top of page

١٣ صفر ١٤٤٦ هـ

الدولة والوطن والشرعيّة في الإسلام مقابل الدولة الحديثة

بقلم الدكتور سعد الفقيه

كثير ممن تحدث في الفكر السياسي الإسلامي وشرعية السلطة، واستَخدموا مصطلحات البيعة والطاعة والخروج  إنما انطلقوا في حديثهم على أساس فهمهم لمصطلحات "الدولة" و "الوطن" و "الشرعيّة"، بناء على تصورهم بإدراك أو دون إدراك للدولة الحديثة التي استقرت بمفهوم ونظام وثوابت مختلف عن المفاهيم القديمة للدولة.  ومع طول أمد تجربة الدولة الحديثة انسجم قالب الدولة الحديثة مع محتواه وتم تطبيقه بثقة وواقعية واستقر على أساس أن هذه التشكيلة هي قدر البشر فلم ينتبه الكثير من الباحثين أنهم يفكرون داخل إطار هذا التصور.


هذا الاستقرار صنع تحديا أربك الكثير من المفكرين والعلماء المسلمين، ولم يفطنوا للعلاقة بين القالب والمحتوى، وتعاملوا مع علم السياسة في تصور ينطلق من نفس التشكيلة والقالب الغربي الذي صار عالميّا. وتعامل معظم المفكرين وعلماء الدين من خلاف غفلة جماعية ينزّلون فيها مبادئ الفكر السياسي الإسلامي على منظومة و مفاهيم الدولة الحديثة.


في هذا المقال بيان للفَرق بين التكييف الأصلي الذي بنيت عليه مبادئ الفكر السياسي الإسلامي في تخيل مفهوم الدولة مقابل التكييف الدارج حاليا من قبل كثير من العلماء والمثقفين الإسلاميين. والحديث هنا ليس إصدار لفتوى ولا بيان موقف بل هو توضيح لمنع اللبس المنهجي وطريقة التفكير.


الفرق في مفهوم "الكيان"

الكيان السياسي في المفهوم القطري الحديث هو "الوطن"، المبني على حدودٍ ثابتة معترف بها عالميا، والسكان داخل هذه الحدود، هم الشعب الذي تتشكل من خلاله شخصية ذلك الكيان. والولاء والانتماء لهذا الوطن يترجم بمسؤولية الدفاع والعطاء تجاه هذا الوطن والالتزام بقوانينه، وأما الانتماءات الروحية واللغوية والعرقية فليس لها دور في العطاء والمسؤولية والدفاع، بل هي انتماءات ثانوية يجب أن لا تقدح في الانتماء للوطن. وهذا الوضع يسري على كل الدول سواء الديمقراطية منها أوالمستبدّة ولا يستثنى إلا دولة إسرائيل القائمة على خدمة المشروع الصهيوني وتفضيل ديانة محددة على الديانات الأخرى.


أما في الإسلام، فالكيان الإسلامي ليس له حدود، والتجمع البشري المحسوب على هذا الكيان لا يسمى شعباً، بل يسمى أمة، لأن الأمة لها مدلول عقائدي أوسع من مدلول الشعب. ومفهوم الأمة في الإسلام إضافة لكونه معنوياً روحياً فهو في الأصل تجمع بشريٌّ واحد تحت قيادة واحدة في كيان سياسي لا يتوقف عن النمو أبداً، ويجمع عدداً من الشعوب تحت مظلته. وفي الظروف التي لا تستطيع الأمة الاجتماع تحت قيادة واحدة، يبقى الانتماء الروحي والعقدي والمعنوي لأمة الإسلام، كما يبقى التطلع لتوحيد القيادة والكيان السياسي.


الفرق في مفهوم الدولة والسلطة

مفهوم الدولة الحديث مبني على منظومة إدارية شاملة  لا يخرج عن نفوذها شيء داخل حدود قطر معين. بمعنى آخر فإن الدولة هي كل السلطات الثلاث والمجتمع ليس إلا كيانا بشريا يعيش داخل وعائها، وبهذا يكون المجتمع كله داخل الدولة، وليست الدولة داخل المجتمع. وسواء كان النظام دكتاتورياً أو ديمقراطيا، فالدولة تمارس حق التشريع والقضاء والتنفيذ، ولا يمكن أن يخرج عن سلطتها شيء من نشاط البشر، بما في ذلك الشؤون التربوية والخيرية والتعليمية التي تخضع بشكل مباشر أو غير مباشر للدولة.


