top of page

٢٧ صفر ١٤٤٦ هـ

التفكير المؤامَراتي: أسبابه وخطورتُه

بقلم الدكتور سعد الفقيه

التآمر الطبيعي

التخطيط والتآمر نهج طبيعي يمارسه البشر منذ القدم، وكلما تطورت المؤسسات المخابراتية تطور معها التآمر والتخطيط. ولهذا فإن بعض الأحداث يمكن تفسيرها بخطط مؤامراتية ناجحة، ويتأكد ذلك فعلا بعد تسريب التفاصيل، مثلما حصل في "اوبريشن أجاكس" التي أطيح فيها بمحمد مصدق في إيران سنة ١٩٥٣ ، ومؤامَرة انقلاب السيسي التي تعتبر نسخة منها تقريبا، وغيرها من المؤامرات. 


التآمر المتخيل والفكر المؤامَراتي المريض

بعض الناس، بل كثير منهم، يقلبون القاعدة ويعتبرون المؤامرة هي الأساس في تفسير الأحداث السياسية، ولا يمكن فهم الأحداث مطلقاً إلا بفك ألغاز الكيد والمكر خلف الكواليس الذي لا يتقنه إلا أمريكا ودول أوربا والصهاينة. ولا يمكن أن يفسر الواقع السياسي إلا بعد قراءة كتاب "الدنيا لعبة إسرائيل" و"بروتوكولات حكماء صهيون" و"المؤامرات الخفية للماسونية"، و "لعبة الأمم" وغيرها من الكتب التي تبني تفسير الأحداث على أساس مؤامراتي.


ومن خلال هذا التوجه فإن أحداث سبتمبر من صنع المخابرات الأمريكية، وأمريكا هي تركت ابن لادن حياً عدة سنوات حتى تبرر قتل المسلمين، وأمريكا هي التي صنعت الخميني، حتى يحارب صدام وهي التي صنعت صدام حتى يحارب الخميني، والربيع العربي ليس إلا نتاج مشروع الفوضى الخلاقة لكونداليزا رايس، وداعش صنيعة إيرانية، والمواجهة بين إيران وإسرائيل تمثيلية كبيرة…. الخ 


منهج شامل

ومنهج التفسير المؤامَراتي لا يقتصر على القضايا المعقدة بل يشمل كل الأحداث، بحيث لا يخرج عن سلطة الغرب القوي والصهاينة شيء. وتفسير الأحداث بالإحالة لجهات تخطط سراً وتنفذ خططها بكفاءة ودائماً تنجح ولا تنفضح ولا تتورط ولا تنقلب عليها خططها، ليس نزعة استثنائية بل هي ظاهرة شاملة في المجتمعات العربية والإسلامية، تكاد تكون هي السائدة، خاصة في المجتمعات التي عاشت أمداً طويلاً تحت الاستبداد.


ومن الملاحظ أن هذا التفسير المؤامراتي للأحداث السياسية لا يمتد في التاريخ بعيداً، فهو يقتصر على بدايات ضعف المسلمين في العقود المتأخرة. وهذا التوقيت تحديداً له علاقة بالتشخيص الدقيق لأسباب الإصابة بمرض المؤامراتية حيث سوف يتبين أن هذا الضعف مرتبط بطريقة تفكير الشخص المصاب بهذه اللوثة.


وقد فرض التفسير المؤامراتي نفسه اجتماعياً وإعلامياً حتى صار ثقافة مقبولة وطرحاً متداولاً منتشراً كوجهة نظر قوية يحاصر بها من لا يقبلها. ولهذا السبب لا يعتبر طرح التفسير المؤامراتي كلاما غريباً أو نشازاً، ولا يستحي منه قائله أمام شاشات التلفاز أو أن يكتبه في مقالة أو كتاب، بل ربما تحدث عنه بزهو وفخر وكأنه تفوق على الآخرين في قدراته التحليلية. 


أكثر في المجتمعات العربية

ظهرت الأجيال المتأخرة من العرب والمسلمين في دول لا تشارك بأي دور في صناعة الأحداث الإقليمية أو العالمية أو التأثير فيها، ورأت  هذه الأجيال كيف أن بلدان المسلمين تجعل سياستها الخارجية وبرامجها العسكرية تبعا لإرادة القوى العظمى. وفوق ذلك سمعت هذه الأجيال من آبائها وأجدادها قصص الهزيمة الكاملة أمام القوى العظمى وتفوق الاستعمار والتحكم الغربي  ببلاد المسلمين منذ أكثر من قرن، وكيف أن الاستعمار لم يغادر حقيقة حتى لو غادرت عساكره، وأن الأنظمة التي تركها الاستعمار أكثر خدمة له من نفسه. 


