١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
التاريخ يخبرنا عن مصير الحراك في الجامعات الأمريكية
بقلم الدكتور سعد الفقيه
انتفاضة الجامعات الأمريكية من أجل غزة وضد الطغيان الصهيوني فاجأت الكثير من مؤيدي الكيان الصهيوني أو مؤيدي القضية الفلسطينية. وانتشار الانتفاضة بهذه السرعة يطرح تساؤلات عن دلالاتها ومصيرها وتداعياتها داخل أمريكا وخارجها.
وأفضل طريقة لفهم هذه الانتفاضة جيدا هي في العودة لتفاصيل حدثين عظيمين في الستينيات الميلادية مشابهة في كثير من تفاصيلها لانتفِاضة الجامعات الجارية الآن. الحدث الأول هو حركة الحقوق المدنية لإزالة التفرقة العنصرية ضد السود والحدث الثاني هو حملة المعارضة ضد حرب فيتنام.
كلا الحدثين الماضيين كان له مقدمات "مبعثرة" ولم ينطلق بتصاعد مستمر إلا بعد أن انتقل إلى الجامعات، وفي الحراك الحالي كان هناك تظاهرات ونشاطات ضد ما يجري في غزة وحين انتقل للجامعات صار الحراك قضية وطنية رغم أنف المعارضين وبدأ فورا بتصاعد سريع.
كلا الحدثين بدأ في الجامعات وتحديدا جامعة كولومبيا ثم انتشر إلى عشرات ومئات الجامعات، ويتكرر الحال في الحراك الحالي وتبدأ الشرارة في جامعة كولومبيا ثم تنطلق إلى عشرات ومئات الجامعات، بل تتجاوز الحدود وتنتشِر إلى أوروبا.
كلا الحدثين استخدمت فيها السلطة العنف وتستدعي الشرطة والحرس الوطني ويعتقل الكثير بل ويتسبب عنف السلطة في وفيات كثيرة. والآن تستخدم السلطة العنف ضد المساهمين في الحراك بمن فيهم أساتذة الجامعات وتستدعى الشرطة والحرس الوطني.
كلا الحدثين وقفت المؤسسة الأمريكية الحاكمة ممثلة في الحكومة والكونغرس ضده وجرّمت من شارك فيه. والآن يقف ضد هذا الحراك الكثير من أعضاء الكونغرس ومسؤولين كبار في الولايات المعنية ضد هذا الحراك ويتكلمون عنه بعبارات قبيحة.
كلا الحدثين تعرض للتشويه من قبل معظم الإعلام الأمريكي والاتهام بالعنف والتخريب وتعطيل الاقتصاد. والآن تساهم بعض وسائل الإعلام الأمريكية في تشويه الحراك باتهامه الحالي بدعم الإرهاب ومعاداة السامية ويضخّمون بعض التفاصيل التافهة التي يظنون أنها تثير الأمريكان ضدهم.
كلا الحدثين خالف ما يبدو وكأنّه التوجه العام في المجتمع الأمريكي وتبين بعد كسر الحاجز أن التوجه الحقيقي متعاطف مع الحراك وأن الأقلية المؤثرة هي التي غيرت الصورة. والآن يتصدى هذا الحراك لأخطر جماعة ضغط تتحكم بأمريكا وهو التوجه الصهيوني، ويحقق أهم خطوة وهي كسر هيبة هذا التوجه ويشجع كثير من الأمريكان على انتقاد الصهيونية بعد أن كانوا يتفادون ذلك.
كلا الحدثين انطلق في مواجهة إرهاب فكري ونفسي وسياسي فضلا عن إرهاب أمني ونجح في هزيمته. وقد واجه الحراك الحالي إرهاب الصهاينة الفكري والنفسي والسياسي، لأن المساهم في الحراك يفترض أن يخشى على مستقبله ووظيفته وسمعته لكن بدأت علامات هذا الإرهاب تتقهقر ويبقى السؤال متى ينهزم تماماً.
