١٤ ذو القعدة ١٤٤٤ هـ
الهوية الإسلامية أمام أزمة الهوية في العالم
بقلم الدكتور سعد الفقيه
لا مفر من الانتماء
الهوية والانتماء لهما الدور الأكبر في تشكيل الكيانات البشرية وتكوين الثقافة المشتركة، والإنتاج الجمعي والعلاقات الإنسانية. ولا تأتي أهمية الانتماء من خلال تحقيق ضروريات بشرية مثل: الحماية والتضامن وتبادل المنفعة والأنس والمتعة فحسب، بل هو نزعة طبيعية تنساق لها النفس البشرية بشكل تلقائي، ولذلك لا يكاد يوجد بشر دون انتماء وهوية.
الانتماء القدري والانتماء المكتسَب
والانتماء قد يكون قدريًا لا خيار للبشر فيه مثل: العرق واللغة والقبيلة، أو مكتسَبًا مثل: الوطن والحزب، وقد يكون دينيًّا يجمع بين القدرية والاكتساب. وسبب القدرية في الانتماء الديني أن الإنسان بطبيعته يميل للتدين الفطري ثم تكتمل الهوية الدينية باكتساب الدين الذي عليه بيئتُه، كما جاء في الحديث الصحيح: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوّدانه أو يُنصّرانه أو يُمجّسانه".
هل الانتماء للإسلام قدري أو مكتسب؟
والانتماء للإسلام حقق الإشباع في الجانب القدري بمطابقة كاملة للفطرة، فهو الدين الوحيد الذي ينسجم مع الاستنتاج التلقائي بوجود خالق له صفات التوحيد التي لا توجد إلا في دين الإسلام. ثم حقق الإشباع في الجانب المكتسب من خلال اعتباره انتماءً لكل سلسلة الأنبياء التي ختمها محمد عليه الصلاة والسلام. وبهذا يكون الانتماء للإسلام هو الهوية الأصلية للإنسان لأنه امتداد للتدين الأول الذي دان به أبو البشر جميعا سيدنا آدم عليه السلام.
طبيعة الهوية الإسلامية
أولا: وضوح وثبات المنهج والمرجعية، حيث لا يمكن ضمان التوحيد الذي يحقق الانتماء الفطري إلا بمحتوى يطابق هذا التوحيد، ولا يمكن أن يستمر مطابقًا للتوحيد إلا أن يكون ثابتًا غير قابل للتزوير والتحريف. والنصوص الإسلامية "الكتاب والسنة" هي النصوص الوحيدة التي صمدتْ أمام كل محاولات التحريف والتزوير مقابل كل نصوص الأديان الأخرى المليئة بالتحريف والتزوير.
ثانيا: مركزية القدوة الفردية المتمثلة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم والقدوة المجتمعية المتمثلة في مجتمع الصحابة رضي الله عنهم. هذا الاقتداء ليس تقليدًا للحركات والسكنات وتنفيذًا للأوامر فقط، بل هو تبعية جماعية لشخص واحد مع ارتباط نفسي ووجداني بالذات النبوية. وهو كذلك استحضار لشكل المجتمع الأول الذي أنتجته التربية النبوية فكان "خير أمة أخرجت للناس".
ثالثا: رمزية القبلة والصلاة، لأن التزام المسلم بالصلاة خمس مرات في اليوم وتوجهه خلال تلك الصلاة للقبلة واستحضاره أن بقية المسلمين عملوا مثل عمله إنما هو تذكير له خمس مرات في اليوم بانتماء واحد مع بقية المسلمين. وإذا كان المسلم خلال وقتِ الصلاة ينقطع عن البشر في مناجاة الله فهو يتصور نفسه مع بقية المسلمين في صف واحد أمام الله. ويؤكد هذا ما رواه البخاري "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته".
