ذلك لا يمكن أن يعرف حقيقة القرآن. والقرآن كله أنزل من أجل الإنسان، وموجّه للإنسان، وميسّر للإنسان، وتفاصيل ما فيه كلها تدور حول الإنسان، ولذلك فربّما أصاب من قال، لو كان لنا اختيار عنوان لكتاب الله لكان "الإنسان".
قَدْرُ الإنسان يتضخّم أمام المخلوقات بالقرآن، كيف؟
"القرآن خطاب مباشر من الله للإنسان" عبارة تمر على كثير من الأسماع، ثم تستقبل ببرود، مع أنها حقيقة هائلة يغيب عن الكثير تصور جلالها وهيبتها. هذا الجلال يمكن استيعابه باستحضار الحقائق التالية:
ابن آدم لا يساوي شيئا أمام حجم الأرض
والأرض لا تساوي شيئا أمام حجم الشمس
والشمس لا تساوي شيئا أمام حجم المجموعة الشمسية،
والمجموعة الشمسية لا تساوي شيئا أمام مجرة درب التبانة
والأخيرة لا تساوي شيئا أمام تريليونات المجرات في الكون المنظور
وهذا الكون المنظور لا يساوي شيئا أمام الكون المُدرك
والكون المدرك لا يساوي شيئا أمام السماء الدنيا
والسماء الدنيا واحدة من سبع سماوات
والسماوات السبع لا تساوي شيئا أمام الكرسي
والكرسي لا يساوي شيئا أمام العرش
بمعنى أن الخالق الجبار العظيم الذي خلق كل هذه المخلوقات الهائلة يتفضل على ابن آدم الذي لا يساوي شيئا في حجمه أمام هذه المخلوقات، و يخاطبه مباشرة بخطاب خاص موجّه له بكلام حقيقي من الخالق العظيم ذاته سبحانه.
هذا لا يعني التكريم فقط، بل يعني أن هذا المخلوق المخاطب (ابن آدم) إذا استقبل هذا الخطاب كما ينبغي أن يستقبله وتشربه فهما وعملا تضخمت قيمته، وصار أعظم من كل هذه المخلوقات رغم حجمه الصغير، لأنه تشرّف بشيء صفات الخالق العظيم، وهذا لا يستغرب فمن المنطقي أن التشرّف بشيء من الخالق يرفع لمستوى أعلى من كل المخلوقات. وهذه الرفعة على المخلوقات تزداد درجتها بقدر ما تظهر آثار هذا الخطاب الإلهي على الإنسان عِلماً وقولا وعملاً.
ما أهمية أن القرآن كلام الله حقيقة وليس مخلوقا؟
الإيمان بأن القرآن كلام الله حقيقة وليس مخلوقا ذو أهمية جوهرية، ليس فقط لأنه جزء من العقيدة الصحيحة، بل لأنه يلبي النزعة البشرية للتعامل مع شيء إلهي بشكل مباشر دون أن يقلل من بينونة الله عن خلقه. فممّا يلاحظ في علم الأنثروبولوجيا أن الإنسان يسعى بطبعه للتعامل مع المعبود بطريقة يتعامل معه بالحواس بشكل مباشر، وهذا بالضرورة يزيل البينونة بين العابد والمعبود مما يقدح في تنزيه هذا المعبود.
الوثنيّون يعبدون جمادات وحيوانات تُجسّد المعبود، والنصارى يعتقدون حلول الله في المسيح، واليهود يعتقدون حلول الله في الشعب اليهودي، والعلمانيّون والملحدون والدهريّون يؤلّهون هواهم أو يؤلّهون العقل البشري. وحتى بعض الطوائف المحسوبة على الإسلام من غير أهل السنة يحل عندهم الإله في بعض مخلوقاته.
