١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
ترمب وأمريكا والديمقراطية
أسئلة ذات أهمية
بقلم الدكتور سعد الفقيه
هل المؤسسات والدستور هي التي تمنع انزلاق الدولة الديمقراطية إلى الاستبداد؟
لا شك أن المؤسسات والدستور وسائل فعالة في ديمومة الديموقراطية، لكنها ليست مانعة من انزلاق البلد إلى الدكتاتورية. وكل النماذج التي تحولت من ديمقراطية إلى استبداد مطلق في العالم كان فيها دستور ومؤسسات عريقة. وفي أمريكا تحديداً لم توفر المؤسسات والدستور فرصة لامتصاص الخلاف على قضية العبودية ولم تمنع اندلاع الحرب الأهلية في أمريكا والتي استغرقت أربع سنوات و ذهب ضحيتها ٦٠٠ ألف إنسان.
ما الذي يمنع تخلي الشعب برغبته عن الديمقراطية والتحول إلى الاستبداد؟
صفتان في الأمم تدفع الشعوب إلى التشبث بالديمقراطية وتمنع الانزلاق في الاستبداد، وإذا لم تتوفر يسهل سيطرة الطاغية على هذه الأمة. الصفة الأولى هي أن غالبية الشعب تعظّم القيم الكبرى مثل الحرية والكرامة والعدالة وتقدمها على المصالح الشخصية، والصفة الثانية أن معظم الشعب يحترم الحكماء والعقلاء ويقدم رأي أهل الاختصاص على رأيه ويفضل الرأي العلمي على الرأي الغوغائي الشعبوي.
ما هي العوامل التي تدفع باتجاه تخلي الأمريكان حالياً عن الديمقراطية
أولا: نزعة ترمب للتحوّل للديكتاتورية ليست سرّاً فقد أشار إليها بشكل غير مباشر عدة مرات، وشخصيته السيكوباثية النرجسية الساديّة توفر الأرضية لهذه النزعة.
ثانيا: نمو الشعبوية في أمريكا واستعداد شرائح ضخمة من المجتمع لإعطاء الأولوية للمصالح الشخصية والاستجابة للتحريض الشعبي على حساب القيم الكبرى مثل الحرية والعدالة والكرامة وسيادة القانون. ولا يمكن للديمقراطية أن تبقى إلا بإعطاء الأولوية المطلقة لقيم الحرية والعدالة والكرامة وسيادة القانون.
ثالثا: تصاعد الاستقطاب وانقسام الشعب الأمريكي إلى درجة قضت على التسامح مع المخالفين وتحمّل الرأي الآخر، فكل فريق يعتبر الفريق الآخر مجرماً بحق أمريكا وخائناً لمصالحها. ولا يمكن أن تستقيم الديمقراطية إلا باعتبار صاحب الرأي الآخر مجتهداً بنية صالحة حتى لو أخطأ.
رابعا: المبالغة في تمجيد القائد والالتفاف حوله بشكل أعمى وغض الطرف عن صفاته الأخلاقية السيئة حتى لو كانت تدل على السفه والوقاحَة والصفاقة والانزلاق في أتون الكذب والغش وتضييع الأمانة. ولا يمكن للديمقراطية أن تنتعش إلا بقائد يحترم الثقافة السائدة ويجتهد في الظهور بمظهر المؤتمن.
ما هي العوامل التي تحمي الديمقراطية في أمريكا وتمنع ترمب أو غيره من السيطرة على الأوضاع؟
أولا: كثرة المؤسسات التي لها نفوذ حقيقي ولا تخضع لسلطة شخص واحد. فإضافة لمجلسي الشيوخ والنواب في واشنطن هناك مجلس شيوخ ونواب في كل ولاية من الولايات، وهناك مؤسسات أخرى شبه مستقلة مثل هيئة التحقيقات الفيدرالية والمحاكم الفيدرالية والهيئات الفيدرالية الأخرى. ثم هناك عدد هائل من مؤسسات المجتمع المدني مثل النقابات ومراكز البحوث المستقلة وهيئات حقوق الإنسان.
ثانيا: ولاء الجيش وقوات الأمن هو لكيان الولايات المتحدة وقَسَمُهم هو لخدمة الدستور وليس هناك ولاء للرئيس ولا قَسَمٌ لطاعَة الرئيس. وهذا أحد القضايا التي أزعجت ترمب وعبّر عن تململه منها في مجالسه الخاصة، حيث طالب بأن يكون الولاء للرئيس، وتمنى أن يطيعه الجنرالات مثلما أطاع جنرالات ألمانيا هتلر.
