top of page

١٠ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ

العلمانيون العرب على المحك: الجزء الأول

بقلم الدكتور سعد الفقيه

من حسنات الربيع العربي أنه كشف حقيقة توجهات النخب، وخاصة النخب العلمانية ومدى صدقها في تبني الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم الكرامة والعدالة والحرية. كان تصنيف النخب العلمانية معلوماً لِلعارفين والمطلعين، لكنه بعد الربيع العربي صار واضحا للجميع بعد أن اضطرهم الوضع السياسي الجديد لكشف كل أوراقهم. ثم جاءت أحداث السابع من أكتوبر وما بعدها لتكشف آخر فضائحهم ومواقفهم.


أصناف مشاهير العلمانيين العرب :

العلمانيون العرب ليسوا نسيجاً واحداً، بل هم عدة شرائح يمكن تصنيفها من خلال عقيدتهم الفكرية ورؤيتهم للشرق والغرب وتعاملهم مع الدين وتحديدهم لحِلفائهم وخصومهم. ومن خلال هذه المنطلقات يمكن تصنيفهم إلى المجموعات التالية:


الشريحة الأولى تمثل الغالبية العظمى، وهم النخب التي تتبنى الليبرالية الغربية، والذين اصطفوا بقوة مع الثورة المضادة ودعموا الأنظمة المبالغة في الاستبداد والظلم والفساد، وأعلنوا بصفاقة أن هدفهم الأول والأخير هو القضاء على الدين في المجتمعات العربية. وهؤلاء لهم تمكين في معظم المناصب الحساسة قبل الربيع العربي وبعده وهم حلفاء قدامى للسّلطات القمعية و خادمون لمرادها و يدورون في فلكها مهما بلغ قمعها واستبدادها.


الشريحة الثانية هم النخب العلمانية اليسارية التي كانت تدعي القومية والدعوة لاستقلال الشعوب من نفوذ الاستعمار ومناهضة النفوذ الأمريكي، ثم إذا بها تصطف مع الثورة المضادة وخاصة مع النظامين الطائفيين في سوريا والعراق ومع حزب الله وسلطة صنعاء بكل ما تمارسه هذه الأنظمة والسلطات من قمع وطائفية وطغيان. والأغرب من ذلك أنها رغم زعمها العروبة والاستقلال تؤيد الاحتلال الروسي لسوريا وتدافع عن التغلغل الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن. 


الشريحة الثالثة يمثلها مجموعة من العلمانيين الصادقين في تبني الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، وقد سجن بعضهم وتغرب بعضهم وعانوا مثل ما عانى الإسلاميون. وهذه الشريحة أقلية صغيرة بين العلمانيين العرب ويمكن تجاهلهم في الاعتبار النسبي والإحصائي. وهؤلاء لا شك يختلف المسلم الملتزم معهم في منطلقاتهم المناقضة للدين، لكن يحترم صدقهم وانسجامهم مع أنفسهم ونضالهم ورفضهم للظلم والفساد والاستبداد. 


الشريحة الرابعة يمثلها مجموعة من لديهم بقايا عاطفة إسلامية وشيء من التعظيم لثوابت الدين، ومالوا للعلمانية عن غير قناعة شمولية بها وإنما بعد أن رأوا هذا الكم من تمجيد الطغاة باسم الدين والتلاعب بالنصوص من أجل تطويع الشعوب للسلطة المستبدة والتناول الارتِزاقي للإسلام بطريقة ساذجة ومنفرة وبعيدة عن تطلع المجتمع. وهذه الشريحة بدأت تنكمش حين عرفت حقيقة العلمانيين العرب، وتمكنت من معرفة النماذج الصادقة في تمثيل الدين بعد انتشار وسائل التواصل، وشدّها كميّة التضحيات التي قدمها الإسلاميون من أجل القضاء على الظلم والاستبداد. ولأن كثيرا من المنتمين لهذه الشريحة إما عادوا للدين أو في طريقهم للعودة إليه فليس من العدل أن يصنفوا مع النخب العلمانية. 



كيف نجادل العلمانيين العرب؟ 

بعد معرفة هذه الشرائح وطبيعة المواجهة، وبعد الخروج من هيكلية التفكير المفروضة علينا في الإعلام والتعليم، يمكن مواجهة الطرح العلماني بكل اقتدار، باستحضار مجموعة من النقاط التي تضمن هزيمة الفكر العلماني بكفاءة بالغة:


أولا: المتصدي للطَرح العلماني من الأفضل أن يكون عارفا بالمبادئ الأساسية للفكر العلماني، وخاصة المذهب الليبرالي، ومهتماً على وجه الخصوص بحقيقة تطور مفهوم العلمانية، كما يفضل أن يتأكد من فهمه للتفريق بين العلمانية الشاملة المنتشرة في العالم كله والعلمانية الجزئية التي لم يعد أحد يتبناها الآن، إلا ربما من ورد ذكرهم في الشريحة الرابعة.


ثانيا: استحضار حقيقة أن العلمانية مهيمنة ومسيطرة، وأن الذين يتبنونها على مستوى العالم فخورون بها، ويطرحونها على أساس أنها هي الحضارة وهي المرجعية. فليس من الحكمة أن يبنى الجدل على أن الليبرالية أو العلمانية تنحسر وتنهار بسبب الانهيار الخلقي والاجتماعي وانتشار الشعبوية، وذلك لأن السيطرة العلمانية ومرجعيتها لم تتأثر بهذه العوامل بل إنها نقلت هذه العوامل إلى المجتمعات الإسلامية.