رابعا: هو انتماء مفتوح لكل مَن يريده بصدق، ولا حاجة فيه لطقوس أو إجراءات خاصة أو موافقة رجال دين أو سياسة أو أوراق ومعاملات. ويتمم ذلك أنه انتماء عالميّ ليس مرتبطًا بعِرقٍ ولا لون ولا مكان ولا ظرف. ولا يكاد يوجد دين أو انتماء آخر إلا فيه إجراءات أو معاملات أو الحاجة لموافقة جهة أخرى فضلا عن أن بعض الانتماءات محصورة على عرق أو لغة أو مكان.
خامسا: هو انتماء بخط فاصل واضح عن الانتماءات الأخرى؛ لأن رؤية المسلم لذاته وبقية البشر والحياة والموت وبقية الكائنات والحق والباطل والواجب والممنوع والقبيح والحسن، وقبل ذلك رؤيته لمفهوم الخلق والخالق والإله كلها مختلفة عن نظرة بقية البشر. وفضلا عن أن هذا الخط واضح بشكل طبيعي فالمسلم مأمور شرعا بأن يجعله فاصلا واضحا في وجدانه ومشاعره، بل إن التصنيف البشري في القرآن قائم على ذلك، كما قال تعالى: "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن".
سادسًا: هو انتماء فيه شعور بالتفوق على كل الانتماءات الأخرى؛ لأنه يتطابَق مع ما خُلق الإنسان من أجله، ويتوافَق مع ما يريده الخالق من الإنسان، وسار على مسار كل الأنبياء، فكيف لا يكون الأعلى؟ "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".
سابعا: هو انتماء يُلزِم صاحبه بالتعامل مع البشر على أساس هذا الانتماء، سواء في تقويمهم "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، أو في تحديد الشعور العاطفي تِجاههم، أو في الولاء والبراء والعلاقة السياسية والاجتماعية.
ثامنا: هو هوية محتوية لا طاردة، فرغم حدية الفرق بين المسلم وغير المسلم في الاعتقاد والمنهج إلا أن ذلك لا يمنع أن يحتوي الكيان الإسلامي أي إنتاج بشري لا يتعارض مع الدين. وقد استوعب المسلمون الصنَّاع والزرَّاع والأطباء والمهندسين والصيادلة والأدباء والكتَّاب من غير المسلمين دون أي تكلف. أما مع المسلمين أنفسهم فالاحتِواء أبعد من ذلك حيث وصل لمراتب القيادة العربي والكردي والتركي والمماليك وأجناس أخرى دون حرج عند المسلمين.
هوية ثرية ومتينة
أثبت التاريخ أن الهوية الإسلامية الثرية الزاخرة بكل ما يحتاجه البشر تَحقّقَ من خلالها الفتوحات العظيمة، والتي لم تكن مجرد هزيمة للعدو، بل كانت تحوّلا كاملا للثقافة وإنشاءً حضاريًا جديدًا بنظام اجتماعي وقانوني وخدماتي وأمني وسياسي وعسكري في كل الأقاليم التي فُتحت.
ثم بعد ذلك أثبت التاريخ أن الهوية الإسلامية صلبة متينة صمدتْ أمام الأخطار الداخلية والخارجية، وامتصت آثار الفوضى الفكرية والسياسية، وقاومت الحملات الصليبية والغزو المغولي وحملات الاستعمار. ولم يكن الربيع العربي ليكون له شأن لولا جذوة الهوية في قلوب المؤمنين. ولعلها لا تزال سليمة في قلوب أهلها تتوثَّب للعودة والتمكين رغم ما أصاب المسلمين حديثا.
أزمة الهوية في العالم
تسبب طغيانُ العلمانية وهيمنتها على الحياة السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية في تقويض مفهوم الهوية وتشتيته عند معظم البشر. وقد انهزمت كثير من الثقافات والأديان أمام هذا الطغيان، واضطرت أن تقبل بالعلمانية مظلة لها حتى من الناحية الفكرية التنظيرية. بل إن ما صاحبَ العلمانية من تأسيس فلسفي غربي هو الذي ساد العالم كله. والعلمانية حين تُقوّض الهويات الأخرى فإنها لا تُقدّم هوية من ذاتها؛ لأنها تخلو من أي مفهوم قابل للانتماء.