ثالثا: تتمتع الولايات في أمريكا باستقلالية كبيرة، ولكل ولاية قانونها الخاص ولها حكومتها ومجالسها التشريعية وشرطتها وحرسها الوطني. وكان تأسيس أمريكا في الأصل على أن الحكومة الفيدرالية مظلّة فقط للتنسيق بين الولايات وترتيب جيش لحماية الوطن. والتوسع في النفوذ الفيدرالي الحالي حصل بشكل تدريجي وبطيء ولا تزال الولايات تقاوم توسعه.
رابعا: تقديس حرية حمل السلاح في أمريكا والمنصوص عليها في الدستور الأمريكي تجعل تغوّل أي سلطة مركزية صعباً. وكان النص على هذا البند في الدستور في وقت لم تتطور فيه الأسلحة المتطورة التي لا تملكها إلا الحكومات. ولهذا فمن المشكوك فيه إن كان هذا البند سيساهم في منع تغول قوة فيدرالية على الولايات.
خامسا: قوة اللوبيات وخاصة اللوبي الصهيوني، وذلك لأن اللوبيات لا يمكن أن تنتعش إلا في جوٍّ ديمقراطي تستطيع أن تستثمره لتقوية حزب أو شخص أو إضعاف حزب أو شخص، والدكتاتورية تجرد اللوبيات من هذه القدرة. ولهذا فمن المتوقع أن تقاوم اللوبيات وخاصة اللوبي الصهيوني أي نزعة للاستِبداد. لكن اللوبي الصهيوني نفسه لم يعد يفكر بطريقة استراتيجية بسبب وجود جناح في اللوبي لا يكترث بهذه الحسابات ويريد دعماً مطلقاً لجرائم إسرائيل وتدمير إيران، ولا يدرك خطرها بعيد المدى على نفوذ هذا اللوبي.
هل وجود الميليشيات المسلحة يحمي الديمقراطية أو يخربها؟
توجد في أمريكا مئات الميليشيات المسلحة، والدستور يسمح لها بالتكاثر والتدريب وحمل السلاح، ولا تملك الدولة إلا مراقبتها ولا تستطيع التدخل إلا عند مخالفة القانون. ومعظم هذه الميليشيات باتجاهات يمينية متطرفة وغالبها يؤيد ترمب، وبعضهم أعلن الاستعداد للقتال معه وشن حرب أهلية من أجله.
ولا يمكن التنبؤ بتداعيات تحرك هذه المليشيات بسبب تعقيد الوضع العسكري والسياسي في أمريكا. فمن جهة قد تنجح هذه الميليشيات في خلخلة المؤسسات وإقناع أجزاء من القوات المسلحة بالانضمام معهم وفتح الباب لسيطرة عسكرية على الدولة من قبل مؤيدي ترمب. ولكن الأرجح أنها أضعف من أن تواجه المؤسسات أو أن تفكّك القوات المسلحة، وبهذا سيكون تحركها وبالاً على ترمب بدلاً من أن يكون نافعاً له.
هل هناك سوابق تحول النظام السياسي من ديمقراطي إلى ديكتاتوري بإقرار شعبي:
الجواب نعم
الحالة الأولى هتلر ألمانيا
وصل أدولف هتلر للسلطة بطريقة ديمقراطية منضبطة بالدستور بشكل كامل ثم وسع سلطته كذلك بحيل ديمقراطية ولم يبدأ بخرق الدستور إلا بعد أن صارت بيده قوة أمنية يستطيع أن ينفذ فيها ما يشاء. وحين نجح هتلر في معالجة الفقر والبطالة والجريمة والمخدرات والانقسام الطبقي مجده الألمان ورضوا بأن يتحول إلى حاكم مطلق لا يسأل عما يفعل.
لم يكن هتلر مثل ترمب منحرفاً سلوكياً أو متهما بالكذب والغش وتضييع الأمانة لكنه كان قبل دخوله الانتخابات قد شارك في انقلاب عسكري ضد النظام الحاكم وحوكم بالسجن ثم تعاطف معه القضاة المتأثرين بالنازية وأطلقوا سراحه. وهذا وجد في أمريكا مع ترمب فقد تمكنت القاضية "كانون" من تمييع قضية سرقة الوثائق من البيت الأبيض التي أكد فقهاء القانون أنها جريمة لا شك فيها، وكذلك صوتت المحكمة الدستورية لصالحه في قضية حصانة الرئيس تصويتاً يكاد يخالف الدستور بشكل صريح.
