٤ ربيع الآخر ١٤٤٤ هـ
السيرة النبوية خارطة طريق
بقلم الدكتور سعد الفقيه
تُقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم إما لمعرفة التاريخ، أو لأخذ الدروس والعبر، أو حتى للأنس بقصصها الرائعة ومواقفها العظيمة. لكن هناك لفتات في السيرة ربما غفل عنها الكثير لعلنا نتناول بعضا منها:
اللفتة الأولى: أن الذين يدرسون السيرة باهتمام ومعايشة تتشكل لديهم غالبا شخصية متوازنة، فالذي يتشبع بمعاني السيرة إنما يتأسى بالقدوة المثالية والأخيرة التي ليس وراءها قدوة. ولهذا كانت السيرة حصانة ضد الإفراط والتفريط وموازنة بين مثالية المبادئ والأهداف وواقعية التطبيق والممارسة. وكلما اجتهد الدارس للسيرة بهذا التأسي كلما سلم من آفة الغلو وآفة تمييع الدين، وسلم أيضا من الأخطاء المنهجية والشبهات الأهوائية.
اللفتة الثانية: أن في السيرة تتجسد ترجمة النصوص إلى حياة وحركة، على مستوى الفرد المتمثل في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ترجمتها على مستوى المجتمع، مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، ثم على مستوى الدولة، فأنت أمام النموذج التطبيقي الشامل الذي صار حقيقة على أرض الواقع، وحصل بطريقة مرنة تصلح لكل زمان ومكان، وليست محصورة على ظرفها الخاص وبيئتها الخاصة.
وبهذا فإننا أمام مرجعية نحتكم إليها ونقيس فيها تصرفاتنا، وتصرفات الأهل، والمجتمع، والدولة، ولعل هذا أحد أهم المعاني لقوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}، أي أنتم يا مجتمع الصحابة شهداء على الناس، أنتم المرجع والمسطرة تقاس عليهم تصرفات بقية المجتمعات، والرسول عليه الصلاة والسلام هو شاهد عليكم وعلى الناس كأفراد، فهو المرجع النهائي لأي فرد آمن به.
اللفتة الثالثة: دقة وشمول ذلك التدوين الهائل والمفصل للسيرة، فأولا تدوين الخط الزمني للنبي عليه الصلاة والسلام منذ ما قبل ولادته إلى وفاته ممتليء بكل تفاصيله. فلا يوجد بشر -باعتراف كل الثقافات- وضع له هذا الخط الزمني بكامل تفاصيل حياته إلا محمدا عليه الصلاة والسلام،. وثانيا تدوين كل أفعاله وأقواله وسكوته ووصفه الجسدي ولباسه ونعله وحركته وابتسامته وضحكته ومشيته وغضبه وفرحه وحزنه وحياته العائلية وحياته مع الجيران والأقارب وفي الحرب والسلم فضلا عن عبادته. ولعل هذا من الإعجاز التشريعي أن تُدوّن كل هذه التفاصيل وتُحفظ لنا بعد كل هذه القرون، لماذا؟ لأن الذي كلفنا بالاقتداء بمحمد عليه الصلاة والسلام هو الذي يسر للأمة هذا التدوين فصار من كمال التشريع أن نؤمر بالاقتداء بقدوة ثم نعطى كل التفاصيل التي نحتاجها في هذا الاقتداء. وثالثا تدوين أسماء الآلاف من صحابته بل وتدوين معالم مهمة من نشاط كل منهم مثل تحديد الغزوات التي حضرها، وبماذا تميز في العلم والفقه والجهاد والفضل، ومتى وأين ولد ومتى وأين مات أو استشهد، وبعضهم وصلنا حتى وصف شكله ومظهره.
