top of page

٢ ربيع الآخر ١٤٤٦ هـ

المهدي حقائق وأساطير

بقلم الدكتور سعد الفقيه

المهدي مع كل حدث

في كل مرة تتصاعد الأحداث في منطقتنا ينطلق الحديث عن المهدي وعودة الخلافة الراشدة وتمكين المسلمين وهزيمة أعداء الدين. حصل هذا خلال احتلال العراق للكويت وما تلاه من تحالف عالمي ضد العراق، ثم أحداث سبتمبر واحتلال أفغانستان ثم احتلال العراق ثم الربيع العربي وظهور الجماعات المقاتلة في سوريا والعراق والآن بعد أحداث غزة وتداعياتها.


سيناريو مستقبلي كامل

وحين يكثر الحديث عن المهدي يستعرض البعض عضلاته في معرفته بِأحاديث الفتن والملاحم فيرسُمُ خريطة زمنية متوقعة لسلسلة الأحداث التي ستحصل بأسلوب جازم ضارباً عرض الحائط كل السنن الكونية والثوابت التاريخية. ولِترسيخ هذا الاعتقاد يكثر تداول الرؤى والمنامات التي يزعم من يؤوّلها أنها تؤيد قرب ظهور المهدي وتمكين أمة الإسلام، هكذا في انقلاب عالمي بتمكينٍ إعجازيٍّ خارق. 


المنهج المخالف والمنهج المُوافق 

هذا المسلك في التعامل مع أحاديث المهدي وتنزيلها على الواقع سطحي وساذج ومُخالف للمنهج الشرعي في فهم التاريخ وسنّة الله في الأفراد والمجتمعات والأمم. والمنهج الصحيح هو في التعامل مع قضية المهدي هو في تثبيت الحقائق التالية:


أولا: الخبر عن المهدي ثابت

لا مجال للتشكيك في الروايات عن المهدي، لأن من بينها أحاديث صحيحة وكثير من العلماء جزموا أنها وصلت حد التواتر المعنوي. والمقصود بالتواتر المعنوي أن الروايات اتفقت على معنى محدّد وتنوعت في التفاصيل. 


والمعنى الذي اتفقت عليه الروايات هو ظهور شخص من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم يقود الأمة بخلافة راشدة ويمكّن الله له ويسود في زمنه العدل. ثم تنوعت التفاصيل في اسمه ووصفه و مدة حكمه وتوقيت ظهوره والأحداث التي تصاحب ظهوره. ولم يرد التواتر في هذه التفاصيل بل إن كثيراً منها جاء في أحاديث ضعيفة لا يكاد يعتد بها. 


ثانياً: لا قائد دون تأهيل

تقتضي سنن الله أن أي قائد بشري حتى لو كان نبياً لا بد أن يتأهّل للقيادة، سواء في بنيته العقلية والشخصية، أو في تربيته ونشأته. وقد كتب الله لموسى أن ينشأ في بيت فرعون حتى يعيش جوّ المُلك والأمر والنهي، بدلاً من جو الذل والاستعباد في مجتمع بني إسرائيل. وهكذا بقية الأنبياء الذين كتب الله لهم القيادة كلهم يسّر الله لهم وسائل التأهيل وفي مقدمتهم محمدٌ عليه الصلاة والسلام. 


ثالثا: لا قائد دون ممارسة 

أي قائد بشري، حتى لو كان نبياً، فإن سنن الله تقتضي أن لا تتبيّن قدرته القيادية عند قومه إلا بالممارسة التي يظهر من خلالها إمكاناته القيادية أمام المجتمع الذي ينجذب لقيادته ويسير خلفه. وهكذا كان حال كل القيادات الكبرى في التاريخ وخاصة الأنبياء. 


رابعاً: لا تمكين لأي قائد دون أمّة مؤهلة للنصر

تقتضي سنن الله أن أي قائد بشري مهما كانت قدرته القيادية لا يمكن أن يقود أمته لِنصر وتمكين إلا إذا كانت هذه الأمة مؤهلة للنّصر والتمكين. وهذا يعني أنها أمة لديها عوامل النّصر والتمكين وعند أفرادها الشجاعة والعزة والكرامة والتضحية والقابلية للعمل الجماعي والوحدة تحت هذا القائد.


ولذلك فإنه رغم القدرة القيادية العظيمة عند نبي الله موسى لم يكن قومه مؤهلين للتمكين والانتصار، ورفضوا القتال فَعوقبوا بالتيه أربعين سنة. وحين تدرّبوا على خشونة العيش في الصحراء ومع غياب السلطة التي كانت تستعبدهم ظهر في الأجيال التالية من لديه الاستعداد للقتال والجهاد تحت راية داود عليه السلام. ولم يكن داود أعظم من موسى ومع ذلك فتح الله على يديه وكُتب له التمكين لأن المجتمع الذي ظهر فيه مؤهّل للتمكين بخلاف المجتمع الذي قاده موسى.