هذا المفهوم للدولة هو الذي تشكلت به كل دول العالم منذ عدة قرون واستقرّ في الوجدان حتى أصبح هو التصور الوحيد للدولة، ولا يخطر في بال الكثير أن هناك مفهوما آخر لها. هذه النمطية لمفهوم الدولة ليست إشكالية عند من يسمى بالإسلاميين التنويريين فقط، بل هي إشكالية حتى عند "السلفيين". وكثير من الإسلاميين يناقش وينافح عن المشروع الإسلامي منطلقاً من تصور لهذا المفهوم للدولة المخالف للمفهوم الإسلامي للدولة.


مفهوم الدولة في الإسلام أصغر من ذلك بكثير، فالدولة ليس لها إلا سلطة الدفاع والأمن وتنظيم الخدمات فقط، وبعض الأمور التنفيذية الأخرى مثل جباية الزكاة الخ. أما التشريع وتحديد الخطأ والصواب والواجب والممنوع فليس للدولة منهُ نصيب، وأي تدخل في شؤون التشريع إنما هو إلغاء لشرعية الدولة. والكلام ذاته يندرج على النشاطات الخيرية والتربوية والتعليمية، فهذه من شؤون المجتمع والدولة ليس لها إلا حق الإشراف.


ولأن التشريع في الإسلام خاضع لتنزيل الكتاب والسنة على الوقائع، صار التشريع بالضرورة من مهام العلماء.  والعلماء لا يمكن أن تتبين مصداقيتهم في المرجعية إلا بمدى نجاحهم في الاختبار المجتمعي، ولذلك فإن التشريع في نهاية المطاف هو نتاج هذا الارتباط المجتمعي بالعلماء وليس بالسلطة. ونزع التشريع من الدولة يلحقه نزع سلطتها في القضاء، وحصره سلطتِها في تعيين القضاة وضمان أدائهم لمهمّتهم ثم تنفيذ أحكامهم، وليس في وضع القوانين أو إنشاء إجراءات قضائية.


وبهذا المفهوم فإن الدولة الإسلامية مهما بلغت من الاستبداد في التفرد بسلطة الحكم التنفيذي لا تستطيع مصادرة حق التشريع وإلّا سقطت عنها صفة الإسلامية. وقد مرت ممالك إسلامية بعد الخلافة الراشدة بفترات استبداد وقمع شديد لكن لم يجرؤ الحكام على مصادرة حق التشريع من المجتمع ولم يتمكنوا من إلغاء دور العلماء. والدول التي تسمى إسلامية حاليا إنما لها تركيبة الدولة الحديثة التي ابتلعت المجتمع وأصبح العلماء بالضرورة مرسّمين فيها ترسيماً مهما حاولوا الاستقلالية.


الفرق في مفهوم الشرعية

الشرعية في الدولة الحديثة لها مستويان، الأول شرعية عالمية متمثلة في الاعتراف الدولي وهذه مرتبطة بكون الدولة عضواً في الأمم المتحدة وهي شرعية مختلفة عن الشرعية الثانية المرتبطة بمدى انعكاس إرادة الشعب على تركيبة السلطة والشخصيات النافذة فيها. هذه الشرعية الداخلية ليست منطلقة من ثوابت أو قيم أو عقائد بل خاضعة لتكييفات أخرى أكثرها قبولاً هو مدى تمثيل السلطة للشعب.


في المقابل فإن مفهوم الشرعية في الإسلام مفهوم ديني يحتوي على مجموعة من الثوابت الواضحة، وله دلالات روحية، وفيه مسؤولية أمام الله سبحانه. والسّعي لتحقيق نظام شرعي بالتعريف الإسلامي واجب على المسلمين يؤجر الساعي له ويأثم المقصر عن السعي له، ثم بعد تحقيق الشرعية يصبح الالتزام بإطاره وطاعة المؤسسات التي تمثل الحكم واجباً كذلك يؤجر فاعله ويأثم تاركه.


والشرعية في الإسلام مرتبطة مباشرة بتحقيق المقاصد التي شرعت من أجلها الإمامة وفرض من أجلها الحكم في الإسلام، فإذا تحققت هذه المقاصد في الكيان وفي النظام صار شرعياً وإذا لم تتحقق فليس بشرعي. هذه المقاصد محددة بالنصوص الشرعية الثابتة، ولا مجال فيها لتقويم بشري أو لتصويت شعبي. ويمكن تقسيم هذه المقاصد إلى مجموعتين بقدر اشتراط وجودها للشرعية:


المجموعة الأول متفق على وجوبها وأنها شرط للشرعية ولو غاب أحدها سقطت الشرعية


١ـ أن تكون الدولة المسلمة كياناً واحداً يجمع المسلمين إلا اذا استحال ذلك.