اللفتة الرابعة: لماذا مكة؟، ولماذا العرب؟، ولماذا محمد عليه الصلاة والسلام؟. الاختيار الرباني هنا ليس لجنس بشري أو عنصر متفوق أو جينات نادرة، بل هو لمبررات حضارية تاريخية ندركها في نوعية الجيل الذي حمل هذه الرسالة. كان لا بد لهذه الرسالة أن يحملها بشر مؤهلون لحملها في صفاتهم النفسية والأخلاقية. ولهذا كانت الدراسة الصحيحة للسيرة تبدأ قبل البعثة لكافة البشر وخاصة العرب. كان لا بد أن تتهيأ الأرض كلها لبعثة هذا النبي العظيم. لم تكن الجزيرة العربية تحت سلطة حاكم واحد، ولم يكن فيها سلطة مركزية، بل كانت قبائل متفرقة، الأمر الذي أعطى سكانها درجة من الحرية والكرامة والعزة أعلى ممن يحيط بهم من الشعوب المحكومة بملوك وسلطة مركزية. أما مكة فكانت في مستوى أعلى من ذلك فلم يكن فيها حتى رئيس قبيلة، بل كان يسيّر أمورها مجموعة من السادات المتفاهمين دون ترؤس واحد منهم، فكان هذا سببا في أعلى درجات الحرية والعزة والأنفة والثقة بالنفس والقدرة القيادية. ولهذا حين ساد الإسلام صار القرشيون هم الأمراء بشكل طبيعي لأجيال طويلة.
وبديلا عن السلطة المركزية عظّم العرب الأخلاق الحميدة متمثلة في الكرم والمروءة والشجاعة والأنفة والوفاء والصدق والأمانة، والتي ساهمت في تحقيق توازن اجتماعي قلّل الحاجة لقانون وسلطة. ولكل واحدة من هذه الأخلاق الحميدة قصص من حياة ما قبل الإسلام تدل على تعظيمها. هذه الأخلاق هي تهيئة أخرى لحمل الرسالة حتى تتجسّد التربية الإسلامية المتكاملة فيهم. وفي هذه الأخلاق أيضا كانت تتفوق مكة مما جعلها سببا في اجتماع سادة منها على منع الظلم ونصرة المظلوم وسببا في أداء الحقوق رغم غياب أي سلطة.
وأعظم من هذا اصطفاء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من بينهم، أولا لما وضع الله فيه من صفات جسدية وذهنية وفصاحة، وثانيا لما فطره الله عليه من خُلق وأدب، وثالثا لأن أصله من قلب قريش ومن أفضل بيوتها، فهو من قريش التي تعظمها العرب ومن بني هاشم الذين تحترمهم قريش، فهو حفيد قصي بن كلاب مؤسس قريش ثم حفيد لساداتها هاشم وعبد المطلب.
هذا الاختيار و التأهيل الإلهي يجعلنا ندرك أن السيرة ليست تاريخا مجردا لشخص ، إنما هي إعداد شامل للأمة يتوج بهذه الشخصية المتفردة في التاريخ والتي وصلت أعظم التأهيل بقوله تعالى {وإنك لعلى خلق عظيم}، فالله خالق الكون، ومنزل الوحي، العظيم، الجبار، المهيمن يخاطب بشرا بهذا الخطاب العظيم. وهنا يليق بنا أن نستعير من سيد قطب تعليقه على هذه الآية: "إن إطاقة (تحمل) محمد - صلى الله عليه وسلم - لتلقي هذه الكلمة، من هذا المصدر، وهو ثابت، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - ولو أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب.. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن.. هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل."
اللفتة الخامسة: أن السيرة إذا تأملتها جيدا تجد أن صاحبها بصفاته البشرية وتعامله مع أمور الحياة يمثل واقعية هذا الدين كمشروع للبشر، يتفاعل مع القدرة البشرية المحدودة والأحداث الطبيعية دون تغيير السنن الكونية إلا ما كان من معجزات لبرهان الرسالة. فالنبي صلى الله عليه وسلم انتصر بعد جهد بشري وصراع ومعاناة في الفترة المكية والمدنية. كان الله قادرا على أن ينصر رسوله دون مصاعب، ولكنه أراد لهذه الرسالة أن تتم بالقدرات البشرية، وإلا لما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة، و ثماني سنين في المدينة حتى يصل لمرحلة فتح مكة. ينتظر صلى الله عليه وسلم كل هذه السنين ويستخدم الوسائل والإمكانات البشرية ، والتدريب، والتخطيط، ويأخذ بالأسباب المعروفة، كي يهيمن هذا الدين.