خامساً: التمكين لا يتم بالخوارق  

تمكين المهدي أو غيره لا يتم بطريقة إعجازية خارقة وإنما يتم بالوسائل البشرية الطبيعية، وهو خاضع لعوامل النّصر والهزيمة المعروفة. ولو كان أحد أحق بالإعجاز والخوارق في النّصر والتمكين لكان نبينا عليه الصلاة والسلام. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له ما حصل في أحد وحُوصر في الخندق وتعرّض الذين أرسلهم  في يوم الرجيع وبئر معونة لقتل جماعي بغدر وخيانة، وعاش المسلمون معه معاناة في الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات قبل أن يتم له التمكين الكامل عليه الصلاة والسلام. 


سادسا: الزمن شرط أساسي

تمكين أي قائد خاضع لعامل الزمن، ولا يمكن أن يُختصر له الزمن أيا كان، وهذا محمد عليه الصلاة والسلام أعظم قائد لأفضل أمّة استغرق ثلاثة عشر عاماً قبل أن يبدأ لبنات الدولة الأولى، ثم لم تفتح له مكة إلا في السنة الثامنة للهجرة أي بعد أكثر من عشرين سنة من بعثته. ولا يعرف في تاريخ البشر شخصية كُتب لها التمكين دون سنين طويلة من الكد والتعب والمعاناة. 


وبناء عليه

بناء على هذه الحقائق فإن المهدي ليس ظاهرة خارقة ولا متجاوزة للسنن الكونية، بل هو خاضع لكل هذه السنن، ولن يكون أفضل من الأنبياء. ولهذا فإنّه لا بد أن يمر بمرحلة التهيئة والتعريف به كقائد مؤهّل أمام الأمة، ولا بد للأمة أن تتحسن أوضاعها وتكون مؤهلة لأن يكتب لها النّصر والتمكين، ولا مفر من أن يصارع التحديات ويستغرق الزمن المطلوب في التمكين. 


لماذا إذن يلوذون بفكرة المهدي الخارق؟

ما دامت هذه الحقائق واضحة وظاهرة فلماذا يلجأ عدد كبير من الإسلاميين وحتى بعض المثقفين منهم لملاذ المهدي الخارق الذي تنتصر على يديه أمة غير مؤهلة للنصر؟ 


غَالب من يَلجؤون لهذا المسلك إنما يلوذون بالفكرة الخارقة كعلاج نفسي لهم بعد أن عاشوا كل حياتهم وحياة الأجيال السابقة لهم في هزائم متلاحقة أمام أعداء الإسلام وكيدهم المتواصل. وما دامت أسباب النصر والتمكين في نظرهم لا تلوح في الأفق فالحل هو اللجوء لوسيلة خارقة تتجاوز المعطيات الحالية وتعبر حاجز الطبيعة. 


وفضلاً عن العلاج النفسي فإن ظهور الشخص الخارق يريحهم من المسؤولية ويقلب الأوضاع دون الصراع والابتلاء والتضحية المطلوبة منهم. ولذلك فإن اللجوء لفكرة المهدي عادة تنتشر في نفس المجتمعات التي تنتشر فيها نظرية المؤامرة، حيث إن الحِيلتين توفران ملاذاً نفسياً مريحاً وإعفاءاً من المسؤولية. 


عند الشيعة خرق المهدي للسنن الكونية أمر منطقي، لماذا؟

نظرة الشيعة للمهدي في شخصيته وصفاته وطريقة خروجه أو في تمكينه وما سيقوم به مبنيّة في نصوصهم الأصلية بألفاظ صريحة على الخوارق والمعجزات ومخالفة ثوابت التاريخ. وهذه النظرة الخارقة للمهدي عند الشيعة و المصطدمة بالسنن الكونية تنسجم مع الفكر الشيعي لماذا؟ 


لأن التجربة التاريخية الطبيعية الخاضعة للسنن الكونية لم يتحقق فيها النجاح بالمفهوم الشيعي لا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أئمة آل البيت. فالأمة التي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت -طبقاً لعقيدتهم- أمّةً خائنةً لم يسلم من الخيانة فيها إلا أفرادٌ قليلون، والأجيال التي عاصرت الأئمة بعد ذلك خذلتهم ولم تنصرهم بل ربما شاركت في قتلهم واضطهادهم.  


هذا الفشل المتواصل على مدى قرون في تحقيق الرسالة الربانية بالمفهوم الشيعي لا يمكن تجاوزه ومن ثم تحقيق النجاح إلا بتغيير قواعد التاريخ وتعطيل السنن الكونية. ومن هنا كان للمهدي عندهم قدرات خارقة وتصورات إعجازية في ولادته وحياته وغيابه وطريقة خروجه والتي كلها تخالف قوانين الكون ونواميس الحياة. ولذلك تجد في الأدبيات الشيعية مبالغات في طريقة تمكين المهدي وقدرته على إحياء الناس والانتقام منهم والتحكم بالطبيعة وتغيير أولويات الدين.



bottom of page