هذا التوالي التاريخي في ضعف شعوبنا وتراكم التبعية للقوى العظمى أدى بالشعوب أن تشعر بعجزٍ كلي وشللٍ جماعيّ عن صناعة الأحداث أو التأثير فيها. ورسخ هذا الشعور غياب الاستراتيجيات والخطط وانعدام الرؤية المستقلة والدوران في فلك القوى العالمية سياسياً وأمنياً وعسكرياً، فاستقر في الوجدان أن هذا العجز والفشل هو قدرنا وسوف يبقى ملتصقاً بنا إلى أجل غير مسمى. ولنفس السبب تزداد ظاهرة اللجوء للتفسير المؤامَراتي كلما ازداد القمع، وذلك لأن المقموع يشعر بعجز إضافي فوق عجز الأمة بسبب عيشه تحت ظل نظام قد كتم أنفاسه خاصة إذا كان هذا الظالم يدور في فلك القوى العظمى.


والمثقفون كذلك

وتعرض المجتمع كله على مدى عدة أجيال لهذه الحالة من العجز يجعلها ثقافة عامة، ومن ثم فالمثقف والكاتب والإعلامي سوف يجد نفسه مسايراً للعوام في هذا النهج لأنه نتاج مجتمع متشبع بهذه الثقافة. ولهذا فإن اللجوء للتفسير المؤامراتي في مجتمعاتنا ليس مقتصراً على العوام أو شخصيات مغمورة أو مرضى مهووسين بكيد الحكومات، بل هو نهج لمثقفين مشهورين.  ومن العجب ان النهج المؤامراتي لا يقتصر على تيار ثقافي معين، بل هو موجود لدى السلفيين والتنويريين والعلمانيين والقوميين وغيرهم. 


 وفي المقابل فإن المجتمعات في الدول القوية لا يفكر فيها بطريقة مؤامراتية إلا أقليات أو أفراد من العوام والجهلة، وتفكيرهم هذا ليس تجاه أحداث سياسية، بل تجاه أساطير تليق ببعض أصحاب الإعاقة الذهنية، أمثال أولئك الذين يصدقون بالكائنات الفضائية وأن الأرض مجوفة أو مسطحة وأن هتلر مختبيء في القطب الجنوبي. 


الأحداث وأسبابها ونتائجها دائما لصالح القوي 

عند أصحاب هذا النهج تسير الأحداث دائماً لمصلحة القوى الذي خطط هذه المؤامرة، لأن هذا القوي دقيق في التخطيط إلى درجة أنه لا يخطئ وقد راعى حساب كل التفاصيل، بل وضع احتياطات لتدارك المشاكل في أي مرحلة من مراحل الخطة "المؤامرة"، ودائماً تتكلل هذه الأحداث بنتائج لمصلحة هذا القوي. ويجتهد صاحب الفكر المؤامَراتي باختراع نتائج مفيدة لمن نسب له المؤامرة حتى لو كانت غير منظورة، ثم يقول "ابحث عن المستفيد تعرف الفاعل" على أساس أن المستفيد دائما هو الغرب. وبالمناسبة فهذه ليست قاعدة مضطردة فكثيراً ما تخطط جهة أو شخص لشيء ما، وتأتي النتائج ضارة له ونافعة لخصومه. 


لا تسألوا عن الآليّات 

من الملاحظ تفادي المصابين بالفكر المؤامَراتي الحديث عن الآلية التفصيلية التي نفذت فيها هذه القوى حدثاً ما، حتى لا يتورطون بتناقضاتٍ تجعل المؤامرة مستحيلة. ولذلك يتحاشى هؤلاء التفكير في الآليات حتى داخل دماغهم، ويعيشون حالة نفسية فيها هروب ذهني من هذا التساؤل. وهذه الظاهرة تبين مشكلة نفسية أخرى عند المؤامراتيين فحينَ يهرب للتفسير المؤامراتي إنما يبحث عن التبسيط والاختزال، وحين يتعرض للاستجواب عن الآليات يبدو الأمر أكثر تعقيداً منه لو قبل بالتفسير غير المؤامراتي، ولذلك تجتاحه حالة غضب لأنه أُجبر على الدخول فيما تحاشاه. تم تجريب ذلك مع الذين يتبنون مؤامرة خلف أحداث سبتمبر، وطلب منهم أن يشرحوا كيف نفذت أمريكا العملية فكانوا دائما يشعرون بالاستفزاز إذا عرض عليهم هذا السؤال، بل ويعترفون أنهم لا يريدون أن يفكروا فيه، ويزعمون أن لا حاجة للتفكير فيه من الأساس.