في السيرة أحداث فيها آلام ومصائب كما حدث في أحد، وحصار الخندق، وكادت أن تلحق الهزيمة بالمسلمين في حنين، وتعرض المسلمون للغدر في حادثة بئر معونة وفي حادثة الرجيع، وكاد المسلمون أن يتواجهوا فيما بينهم في أكثر من واقعة لولا تدخل النبي صلى الله عليه وسلم. إذن فهو منهج للبشر من حيث تعامله مع الأحوال والأوضاع البشرية ومن حيث واقعيته وتعامله مع كل مناشط البشر ويتفاعل مع كل مكابدة بشرية. وعلينا أن ندرك هذا الأمر اذا أردنا التأسي بالسيرة؛ علينا أن نتحمل التحديات والمشاكل والصعوبات ولا نستغربها، فلو كان هناك من له حق أن يؤتى النصر والتمكين بمعجزات وخوارق، لكان رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وتماشيا مع كونه منهجا واقعيا يتعامل مع حياة البشر نجد أن القرآن تنزل مع الأحداث وعايشها، والصحابة تدربوا وتربوا وجاهدوا مع نزول القرآن فكان هذا التنزّل على مُكث تأكيدا لواقعية المشروع في تعامله مع أحوال البشر المختلفة.
اللفتة السادسة: تمام الكمال البشري في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فهو وإن كان يوحى إليه وعلى خلق عظيم ولا ينطلق عن الهوى وكل قوله وعمله وتقريره دين، فقد كانت لديه الرغبات والمشاعر والآلام البشرية. فحينما أسر صهره ابن العاص زوج ابنته زينب، أرسلت زينب عقداً لأمها خديجة تفتدي به زوجها، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم العقد؛ فرق قلبه لذكرى خديجة وقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا). وهو الذي قال عن نفسه: (حبب إلي من دنياكم النساء، والطيب)، لاحظ أنه قال "دنياكم" وليست دنياه، فهو إنما جعلت قرة عينه في الصلاة. فهذا إعلان واعتراف من النبي صلى الله عليه وسلم أن لديه ذلك الميل الفطري الطبيعي، وليس الميل المنحرف حاشاه عليه الصلاة والسلام، فهذه بشرية محمد عليه الصلاة والسلام المتفقة مع كمال عبوديته لله. وقد نص القرآن أنه رغم تسديد الله له فإنه لا يعلم الغيب "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء" . ومع عصمته واستحالة أن يقره الله على خطأ فقد قال في تأكيد بشريته " ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها "، فإذا كان هذا القدوة بكل هذه البشرية فالمتأسي بالسيرة عليه أن يقدر أثر النوازع البشرية ولا يتوقع ملائكية في المسلمين حتى لو كانوا من أفضل العلماء أو الدعاة أو المجاهدين.
واتساقا مع بشرية النبي صلى عليه وسلم فقد كان مجتمع الصحابة -رغم تفوقه وتفرده في التاريخ- مجتمعا بشريا يصيبه ما يصيب البشر. كانت هناك انتكاسة حينما خالف الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، والقرآن أثنى عليهم و زكاهم ومع ذلك قال عنهم:{منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}، والآية لا تعني أنهم يريدون الدنيا بالمطلق، وإنما أرادوها في تلك اللحظة، فبين القرآن ذلك تأكيدا لبشريتهم وتعليما لنا أن ذلك قد يقع من أفضل الناس ولذلك بشّرهم بالعفو عنهم. ونموذج آخر حين انكفأوا في حنين ولم يثبت مع الرسول عليه الصلاة والسلام إلا عدد قليل من الصحابة. وقبل ذلك المواجهة التي حصلت في غزوة {بني المصطلق } بين الأنصار والمهاجرين وتداركها النبي صلى الله عليه وسلم.
وبقي هذا النموذج الراقي بعد وفاة النبي صلى عليه وسلم على مقتضى تعليمه وتربيته لهم، ومع ذلك فهم بشر يصيبون ويخطئون، فقد كاد المهاجرون والأنصار أن يختلفوا في حادثة السقيفة فاحتووا الخلاف وحسموا أمر الخلافة. ولم تصل الخلافات للسيف والدماء إلا بعد أن كثر الجيل التالي للصحابة، ولكنهم رغم القتال بينهم لم يكفر بعضهم بعضا، لأنهم من خلال التربوية النبوية يعلمون أن خلافهم سياسي لا يقدح في عقيدتهم. ومن الطرائف ما ورد أن معاوية بن أبي سفيان كان يقدم رأي علي بن أبي طالب على رأيه في الفتيا والقضاء في مسائل ليس لها علاقة بخلافهما السياسي؛ بل ويعترف أنه أعلم منه.