الحالة الثانية موسوليني إيطاليا
وصل موسوليني إلى السلطة بطريقة ديمقراطية ثم وسع نفوذه بحيل لم تخرج في الجملة عن الدستور. وحين تمكن موسوليني من ضبط الفوضى التي دبت في البلاد مجده الشعب الإيطالي وأعطوه صلاحيات مطلقة برضاهم ولم ينقلبوا عليه إلا بعد توريط إيطاليا في الحرب العالمية الثانية.
كان موسوليني صاحب سوابق في الجريمة متقلب المذاهب فكرياً وحركياً حيث تحول من الاشتراكية إلى الفاشية، ومتقلب المواقف السياسية فقد كان ضد الدخول في الحرب العالمية الأولى ثم كتب مقالاً طويلاً يؤيد الحلفاء ضد ألمانيا. أما في الحرب العالمية الثانية فكان يظن أن النصر لهتلر فدخل حليفا معه طمعاً في الحصول على حصة من غنائم الحرب ولكن أخطأ تقديره فدفع الثمن غالياً. ولم يمنع تقلبه وتقديم مصلحته الشخصية على مصلحة إيطاليا الشعب الإيطالي من السير خلفه كما هو حال ترمب مع جمهوره الذي يقدسونه رغم كل بوائقه.
الحالة الثالثة سالازار البرتغال
في البرتغال طُلب من أنطونيو سالازار أن يستلم وزارة المالية لما كان له من سمعة أكاديمية في الاقتصاد فاشترط أن يُعطى صلاحيات كاملة في السياسة المالية فحقّقوا له شرطه. وحين نجح في إنقاذ الاقتصاد ترشح لرئاسة الوزراء واستغل سمعته لتغيير الدستور لأن يصبح حاكما مستبداً بدون منافس فوضع النقابات تحت إدارة الحكومة ومنع حرية الصحافة والحريات السياسية، إلى غيرها من الإجراءات الاستبدادية. ولم تبدأ المعارضة له إلا بعد مرور عقدين كاملين ولم يتمكن الشعب من إزاحته إلا بعد أربعة عقود.
ربما يكون سالازار الوحيد بين هذه الحالات الثلاث الذي كان منضبطاً سلوكياً وأميناً مع شعبه، لكن طول الأمد تحت الاستبداد أدى به إلى قرارات هدمت كل ما بناه من ازدهار اقتصادي وانضباط أمني
هل يمكن لتطورات داخل أمريكا أن تغير مسار الأحداث في امريكا؟
اغتيال ترمب أو تعرضه لمرض يخرجه من السلطة سوف يغير مسار الأحداث، لأن مسار التغيير الذي ينوي تنفيذه معتمدٌ عليه بشكل كلي. ويصعب التكهن بنوعية تغيير الأحداث لكن خروج ترمب من المشهد لا يعني عودة الوضع إلى ما كان عليه قبل ترمب. ومن الوارد أن تحصل حوادث بشرية أو كونية أخرى تغيّر مسار الأحداث يصعب التنبؤ بها وبِآثارها، ولكن بسبب هشاشة الوضع في أمريكا فإن أي حدث ذي بال سيؤثر في مستقبل أمريكا.
هل يمكن لأحداث خارج السياق الأمريكي أن تؤثر في مستقبل أمريكا السياسي؟
رغم كثرة التحديات في العالم فإن معظمها تحت السيطرة أو قابلٌ للاحتواء، ولم يبق إلا قضية واحدة من الوارد أن تؤدي مضاعفاتها إلى تغيير هائل في مستقبل أمريكا، وهي قضية غزة ودخول أذرع إيران في المواجهة مع إسرائيل. والوضع لا يزال متوتراً على كل الجبهات ومن الوارد أن تؤدي التوترات إلى حرب إقليمية ويتوقف النفط الخليجي وترتفع أسعار النفط عدة أضعاف فينهار الاقتصاد الأمريكي والغربي كله.
ويفترض أن يبذل الحريصون على مصلحة أمريكا كل جهد في منع الحرب الإقليمية، لكن هناك من يفكر بطريقة معاكسة ولن يعجز إذا أراد أن يتسبب في مثل هذه الحرب. ولو حصل ذلك فسوف تنهار المنظومة الأمريكية في المنطقة وتخسر أمريكا كل حلفائها وربما تنتهي إسرائيل. ولو حصلت هذه التطورات فسوف يُفتح المجال لتفكك أمريكا أو دخولها في فوضى عارمة.
هل يتغلب العقلاء في تحاشي هذه الحرب الإقليمية ويكبَحوا جماح متطرفي الصهاينة في إسرائيل ويمنعوا الحرب الإقليمية؟ أو ينجح المتهورون في إطلاق هذه الحرب ومن ثم دفع ثمن تداعياتها؟ هذا ما سيتبين خلال أسابيع أو أشهر قليلة والله أعلم.