وحتى مَن يدّعون التشبث بثقافاتهم مثل الصين واليابان وروسيا لم يبقَ لهم من هذا التشبث إلا "الفلكلور" وبعض العادات والتقاليد التي يُبالغون فيها تعويضًا عن خَسارتهم في معركة الهوية. ولا يكاد يوجد مظهر من مظاهر الحياة في هذه الدول وغيرها إلا وهو نسخة من الحياة الغربية حتى على المستوى الاجتماعي. ومن المفارقات المضحكة أن ماوتسي تونغ الذي أنشأ الصين الحديثة على مبدأ رفض الغرب وثقافة الغرب إنما بنى فكره كله على الماركسية المستوردة من الغرب.
وربما لم يبقَ من أنواع الانتماء في العالم حاليا إلا الانتماء الوطني، وهو انتماء أوراق وسجلّات ليس فيه محتوى وجداني أو فكري أو إنساني. بل إن الإنسان يستطيع الحصول على جنسية بلدٍ ما بعد تحقيق شروط معينة فيصبح منتميًا إليه، والعكس صحيح فقد تُسحب منه الجنسية أو يتخلى هو عنها هو لسبب من الأسباب.
هل أصابت هذه الأزمة المسلمين؟
ليس المسلمون بمنأى عن الاجتياح العلماني العالمي، وقد أصابهم ما أصاب غيرَهم من هذه الخلخلة. هذا الاجتياح لم يقتصر على إزالة الإسلام ككيان سياسي وإبعاد مرجعية الشريعة، بل وصل حدَّ الاختراق الحقيقي على المستوى الفكري والمنهجي، والتشكيك في كثير من الثوابت المرتبطة بأصل الانتماء.
وتَمثَّل هذا مع الأسف في كثير من المظاهر منها: ضعف الثقة بالدين والفخر به، وانحسار شعور الاستعلاء بالإيمان، واهتزاز الثقة بمنهج هذا الدين، والشك في المرجعية الكاملة الشاملة للكتاب والسنة، وخلخلة القناعة بالنظام السياسي الإسلامي، والخجل من تاريخ المسلمين، وتعظيم الأمم الأخرى، فضلًا عن تهتك الأخلاق والقيم. وعند كثير من الناس تعمق هذا الاختراق حتى وصل إلى اللباس والطعام والبناء والمركَبات واللغة، بل حتى تذوُّق الأصوات والأشكال وطريقة الحديث والتعامل.
وكثير من هذا مُفتعَل من خلال برامج الإعلام والتعليم المفروضة من قِبل حكوماتٍ محارِبة للإسلام وعميلة للغرب والشرق العلماني، لكن هناك نُخبًا من المثقفين والعلماء والقيادات الاجتماعية أصابتهم الهزيمة الثقافية وانخرطوا في تنظير تدمير الهوية وتحويل الانتماء. وهؤلاء طيف عريض يبدأ بمن تمردَ تمردا كاملا على الهوية الدينية وشكك في ثوابت الدين وتبرأ من التاريخ الإسلامي، وينتهي بدعاة وعلماء على خير لكنهم يتوددون لهذا الطغيان العلماني بتلفيقات متكلفَة يُضعِفون فيها الهوية من حيث لا يعلمون.
هل تتعافى الهوية عند المسلمين؟
مع كل ما أصاب المسلمين من هزيمة فكرية وخلخلة في الانتماء؛ فإن هناك فئة ولو قليلة صامدة ومتشبثة بأعمق معاني الانتماء. وما دام الكتاب والسنة محفوظان، وما دام هؤلاء يخدمونها علمًا وعملًا وتعليما وجهادًا فسَيبقون جذوة تتّقد ثم تتوسع وتُعيد الآخرين إلى هويتهم. ومما يسهل مهمة هذه الفئة في إعادة الآخرين للهوية أن هناك جزء كبير من الطيف قريب منهم في درجة الانتماء حتى لو كان عنده بعض الضعف. وكلما عادت شريحة للهوية الصحيحة أعادت مَن يليها حتى تكون أغلبية المسلمين في أحسن أحوال الانتماء.