أما أهل السنة، الذين يؤمنون بتنزيه الله والبينونة الكاملة بين الله وخلقه، فلا يمكن أن يكون معبودهم سبحانه متجسّدا أو قابلا لنوع من أنواع الحلول. وهنا يرد السؤال المهم كيف لبّى الإسلام هذه النزعة البشرية للتعامل مع المعبود مباشرة دون خدش للبينونة الكاملة؟
الإجابة في أن القرآن كلام الله حقيقة، وكلام الله من صفاته الدالة على ذاته. وما دام كلام الله هذا يقرأه البشر ويسمعونه ويكتبونه ويحفظونه ويتعاملون معه مباشرة فهم يتعاملون مع صفة من صفات الله الدالة على ذاته، يتحقق المطلوب في التعامل مع الخالق المعبود من خلال صفة من صفاته وهي الكلام.
وبهذا فلو قيل أن كلام الله مخلوق، فهو فضلا عن كونه مرفوض عقيدة، فإنه لم يحقق هذا المطلب البشري الطبيعي في التعامل مع المعبود بطريقة حسية مباشرة، لأنه تعامل مع شي مخلوق. وهكذا حقق القرآن من خلال الاعتقاد أنه كلام الله حقيقة هذا المطلب البشري مع بقاء البينونة الكاملة وتنزيه الله سبحانه.
مخلوق ضعيف أمام صفة من صفات الخالق العظيم، ما الحل؟
مع أن القرآن كلام الله العظيم سبحانه وكلامه من صفاته الدالة على ذاته، فقد يُسّرَ للقراءة والكتابة والتفسير والاستنباط والتدبر، "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر". ولولا هذا التيسير ما كان لكلام الخالق العظيم إن يتلوه هذا المخلوق الصغير ويكتبه ويفسره ويستنبط منه. والقرآن لم يُيَسّر فحسب، بل جعل الله متعة في التعامل معه قراءة وسماعا وكتابة وحفظا وتدبّرا وتفسيرا، وسخر لخدمته ملايين البشر.
إعجازات وليس إعجاز
القول بأن القرآن معجز لغويا ومعنويا وتشريعيا وعلميا أمر مشهور ومتكرر، ربما لدرجة لم تعد تشد الانتباه والإثارة، لكن هناك حقيقة في هذا الإعجاز تستحق شد الانتباه وهي تجدّد الإعجاز، فالإعجاز مستمر لا يتوقف ويضاف إلى قائمته ما لا يحصى من النماذج الجديدة .
قد يظن البعض أن التجديد في الإعجاز مقتصر على الاكتشافات العلمية الطبيعية لأنها هي المتجددة وهذا غير صحيح، بل التجديد يظهر في كل أنواع الإعجاز. وبعد انتشار وسائل التواصل توفرت الفرصة لكل من يرصد ملاحظة إعجازية لم يُسبق إليها في اللغة أو في المعاني أو في التشريع أو في الإعجاز العددي أو في غيره أن يطرحها أمام الناس مما جعل القائمة تكاد تزداد كل يوم.
إعجاز من نوع آخر
ومن أغرب أوجه الإعجاز هو تسهيل حفظ القرآن وكثرة حفاظه في العالم الذين يعدّون بالملايين. والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي يحفظ تعبدا، فليس هناك حفاظ للكُتُب المقدسة الأخرى. وكثيرا ما يتحدى المُسلمون الذين يُناظرون أصحاب الأديان الأخرى بأن يخرجوا لهم حافظا واحدا لكتبهم فلا يظهر أحد.
والإعجاز لا يقف عند كثرة الحفاظ بل في نوعية الحفظ التي ليس لها مثيل ويستحيل أن يوجد لها مثيل في أي كتاب أو نص آخر. تأمّل مثلا بقاء قراءات القرآن المتعدّدة سليمة متواترة بصيغتها ونبرتها وإمالاتِها وهمزِها ومدّها وحركاتها وحروفها كما أُخذت من في النبي صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنا دون أدوات تسجيل. والدليل على دقة تواتر هذه القراءات أن أي قراءة منها يقرأها حافظ من أقصى المغرب العربي تكون مماثلة تماما لقراءة حافظ في ليبيا أو مصر أو السودان أو العراق أو الهند أو أندونيسيا في النبرة والإِمالات والهمز والمد.. الخ.