ثالثا: إدراك أن العلمانية لا تعني الديمقراطية بالضرورة، فالنّازية والشيوعية أشكال ونماذج من العلمانية. ثم إن التشريعات الجديدة في أمريكا وأوربا، من أجل ضرورات أمنية ومن أجل مصلحة إسرائيل، دليل على أن المصلحة و تأثير اللوبيات مقدم على المبدأ. وحتى مع التسليم بالديمقراطية، فإن المساواة والحرية وحقوق الإنسان المزعومة، ليست للعالم كله، بل هي لبلدان معينة وشعوب محددة وأما بقية العالم فيجب أن يبقى تحت الظلم والبطش، حتى يُؤمّن لهذه الجماعة مصالحها.


رابعا: يلاحظ لدى العلمانيين والليبراليين العرب وخاصة في بلادنا، رعب من اتهامهم بالتشكيك في أصل الدين، ولذلك يحاولون التهرب من كون العلمانية أو الفكر الليبرالي، أو على الأقل الطرح الذي يطرحونه، يناقض أصل الدين، وهذه تشكل نقطة ضعف واضحة لديهم. أما الذين يصرحون بالكفر وعدم الإيمان بالدين فليسوا مشكلة، لأنّهم مكشُوفون ابتداء، ولا حاجة للتصدي لهم لأن المجتمع ينفر منهم تلقائيا.


خامسا: معظم مشهوري النخب العلمانية والليبرالية منافقون انتهازيون، متحالفون مع الأنظمة، وتوجد أدلة وشواهد عليهم في التنظير للأنظمة التي تضعهم في خانة ضيقة تقتلهم. ولذلك يسهل إحراجهم  بإبراز حقيقة ليبراليتهم، وأنها ليست لحرية التعبير والمحاسبة والمشاركة السياسية، بل هي للتحرر من القيم والدين نفسه، والاستسلام للشهوات والانغمار في الأهواء، وهم في المقابل عبيد وأبواق لمن يمارس القمع السياسي.


سادسا: استصحاب أن الأصل في الثوابت الشرعية قطعيتها وامتناع تغييرها أو مزجها بغيرها، أو التنازُل عنها، مثل أصول الدين الإسلامي اعتقاداً وعبادة ، وقواعِد الدين ومقاصده، أو التشكيك في المحرمات الظاهرة كالزنا والخمر والربا، وحدود حقوق الرجل والمرأة والعلاقة بين المسلم وغير المسلم. والتنبّه في هذا المجال لأخطاء من حاولوا إيجاد مبررات للثوابت، اللهم إلا في حالات ضيقة كإيضَاح مُشكل أو دفع لبس. والتنبّه أيضا لأساليب من يخجلون من ذكر الثوابت ويحاولون تفاديها مطلقاً أو مزجها بما ليس منها لتجميلِها أو ستر عيوبها التي توهّموها.


سابعا: استذكار التفريق بين التراكمات الاجتماعية الخاطئة والدين، والتأكيد على أن الإسلام مشروع الإنسان كله، ومشروع سبب خلق الإنسان، وتعبيد الإنسان والبشر كلهم لله، ومشروع خلافة الله في الأرض. ووضع خط فاصل بين التراكمات الاجتماعية والدين يريح الإنسان في الجدل ويقوي موقفه أمام خصوم الدين.


ثامنا: تجنب الاختزال للمشروع السياسي الإسلامي، وتدوير المشروع الإسلامي على فرد الحاكم، وهو أمر إذا عُرف منع من  الانجرار إلى ميدان الدفاع عن طرح خاطئ. والطرح الصحيح هو في استحضار شمولية الإسلام وتكامل الطرح الإسلامي في السياسة والاقتصاد وغيرها من شؤون الحياة، ومن ثم يظهر بسهولة تهافت المشروع العلماني أمامه.


تاسعا: إدارك ما يسعى إليه الجانب العلماني من محاولات السحب إلى قضايا خلافية أو قضايا جزئية فيها نظر، وخير مواجهة لذلك هي الإصرار على  إبقاء الجدل في القضايا الكلية المنهجية والمصيرية.


عاشرا: العلم بالتناقض عند هؤلاء يعين على دحض حجتهم؛ فالعلمانيّون وبالأخص الليبراليون، يزعمون أن الديمقراطية والتمثيل الشعبي والرأي العام، قضايا بنيوية أصيلة في الفكر الليبرالي، ثم يناقضون أنفسهم مناقضة صارخة حين يعارضون فكر الشعوب العربية وقياداتها الاجتماعية (فكر الأغلبية) ويسعون لفرض فكرهم المستورد الدخيل (فكر الأقلية) فرضا بقوة السلطة. وهذه إحدى النقاط التي تصيب منهم مقتلا، وتفضح مزاعمهم باحترام الرأي العام، وتطلعات الجماهير وقبول صوت الأكثرية.


في الجزء الثاني من هذه المقالة ننشر مناظرة مع لنموذج من العلمانيين العرب المدافعين عن الأنظمة القمعية في العالم العربي.




bottom of page