٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
ثغرات استراتيجية في الحركات الإسلامية
بقلم الدكتور سعد الفقيه
قدّمت ولم تقدّم
قدمت التيارات والحركات الإسلامية بمختلف توجهاتها وميادين عملها خدمات جليلة في إصلاح المجتمع ومواجهة موجات التغريب ونشر العلم الديني ونشاطات أخرى. لكن هذه التيارات لم تقدم استراتيجية متكاملة رغم وجود كوادر مؤهلة قادرة على صياغة مثل هذه الاستراتيجية بل ربما داومت على ارتكاب أخطاء تاريخية تسببت في تعطيل مسيرتها وفشل برامجها.
غياب ثقافة التخطيط بعيد المدى
التكرار والاعتماد على ردود الأفعال وفي بعض الأحيان ابتكارات مبعثرة هي الممارسات التي دأبت عليها الحركات الإسلامية في كل مستوياتها، أما ثقافة التخطيط بعيد المدى وفهم الواقع على أساس شامل فهي غائبة عن معظم قيادات التيارات الإسلامية. وغالب هذه القيادات لا تعرف أركان التخطيط الاستراتيجي وترفض الخروج من دولاب التكرار وتعتبر الحديث عن الاستراتيجية سفسطة ومضيعة للوقت وجدلاً لا طائل منه.
ثغرات استراتيجية
ليس من الواقعي طرح أركان الاستراتيجية في مقال عابر، لكن من الممكن التنبيه إلى مجموعة من الممارسات الخاطئة التي تعكس فشلاً استراتيجياً لهذه الحركات. ومعظم هذه الممارسات ناتجة عن سوء تقويم للواقع أو فشل في إدراك مقاصد الشرع على مستوى المجتمع والدولة، وعدم استحضار المسؤولية الكبرى في تمكين دين الله في الأرض. وهنا عرض لنماذج غير استقصائية للأخطاء الاستراتيجية التي تقع فيها التيارات الإسلامية وما يقابلها مما نحسبه مواقف وممارسات سليمة.
أولاً: التوصيف الحقيقي للأنظمة الحاكمة
يصعب أن تنجح مشاريع الحركات الإسلامية إلا باعتبار السلطات الحاكمة في العالم العربي أنظمةً تجمع كل مفاسد الحكم، وهي الاستبداد والظلم والفساد والعمالة، فضلاً عن المساهمة في الحرب على الإسلام وخدمة المشروع الصهيوني. وأيّ وصفٍ أقل من ذلك، مثل ادعاء أنها مقصّرة أو ضعيفة إنما هو بمثابة تبرئة لها من الصّهينة والحرب على الإسلام.
ولا فرصة لنجاح المشروع الإسلامي إلا بالوضوح في توصيف هذه الأنظمة وإعداد الخطة بناء على هذا التوصيف. قد يضطر بعض الإسلاميين لتجنب الحديث عن الأنظمة أو التهرب من أسئلة لها علاقة بتوصيفها، لكن لا يصلح التقليل من شرّها أو التهوين من دورها في الحرب على الإسلام أو خدمة الصهاينة. أما من يزكّي الأنظمة أو يعتذر لها أو يتحدث عنها باعتراف بشرعيتها فهو إنما يمارس خيانة حتى لو وجد لنفسه المبررات.
وقد وقع في كارثة مجاملة الحكام والمبالغة في الثناء عليهم كثير من الحركات والقيادات الإسلامية بل حتى بعض جماعات المقاومة التي نحسبها مخلصة. أحد الجهات المقاومة مثلاً تكرر مدح بعض الأنظمة ومع ذلك لم تحصل من هذه الأنظمة إلا الخداع والتآمر ومزيد من الضرر بسبب استغلال هذه الأنظمة لهذه المجاملة.