٢ـ أن لا يحكم القضاة إلا بناء على ما جاء في الكتاب والسنة

٣- أن يكون كل شي في هذه الدولة خاضعاً للقضاء المستقل.

٣ـ أن يكون الإسلام أساس علاقة الكيان الإسلامي مع الكيانات الأخرى.

٤ـ أن تكون السلطة محققة للواجبات التي لا تحققها إلا السلطة وعلى رأسها حماية الثغور والشعائر الجماعية مثل الجُمع والجماعات والحج وغيرها

٥- أن تكون السلطة مانعة للأمور المحرمة الظاهرة التي لا تمنعها إلا السلطة مثل الربا والدعارة والقمار والبيوع المحرمة .. الخ.


المجموعة الثانية متفقُ على وجوبها ومُختَلفٌ على كونها شرطاً للشرعية

١- أن تكون قيادة هذه الدولة منبثقة من اختيار الأمة ورضا الأمة (بانتخاب أو أي وسيلة أخرى) وخاضعة لمحاسبتها (سواء ببرلمان أو بأي وسيلة أخرى).

٢ـ أن تكون الدولة محققة للعدل بمفهومه الشامل: العدل أمام القضاء والعدل في النصيب من المال العام والعدل في فرص العمل .. الخ.

٣ـ أن تكون الدولة محققة للأمن بمفهومه الشامل: الأمن الجنائي والأمن القومي والأمن الاجتماعي والأمن الفكري .. الخ.


الفرق في الثوابت القيم والأخلاق وعلاقتها بالسياسة

فكر الدولة الحديثة قائم على أساس غير متحيز لأي قيمة أو مبدأ أو أخلاق وليس من مهمته خدمتها. وحتى في الدول الديمقراطية فإن فكرة الأكثرية فكرة رقمية ليس لها بُعدٌ قِيَمي ولا قدسية إنسانية.  وملحَظ آخر هو أن المرجعية العلمانية للدولة الحديثة ليس فيها إلا الواجبات والممنوعات ولا وجود لمفهوم الفضيلة أو المندوب وليس فيها مفهوم المكروه والمذموم.


النظام السياسي الإسلامي في المقابل زاخر بالمبادئ والقيم غير الخاضعة للنقاش، والتي يجب على الأكثرية والأقلية الالتزام بها بشكل مطلق. قوة هذه القيم والأخلاق والمبادئ تأتي من أن مصدرها هو الوحي، لأنه مصدر التشريع في الإسلام كله عبادة وسلوكاً وحياة وله القدسية الذاتية المستغنية عن أي دعم بشري.


النقطة الأهم في قضية المبادئ والقيم في الإسلام، هي أنها مرتبطة بالنظام السياسي ارتباطاً تبادلياً، لا يستغني فيه أحد الطرفين عن الآخر. النظام السياسي يحتاج هذه القيم والأخلاق حتى يحقق الانضباط الاجتماعي والتكافل والمسؤولية تجاه الأمة والكيان العام من خلال شعور الأفراد بأن المسؤولية تجاه  النظام والقانون فيها أجر وإثم. وفي المقابل فإن القيم والأخلاق تحتاج النظام السياسي لأنه يساهم في سيادة القيم المقدسة وتنفيذ الواجبات ومنع المحرمات وتشجيع الفضيلة وحمايتها.


هل تبين الفرق؟

بعد هذا الاستعراض يتبين أن الإشكالية منهجية في أصل تناول الموضوع، وفي تصور مفهوم الدولة والشرعية والثوابت والقيم. ومن يريد أن ينزّل الموروث السياسي الإسلامي على مفهوم الدولة الحديثة دون اعتبار لهذه الفروق فإنما يعتسفها اعتسافا خاطئاً أدرك أو لم يدرك.


ولا يمكن أن يعود الطرح الإسلامي للتماسك إلا بعد تصور أصل التركيبة الإسلامية في مفهوم الدولة والمجتمع والأرض والتشريع والهوية. وهذه لن تتحقق من خلال التكلف بمجاراة الواقع، بل تتحقق من خلال إعادة ذكية وواعية ومدركة للمحتوى العظيم لهذا الموروث، ووضعه في قالَبِه الصحيح.


bottom of page