٥ ربيع الأول ١٤٤٦ هـ
تزكية العلماء الخونة تعطيل لِمشاريع الإصلاح
بقلم الدكتور سعد الفقيه
سادت في أوساط التيارات الحركية والجماعات الإصلاحية مجموعة مفاهيم ضارة بالمشروع الإسلامي، لكنها تجذرت في ثقافة هذه التيارات حتى تحول بعضها إلى ما يشبه المسلمات غير قابلة للنقد. وقد كان لهذه المسلمات الخاطئة دور كبير في تعثّر المشروع الإسلامي والعمل الإصلاحي وتمكين الطغاة. وهذا التعثر والتأخير في المشروع الإسلامي سوف يستمر ما لم تتخلص هذه التيارات من هذه المفاهيم.
من هذه الثقافات الضارة تقدير كل العلماء مهما كانت مواقفهم اعتقاداً بأن هذا هو المنهج القرآني والهدي النبوي. وهذا الاحترام والتقدير يشمل الخونة من علماء السلطات والمنافقين من الدعاة والمنتفعين من الواعظين والرموز الدينية. وهذا الاحترام لا يقف عند حد السكوت عن انتقادهم بل يتعداه لمَدحهم والثناء عليهم والاعتراف بمَرجعيتهم وتزكيتهم، حتى وصل عند البعض إلى إصدار تسجيلات خاصة في الثناء عليهم.
وقبل استعراض بعض هذه المفاهيم السائدة تجاه هؤلاء العلماء الخونة لا بد من بيان المستوى الخطير في الجرائم التي اقترفوها بحق الدين وخيانة العهد الذي أخذه الله عليهم. هؤلاء العلماء لم يكتفوا بالسكوت عن قول كلمة الحق بل أقدموا على الجرائم التالية التي تعتبر خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين
أولا بالغوا في تزكية الطاغية الذي يحارب الإسلام وينكّل بالمُصلحين ويتآمر مع أعداء الإسلام ويبالغ في الظلم والإفساد ويمكّن الفسقة والزنادقة ويخرب أخلاق المجتمع. نعم بالغوا في تزكيته حتى كادوا أن يعطوه العصمة، بل إن بعضهم أعطاه العصمة. فإذا كان مجرد سكوت العالِم عن ظلم الحاكم وإفساده وزندقته واقتراف الكفر البواح جريمة فكيف بمن يزكيه ويكاد يعطيه العصمة؟
ثانيا: أعطوا هذا الطاغية الذي يعتبر عدواً لله ورسوله حق الطاعة الشرعية الكاملة وكأنه من الخلفاء الراشدين. وتبعاً لذلك جرّموا وكفّروا وبدّعو وفسّقوا كل من يقف موقفاً مخالفاً للطغاة أو يشكك في وجوب طاعتهم، وتسابقوا في تخريب سمعتهم وأوصافهم.
ثالثا تلاعبوا بالمصطلحات الشرعية مثل البيعة والطاعة والمصلحة والخروج وزوّرا معناها بما يناسب الطاغية ويزيد له في التمكين، وفرضوا معاني محرفة لهذه المصطلحات حتى صارت ثقافةً منتشرة فيها تزوير لمنهج الإسلام في الحكم والسياسة. فالحاكم له كل مقتضيات البيعة التي يستحقها الإمام الشرعي ومن يرفض بيعته يموت ميتة جاهلية، و طاعة الحاكم واجبة حتى لو تعارضت مع طاعة الله ورسوله، والمصلحة هي ما يراه الطاغية فهو دائماً أعرف بالمصلحة، والاعتراض على هذا الطاغية من عمل الخوارج الذين وردت فيهم أحاديث تأمر بقتلهم واستئصالهم حتى لو كانت قياماً بواجب الإنكار الشرعي الذي هو من أعظم الجهاد.
ما دامت هذه حقيقتهم فلماذا يحترمون؟
لعل المدقق في ممارسات هؤلاء الخونة يستنتج تلقائياً أن المنهج الشرعي هو الذي فضحهم والبراءة منهم وبيان خيانتهم ونفاقهم وتحذير الأمة من اتباعهم على الأقل في القضايا السياسية. لكن من الإنصاف تتبع مبررات الذين يحترمونهم ويتحاشَون انتقادهم والتي يبدو للبعض أنها مبررات مقبولة وليست كذلك.
المبرر الأول: القرآن يأمر بتوقير العلماء
يزعم هؤلاء أن المنهج القرآني يدعو لاحترام كل العلماء ، ولكن كيف يكون هذا منهجاً قرآنياً مع أن القرآن يلعن من يكتم العلم فضلاً عن أن يفتي بالباطل ويدافع عن الطغاة ويزكي الزنادقة ويعطي الحكام المحاربين للإسلام العصمة؟ هل غاب عنهم قوله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون). ولو استحضروا هذه الآية لعلموا أن هذا الاحترام المتكلف إنما هو مخالفة صريحة للمنهج القرآني وعدم اكتراث بتوجيهات القرآن.