كلا الحدثين تسبب في إحداث انقلاب كبير في ثقافة المجتمع الأمريكي وخاصة حركة الحقوق المدنية التي جعلت العنصرية منبوذة وقلبت الإرهاب ضدها، والآن بدأ المجتمع الأمريكي يتسائل، لماذا تدفع أمريكا تكاليف قتل الأطفال والنساء فضلا عن أنها تدافع عن هذه الجريمة الأخلاقية محليا وعالمياً؟
كلا الحدثين تسبب في قرارات سياسية وقوانين جديدة غيرت موازين المجتمع الأمريكي وطبيعة الحكومة، وقد تسببت حركة الحقوق المدنية في إزالة كل ما تبقى من قوانين العنصرية والفصل بين السود والبيض، أما مناهضة حرب فيتنام فقد أجبرت الرئيس نكسون وقتها على وقف الحرب بعد أن كان يصف نشطائها بالحيوانات. والأمل كبير بأن يؤدي حراك الجامعات ضد الصهيونية إلى قلب الطاولة على الصهاينة وتقبيح كل من يرتبط بإسرائيل.
استغرق الحدثان عدة سنوات، وكل فترة تمر تقوي الحراك وتضاعف عدد المساهمين فيه وتُضعف المعارضين له. وقد بدأت ملامح ذلك في حراك الجامعات رغم المدة القصيرة التي مر بها، وربما لن يحتاج هذا الحراك نفس الوقت الذي استغرقه الحدثين السابقين وذلك لتوفر وسائل التواصل.
كلا الحدثين قفز قفزات كبيرة في عدد المساهمين فيه ونوعيتهم وقوة نشاطهم بعد كل مرة يتعرضون للعنف. وتكرر الحال مع الحراك الحالي ضد الصهاينة، حيث قفز النشاط قفزة هائلة بعد استخدام العنف، وسوف يقفز أكثر إذا تعرض للمزيد من العنف.
كلا الحدثين شارك فيها كافة شرائح المجتمع الأمريكي مما كان له أثر في نجاحها وتغيير ثقافة المجتمع. وفي الحراك الحالي تشارك شرائح المجتمع الأمريكي ويلاحظ مشاركة عدد كبير من اليهود المناهضين للصهيونية بصوت مرتفع مما يحرم الصهاينة من اتهام هذا الحراك بمعاداة السامية.
خلال الحركة المناهضة لحرب فيتنام تمكن الطلاب من تسريب وثائق تدل على تعامل جامعة كولومبيا مع وزارة الدفاع لخدمة حرب فيتنام وتمكنوا من إلزام الجامعة بوقف هذا التعامل. والآن يتصدى الطلاب للجامعات ويطالبونها بوقف تعاملها مع المؤسسات العسكرية الإسرائيلية أو الداعمة لإسرائيل.
أوجه التشابه هذه تكاد تجعل النتيجة مجزوما بها وهي أن الصهيونية ستهزم هزيمة منكرة في أمريكا لكن يبقى السؤال هل سوف تستغرق نفس المدة؟
ويبدو أن الجواب على هذا السؤال هو في فاعلية وسائل التواصل التي كسرت احتكار الإعلام وجعلت كل فرد قادر على أن ينقل الحقيقة وأن يقول رأيه ويؤثر في الآخرين. بل إن وسائل التواصل أجبرت الإعلام الذي يهيمن عليه الصهاينة على مواكبتها وتحاشي التطرف في تشويه الحراك.
ومن نماذج ذلك تسريب وسائل التواصل لمذكرة داخلية لصحيفة نيويورك تايمز توجه الكتاب والمحررين باستخدام عبارات تحمي سمعة إسرائيل وتشوّه صورة المقاومة الفلسطينية مما سبب إحراجا للصحيفة وإدارتها وإرهابا لغيرها من الصحف أن تسلك مثل هذا المسلك.
ولذلك فمن المرجح أن المدة التي سيهزم فيها اللوبي الصهيوني لن تطول رغم قوته وتغلغلِه في المؤسسة الحاكمة والإعلام والمال.
وقد أنجز الحراك حتى الآن الخطوة الأهم وهي كسر الحاجز في مهاجمة هذا اللوبي وتقبيح صورته. ومن الطريف في هذا النشاط استخدام وسائل التواصل في ملاحقة من ينتفع من خلال هذا اللوبي سواء في الحكومة والكونغرس أو في الإعلام.
ومثلما غير الحِراكين السابقين ثقافة الأمريكان تجاه قضية السود وقضية فيتنام فمن المتأمل أن ينتهي هذا الحراك إلى تحويل إسرائيل من مدللة أمريكا إلى دولة عالة على أمريكا وإجبار من يدعمها إلى البراءة منها وإلا يكون شخصاً منبوذا. هذا فضلا عن إجبار الحكومة على التخلي عن إسرائيل ثم الوقوف ضدها.