اللفتة السابعة: أن السيرة تؤكد عظمة توازن الأخلاق عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان شجاعا من غير تهور وحذرا من غير جبن و كريما من غير تبذير و مقتصدا من غير بخل وعزيزا من غير كبر ومتواضعا من غير ذلة. ومع أنه كان من أشد الناس حلما وأدبا بشهادة القرآن (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) فلم يمنعه ذلك من الغضب في موضع الغضب ولا الشدة في موضع الشدة، كما جاء في قصة ابن صياد وقصة الذي رفض الأكل بيمينه وقصة العرنيين. ولذلك فإن من يبذل جهده في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم يعلو في درجات التفوق الأخلاقي و التجرد في التصرفات والمواقف على قدر علمه وحرصه على التأسي به صلى الله عليه وسلم.
اللفتة الثامنة: أن السيرة تدلنا على ابتلاء خاص لا يبتلى به إلا الأنبياء وفي مقدمتهم خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وهو الابتلاء بطول الأمد واليأس من حصول المراد، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث ومعه كل مبررات التصديق والإيمان به، فقد كانت قريش متفقة على تفوقه الخلقي وصدقه وأمانته وكانت مقرة بعلو نسبه وسمو شرفه وشخصيته الآسرة، ثم إنه تحداهم بالقرآن الذي لم يستطيعوا أن يؤلفوا ولو سورة واحدة مثله، ومع ذلك ما آمن معه إلا بضع مئات، وحوصر في شعب أبي طالب، وذهب إلى الطائف فطردوه و سلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم، ومع ذلك لم يمل ولم ييأس، بل ازداد إصرارا، وكان مستعدا لأن ينتظر حتى يخرج من أصلابهم من يتبع دعوته. هذا النوع من الابتلاء هو أشد أنواع الابتلاء كما قال تعالى (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) قال ابن عباس "استيأس الرسل من قومهم وظن قومهم أن الرسل قد كَذبوا جائهم نصرنا"، فقد ثبت الكثير أمام امتحان التعذيب والسجن والبلاء في المال والولد وغيرها لكن لم يثبتوا أمام ابتلاء التيئيس.
اللفتة التاسعة: أن السيرة تعلمنا كيف استثمر النبي صلى الله عليه وسلم الظروف واستخدم ما يقتضيه الحال من خداع الأعداء والتورية عليهم، فقد استطاع أن يحاصر مكة اقتصاديا، إلى إن رغبت قريش بالهدنة، وكان يقدم تنازلات لا تتعارض مع مبادئ الدين، مثل عرضه -في الأحزاب- أن يعطي غطفان ثلث ثمار المدينة؛ وذلك كي يكف شرهم حتى يتفرغ لليهود وقريش، ومثل رضاه بشروط في صلح الحديبية بدت وكأنها تفريط في حق المسلمين، فهذه أنواع مما يسمى مناورة لا تتعارض مع المبادئ والثوابت الكبرى. ثم النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي ما يتعلق بالصيت والسمعة والرأي العام، فحين طلب أحد الصحابة الإذن بقتل أحد المنافقين قال عليه الصلاة والسلام: " لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه". ومثل ذلك تركه صلى الله عليه وسلم أمورا فيها خير وفضل سدا للذريعة وخوفا من فتح باب شر مثل تركه إعادة بناء الكعبة. ولهذا فلا يجوز أن يفترض الساعون لتمكين هذا الدين أن إخلاص نيتهم واجتهادهم في العبادة والدعوة يكفل لهم تمكينا بل لا بد من التخطيط والحيلة والمناورة.
هذه هي السيرة، خارطة طريق للفرد كي يتوازن في شخصيته، وخارطة طريق لكل جماعة أو مجتمع تصبوا إلى انضباط واستقامة في عملها الجماعي، وخارطة طريق في معايشة الحياة بواقعها وتحدياتها الطبيعية مع الإبقاء على التطلع نحو الأكمل والأمثل والالتزام بالثوابت، وخارطة طريق في طول النفس ومقارعة اليأس والقنوط، ونجاة لكل فرد أو جماعة تتشبع بما جاء فيها.