الكسل الفكري 

وفرع عن هذه الظاهرة أن الذين يلجأون للتحليل المؤامَراتي هم من الكسالى فكرياً وثقافياً حتى لو اشتهروا كمثقفين، وذلك لأن اللجوء للتفسير المؤامَراتي يختزل عليهم عناء البحث والمتابعة ومعرفة تفاصيل الحدث من جذوره وفهمه تاريخياً وسياسياً واجتماعياً .. الخ. 


وفي مقابل كسلهم الفكري فإن لدَيهم نشاط في الخيال المؤامَراتي لإكمال الصورة المؤامَراتية. فمثلا إذا كانت تداعيات الحدث ليست في صالح القوي الذي خطط المؤامرة المزعومة فهم يتبرعون بالدفاع عنه من حيث لا يشعرون باختراع تفسيرات خرافية لهذه التداعيات تؤكد المؤامرة، وغالبا ما يعتبرون هذه التداعيات جزءاً من التمثيلية التي يديرها القوي المتآمر لنتائج قادمة لم تتبين بعد ثم يستمر في نفس النهج حتى لو تتابعت التداعيات الضارة بالمُتآمر. 


الذين زعموا أن الربيع العربي مؤامرة لم تكن الثورة المضادة سبباً في تراجعهم بل زعموا أنها تأكيد للمؤامرة وتبرعوا بأسباب جديدة وتصورات لم يكونوا قد هيّأوا أنفسهم لها في الجولة الأولى. وبعض من يدّعون بأن أمريكا تعمدت ترك ابن لادن حياً وهي تعرف مكانه لم يجدوا عناءً في التعامل مع إعلان الأمريكان قتله، فاختلقُوا مؤامرة أخرى أنه لا يزال حياً، وأسيراً عند الأمريكان يستخدمونه عند اللزوم.


البراءة من المسؤولية

القناعة بقدرة الغرب والصهاينة على فعل كل ما يريدون وعَجز الأمة عن تغيير الأحداث ينتج عنها استحالة القدرة على التغيير ومن ثم إعفاء الذات من المساهمة في التغيير وتبرئَتها من الشعور بالمسؤولية أو توجيه اللوم أو الإحساس بالذنب على التقصير. وهذه القناعة قد تكون سببا ونتيجة في نفس الوقت، وبذلك توفر راحة نفسية لمن يحمل هذا التفكير ابتداء وانتهاء. 


وإذا كان من يحمل هذه القناعة قد برأ نفسه بهذه السهولة فإنه لا يتصور أن هناك من يستطيع تحدي التخطيط الغربي، وإذا ما فعلها غيره وتصدى للحلف الصهيوني الغربي فإما يتهمه بالتهوّر وإلقاء النفس إلى التهلكة أو يتهمه بأنه جزء من المؤامرة بشكل أو بآخر. 


لا يخجلون بعد الفضيحة

لا يبالي صاحب الفكر المؤامراتي إن تبين يقيناً أن التفسير المؤامراتي خاطئ، حتى لو كان هذا المفضوح من مشاهير المثقفين، بل إنه يستمر في نشاطاته الفكرية وكأن شيئاً لم يكن، ويفترض أنه لا يزال يحظى بنفس مستوى الاحترام الذي كان عليه. وسبب هذه اللامبالاة هو نفس الدافع الأصلي للتفكير المؤامَراتي وهو قناعته بقدريّة العجز والفشل عند الأمة، فلماذا يراعي المثقف سمعته أمام أمة عاجزة فاشلة؟ وهذا الشعور له ما يبرره، فكثير من مريدي ذلك المثقف هم بدورهم مُشرَبون للنظرة المؤامراتية، فلا يدركون الورطة الفكرية التي تعرض لها شيخهم أو أستاذهم، بسبب تشرّبهم ذلك العجز.