وسبب الإعجاب واعتقاد الإعجاز هنا هو أن القراءات لا يمكن تدوين الجانب الصوتي من الإِمالات والمدود والهمز كتابة بل هي تعتمد كليا على الصوت. وقد وثق المسلمون بالحفظ إلى درجة أن علماء القرآن يعتبرون المحفوظ من القرآن في صدور الرجال مرجعا مقدما على المصاحف، والتدقيق من قبل الحفاظ أهم من التدقيق في المنقول كتابة في المصاحف. ولعل هذا كله مصداق قوله تعالى "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" وهي آية فيها تأكيد مضاعف من قبل الله بحفظ القرآن، فكيف لشيء ضمن الله حفظه أن يضيع؟
الصدمة الإعجازية
من الملاحظات التاريخية المعروفة أن الشعر العربي كاد أن يتوقف بعد أن نزل القرآن وبعد أن تداول العرب آياته بينهم، وكانت هناك فجوة زمنية فيها مايشبه الفراغ الشعري بين الشعر الجاهلي العظيم والشعر الأموي المزدهر. والسبب -والله أعلم- هو أن العرب بفَصاحتهم وتعظيمهم للّغة تعرضوا للصدمة من هذه العبارات الجديدة التي لا طاقة لأي شاعر بمنافَستها أو حتى الاقتراب منها، فكادت ألسنتهم بسبب هذه الصدمة أن تتعرض لشلل مؤقت عن قول الشعر. لقد كانوا في ميدان سباق في منافسة يستطيعون التباري عليها ولديهم فرصة في الفوز أمام بعضهم البعض، ثم ظهر لهم ما بيّن أن قدراتهم اللغوية تافهة فانصَدموا ولم يتعافوا إلا حين تغيرت الثقافة وصار للشعر أدوار أخرى في بيئة إسلامية.
على القلب الطاهر
يردد الناس أن الجزيرة العربية هي مهبط الوحي، بل الحقيقة أن مهبط الوحي بنص القرآن هو ذلك القلب العظيم، قلب محمد عليه الصلاة والسلام، قال تعالى " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين"، وقال "وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين".
فإذا كان القرآن بكل هذه العظمة، وهو كلام الله، والكلام صفة من صفاته الدالة على ذاته، فكم هو ذلك التكريم لمحمد عليه الصلاة والسلام أن يكون قلبه الطاهر مهبطا للوحي ومنصة لإيصاله لكل البشر. ومثلما كان ناقل الوحي أعظم الملائكة قدرا وهو جبريل فقد كان القلب الذي هبط عليه قلب أفضل البشر بل أفضل الخلق على الله. فهل يدرك من يتأمل هذه الحقيقة مدى تكريم الله لنبيه، ليس فقط بإنزال القرآن على قلبه بل بتأكيد ذلك مرتين في كتابه.
خير أمة وخير تكرمة
أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام، وكتب أخرى أنبياء آخرين، لكن لم يُكتب لأي من هذه الكتب ما كتب للقُرآن من حفظ وعناية وضبط وتدوين وتفسير واستنباط. كما لم يكتب لها إتمامها وشرحها بكلام وأفعال وتقرير النبي الذي تنزلت عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم. كما لم يكتب لها التطبيق الجماعي في مجتمع مثالي كامل وهو مجتمع الصحابة الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس في اعتقادهم وعبادتهم وأخلاقهم وجهادهم.
هذه التكرِمة العظيمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بمستوياتها الثلاث إنما تفرعت عن كرامة وبركة القرآن، ولم تكن لتحصل دون القرآن. وهذا الفضل من الله سبحانه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم يوجب الشكر العظيم والاستحضار الدائم للفضل الرباني بأصل هذه البركة وهو القرآن. ومن المخجل أمام الله سبحانه أن تعطى الأمة كل هذا الفضل ويغفل غالبها عن قيمة القرآن في تميزها ورفعتها.
وبعد
فهذه ليست إلا خواطر قليلة في بحر عظمة هذا الكتاب المبين ولن تنقضي عجائبه و لن يشبع العلماء من التأمل فيه وتدبره. ولعل هذه الخواطر تعين من يقرأ القرآن على استحضار عظمته وحقيقة كونه كلام الله وأنماط إعجازه وفضل الله على قارئه وعلى الأمة التي اختصت به.