ثانياً: لماذا التنزّه عن السلطة؟
دأبت معظم الحركات الإسلامية وكثير من نشطاء الإسلاميين على النأي بأنفسهم عن السعي للسلطة والتأكيد على أنهم ليسوا طلاب حكم وإنما هم دعاة للأمة ومصلحون للمجتمع. ومعظم الذين يرددون ذلك مؤمنون به ويقصدون فعلاً أنهم ليسوا طلاب حكم ولا يريدون السلطة. والسبب في هذا الموقف فيما يبدو هو خلطهم بين طلب السلطة من قبل الفرد وبين السعي لتمكين دعاة الإسلام من السلطة.
نعم من المحمود أن لا يسعى الإنسان للإمارة كما جاء في الحديث، أمّا تمكين أهل الحق من السلطة فهو واجب شرعي والتقصير فيه إثم والتخلي عنه هروب من المسؤولية والبراءة منه تكاد تكون براءة من الإسلام نفسه. ومن المستغرب أن التيارات الإسلامية تتحدث عن تمكين دين الله في الأرض ووجوب هيمنة الشرع على كل أمور الدولة ومع ذلك تنفي عن نفسها السعي لذلك وكأنه تلوث.
بل إن السعي للسلطة حتى على مستوى الفرد قد يكون مشروعاً إن أحسّ أنه يسد ثغرة في تقدمه للصفوف وتحمّله المسؤولية وأن تخليه عن تلك المسؤولية يسبب ضرراً. ومن طبيعة البشر أن يكون المؤهلون قيادياً قليلين، ولذلك فإن تصدّي أمثال هؤلاء للمسؤولية واجب متعيّن والتخلي عنها ورع باردٌ وزهدٌ مذموم.
ثالثاً: استخدام القوة خيار لا يجوز إسقاطه
شُرع الجهاد في الإسلام بأدلّةٍ قطعية الثبوت قطعية الدلالة لا مجال للتشكيك فيها، وبذل علماء الإسلام جهداً هائلاً في بيان أحكام الجهاد وشروطه وأركانه وتغيّر حالاته مع تغير الظروف والمعطيات. ولم يقتصر العلماء على أحكام الجهاد في حالة الخلافة الإسلامية، بل ناقشوا أحكام الجهاد عند زوال الخلافة وتفرق المسلمين وتسلط الظلمة ولم يتركوا فراغاً فقهياً في ذلك. وناقش العلماء باستفاضة أحكام الدفاع عن الدين والنفس والمال والعرض والأرض وما يسمى بدفع الصائل وعلو المرتبة الجهادية لمن يقول الحق عند سلطان جائر.
ورغم ما أكده علماء الإسلام في ذلك فقد بالغت التيارات الإسلامية في النأي بنفسها عن استخدام القوة إلى حد طمس مفهوم الجهاد وإعادة تأسيس البرامج والمناهج على استبعاده تماماً. وهم في هذا التخلي عن الواجب لا يقصدون ما يقوله علماء السلف من مشروعية كف اليد في حالات، وتغليب جهاد الكلمة على جهاد السيف في حالات أخرى، إنما يقصدون تجاهل مفهوم الجهاد وتربية الكوادر على السلمية المطلقة والنأي بأنفسهم عن أي استخدام للقوة بل ربما الوقوف مع الطغاة ضد من يستخدم القوة حتى لو كان مجتهداً.
ولهذه الأسباب فإن هذه التيارات تتضايق تلقائياً ممن يلجأ لاستخدام القوة ثم لا تكتفي بالنأي عنه بل تضع نفسها في خندق واحد مع الأنظمة المعادية للإسلام والشعوب وتكرر نفس سردية النظام في التعامل مع من يستخدم القوة ضد السلطة وتشوه صورته بمبررات دينية. وربما شارك رموز هذه الحركات في الحملات الإعلامية التي تشنها الأنظمة ضد الجهاديين، وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك وهو المشاركة في الحملة الأمنية مع الأنظمة وكأنهم جزء من أجهزة المخابرات.