أسباب أخرى للتفكير المؤامَراتي

هناك من المثقفين من سلموا من الإصابة بقدرية العجز، ولديهم توازن نفسي وفكري لا بأس به، لكنهم لم يسلموا من مشاكل أخرى في تجردهم دفعتهم للتفكير المؤامراتي. من هذه النماذج، مثلا، مثقف يتبنى تحليلاً سياسياً قابلاً للتصور ويستشرف تطورات وتداعيات معينة بناء على معطيات سياسية واجتماعية وعسكرية طبيعية، ثم يمر الوقت وتأتي التداعيات عكس ما توقع، فيصاب بحرج، ويدعي أن ما حصل لا يمكن تفسيره إلا بمؤامرة . 


نموذج آخر، مثقف يقف من تيار أو جماعة أو شخص موقف الندية فيصبح لهذا الند شأن، فلا يريد أن يعترف له بجدارته، ولا يريد أن يقرّ بأن ما أنجزه هذا الند من عمل يده، فلا يجد غير التفكير المؤامراتي وسيلة في التقليل من شأنه. وفي نفس السياق فإن المنتمين لتيار معين معادٍ لتيار آخر أو لفكرٍ معين معادٍ لفكر آخر قد يختلقون مؤامرة لتشويه صورة خصومهم ثم يجري تداولها وكأنها حقيقة. ومثال ذلك اتهام الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" أنه مجند من قبل الجاسوس البريطاني "همفر" الذي التقى الشيخ -زعماً- في إحدى رحلاته، وتم تجنيده في لقاء عابر، والحقيقة أنه لا يوجد جاسوس بريطاني اسمه همفر مر بالجزيرة العربية، فضلاً عن أن يكون قد حصل لقاء بينه وبين الشيخ.


النتائج الكارثية للفكر المؤامَراتي

الفكر المؤامراتي ليس مشكلة فحسب، بل هو كارثة، لأنه يؤدي لليأس واستحالة السعي للتغيير ما دام الخصوم مسيطرين على العالم بكل هذه القدرة والتمكّن. و كنموذج لذلك تداول الكتاب المسمى (بروتوكولات حكماء صهيون) والإيمان بكل ما فيه، مع أن الكتاب ليس من صنع الصهاينة ولا اليهود بل مزوّرٌ عليهم، لكن الصهاينة فرحوا به، واستفادوا من انتشارِه، وطرِبوا بالأسَاطير التي نسجت عنه، وعن قتل المترجم وحرق المطبعة وشراء جميع النسخ، إلخ. 


وقد تتبع أكثر من باحث هذه القصص فتبين أنها خرافة، فلم يُقتل مترجم ولم تُحرق مطبعة ولا دار نشر ولم تُشترى النسخ، بل خدم الصهاينة نشر الكتاب، لماذا؟ لأنه يضاعف الشعور باليأس عند المسلمين، فقارئ الكتاب يخرج بنتيجة واحدة، وهي ما دام الصهاينة لديهم كل هذه القدرة في التحكّم بالعالَم شرقه وغربه، فماذا عسى أن نفعل نحن الضعفاء؟ 


وقد شرح الدكتور المسيري رحمه الله قصة الكتاب كاملة في كتابه (البروتوكولات واليهودية والصهيونية) ، وأثبت أنه من إعداد المخابرات الروسية في القرن التاسع عشر والكتاب ليس إلا إعادة لصِياغة حوار متخيل بين مونتسكيو وميكافيلي بعنوان "حوار في الجحيم"، وكان الهدف تجييش الشعب الروسي ضد اليهود في ذلك الزمن. 


كيف نُعالج الفكر المؤامراتي 

الفكر المؤامراتي حالة نفسية جماعية يصعب علاجها بالإقناع، سواء كان إقناعاً خاصاً بحوار فرديّ، أو جماعياً في الإعلام والمقالات، ولا يمكن القضاء على هذه الظاهرة إلا باستعادة المسلمين لقوتهم وشأنهم. لكن هذا التخلص لن يكون دفعة واحدة، بل سيكون من ذات الصراع الذي يبذله المسلمون لاستعادة شأنهم. وكل خطوة يؤديها المسلمون في إنجاز حقيقي ضد الهيمنة العالمية للقوى الكبرى ستكون كسراً لحاجز نفسي آخر أمام المؤامَراتية.



bottom of page