المبرر الثاني: احترام للعلم الذين يحملونه
آخرون يزعمون أن هذا ليس احتراماً لمواقفهم ولا فتاويهم بل هو احترامٌ للعِلم الذي يحملونه وتأدباً مع تصنيفهم في صف العلماء!! وهذا في الحقيقة أدبٌ متكلفٌ ومخالفٌ للنهجِ القرآني الذي شبّه أسلافهم بالكلاب والحمير، فقد قال تعالى (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين)، وقال ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون). فمن هذا الذي يريد أن يكون أكثر أدبا من القرآن؟
المبرر الثالث: لا نلومهم لأنهم لا يعرفون الواقع
من المبررات التي يلجأ لها البعض ادعاء أن هؤلاء العلماء لا يعرفون الواقع ولو عرفوه لقالوا كلمة الحق وأنكروا الفساد وسعوا في رفع الظلم وبينوا الكفر والزندقة. وغالب من يدعي ذلك يعلم يقيناً أن هؤلاء العلماء على معرفة دقيقة بالواقع بكل تفاصيله بل ربما يعرفونه أكثر منهم بسبب كثرة من يوصل لهم الأخبار من مريديهم رغبة منهم في إنكاره.
وعلى افتراض أنهم لا يعرفون الواقع، فإنهم غير معذورين فالعالم ملزمٌ أن لا يفتي فتوى ولا يقف موقفاً ولا يعلن رأياً إلا بعد أن يبذل الجهد الكافي في معرفة الواقع.
المبرر الرابع: إدعاء أنهم مكرهون
آخرون يدافعون عن هؤلاء العلماء الخونة بأنهم مكرهون على مواقفهم ومهدّدون إن قالوا كلمة الحق فإن مصيرهم السجون والتعذيب. وهذا التبرير في الدفاع عن العلماء الظلمة هروب واضح من المسؤولية للأسباب التالية:
أولاً: كل من يقول هذا الكلام ليس عنده دليل أن هؤلاء العلماء تعرضوا لتهديد أو إكراه بالتعريف الشرعي للإكراه. وهم يخترعون هذه الحجة بلا دليل ولا معلومة لمجرد التخلي عن مسؤولية بيان حقيقة هؤلاء العلماء. وفي المقابل لم تظهر أي قرائن غير مباشرة على حصول الإكراه بل كل القرائن تدل على خلاف ذلك.
ثانياً: لو كان التفسير هو الإكراه أو التخويف من قبل الطغاة لكان يكفي هؤلاء العلماء السكوت عن قول الباطل والابتعاد عن المناصب الرسمية، لكن كلهم مصرّون على هذه المناصب والتمتع بالعطاءات المالية والامتيازات الاجتماعية والإعلامية والمظاهر والشهرة والمبالغة في تزكية الطغاة وتجريم مخالفيهم.
ثالثاً: الإكراه ليس التهديد بالطرد من المنصب أو إيقاف الراتب أو الحرمان من الامتيازات بل تعريفه الشرعي أخطر من ذلك بكثير ويتضمن أن يقع الإكراه بما يسبب الهلاك، أو يحدث ضررًا كبيرًا يشق على المستكره تحمله، كأن يهدد بقتل أو قطع عضو أو ضرب شديد أو حبس وقيد أو أي نوع من أنواع التعذيب. وهنا بحث كامل في أحكام الإكراه في الفقه الإسلامي
رابعاً: العالم المتبوع حكمه في الإكراه يختلف عن العوام أو الأشخاص العاديين فلا يجوز قول الباطل بحجة الإكراه، وحتى من يجيز ذلك لا يجيزه إلا بتحقق أقصى درجات الإكراه وبشرط أن يجتهد العالم أن لا يقول إلا ما يدفع الخطر وأن يسعى لأن يظهر للناس أنه مُكره. وعلى كل حال فإن كل هؤلاء الخونة من العلماء توفرت الفرصة للاختلاء بهم ومعرفة حقيقتهم ولم يتبين أن أحداً منهم أكره على شيء.
المبرر الخامس ضرب هيبتهم إسقاط لهَيبة العلماء
من الحجج القديمة في هذا التبرير ادعاء أن انتقاد أي عالم مهما كان إنما هو تشجيع العلمانيين وأعداء الدين على الجرأة على العلماء. ومن يقول ذلك إما أن يكون ساذجاً أويكون عارفاً بالحقيقة ومتهرباً من المسؤولية. والحقيقة هي أن احترام هؤلاء العلماء يزيد العلمانيين وأعداء الدين جرأة على الدين من جهتين، الأولى أنه يعطي الحكّام شرعية في تمكين العلمانيين والليبراليين، والثانية أن احترام العالم الخائن والمنتفع والمنافق تشويه لصورة الدين ومن ثم رفع لمكانة أعداء الدين عند المجتمع.
النتيجة تمكين للطاغية وتعثر في المشروع الإصلاحي
وعوداً على بدء فإن إقناع الذات بهذه الحجج إنما هو تهرب من المسؤولية حتى يعذر صاحبها نفسه عن مواجهة هؤلاء العلماء الذين مكنهم الطغاة من المنصات الإعلامية وأعطوهم حماية خاصة، فصارت مواجهتهم تشكل خطراً يتم تحاشيه من خلال هذه الحيلة النفسية. وتتعاظم الحيلة النفسية ويتحول الموقف من السكوت عنهم إلى تزكيتهم والاعتراف بمرجِعيتهم والثناء عليهم.
لا بد من تخوينهم
وسيبقى المشروع الإسلامي متعثراً إن أصرت التيارات الحركية المعروفة والدعاة والمصلحين على هذا النهج. والسبب أن تزكية هؤلاء العلماء إنما هو إعطائهم الحق في تزكية الطاغية ومن ثم إعطاء هذا الطاغية الشرعية وتمكينه من ممارسة طغيانه وظلمه وإفسادِه كما يريد بشرعية دينية.