نعم لا بأس بالتحايل في بعض العبارات والتصرفات منعاً لإعطاء الأنظمة ذريعة للبطش، لكن لا يجوز اتخاذ موقف استراتيجي بالتخلي عن القوة أو معاداة من يستخدمها أو الوقوف مع الأنظمة ضده. وعلى التيارات الإسلامية أن تدرك بعمق أن إسقاط خيار القوة أو معاداة من يستخدمه هو تخلٍ عن جزء من المشروع الإسلامي نفسه.
رابعاً: لا نصيحة للحكام بل توبيخ وتقريع وإنذار
الحكام في المنطقة العربية ليسوا جهلةً يُعلَمون ولا غافلين يُنبَّهون ولا ناسين يُذكَّرون، بل هم يرتكبون الكفر البواح والظلم والفساد والبطر والخيانة والعمالة عن علم وإدراك وقصد. ثم إن الأجيال السابقة واللاحقة لم تقصّر في إقامة الحجة عليهم وبراءة الذمة معهم، وكان مصير كثير ممن حاول إقامة الحجة القمع والسجون وربما التعذيب والقتل.
يحتجّ البعض بقول الله تعالى مخاطباً موسى وهارون عند ذهابِهما لفرعون "فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى"، لكن القرآن نفسه يؤكد أن موسى غير اللهجة حين أقيمت الحجة على فرعون في قوله تعالى " قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا". هذا مع أن مقارنة فرعون مع حكام العرب ليست في صالحهم.
فإذا كان حكام العرب عملاء خاضعين لدول أخرى فإن فرعون كان حاكما مستقلاً ودولته كانت دولة كبرى في وقته. وإذا كان حكام العرب يرفضون المواجهة ولا يعطون المعارض فرصة للمناظرة فإن فرعون أعطى موسى فرصة لعرض ما عنده أمام الناس وواجهه بالسحرة من عنده. وإذا كان حكام العرب منافقين جبناء كذابين يدّعون الالتزام بالدين وهم يحاربونه فإن فرعون كان واثقا من نفسه يقول أنا ربكم الأعلى. هذه المقارنة ليست تزكية لفرعون إنما هي إثبات أن حال حكام العرب أسوأ من فرعون.
خامساً: خطاب الشعوب هو الدعوة للتغيير الشامل
ما دامت الأنظمة الحاكمة قد مَرَدَت على الظلم والاستبداد والخيانة والعمالة فلا بد أن تكون الرسالة الموجهة للشعوب واضحة في أن هذه الأنظمة عدوة للشعب ومحاربة لدينه وخادمة لأعدائه وساعية في تخريب أخلاقه وقيمه وسحق كرامته. وبناء على هذا التوصيف للأنظمة فيجب أن يكون واضحاً في الخطاب أن لا خيار للشعب إلا التغيير الشامل وبذل الجهد في العودة لمظلّة الدين وتحقيق الشورى والعدالة والكرامة والحرية.
وعلى الحركات الإسلامية أن تقوّي ذخيرتها في تفنيد كل مبررات الشرعية التي تطرحها الأنظمة سواء كانت مزاعم دينية أو غير دينية. وتتمة لضرب شرعية الأنظمة فلا بد من أن يشتمل الخطاب على إسقاط هيبة الأنظمة وبيان هشاشتها ما دامت تمارس الخيانة والتبعية. وتحديداً لا بد من فضح حقيقة أن قوة الأنظمة معتمدة على البطش ودعم الأعداء وليست معتمدة على شرعية دينية ولا قناعة شعبية .
وهذا الخطاب لا يتعارض مع تعليم الناس مبادئ العلم الشرعي والتربية على الأخلاق الإسلامية، لماذا؟ أولاً: لأن تعليم الناس يوجد من هو متفرغ له، وثانياً: لأنّ بيان سبيل المفسدين جزء من مبادئ العلم الشرعي والتربية. أما إن كان القمع سيئاً إلى درجة منع الحد الأدنى من تعليم الناس دينهم فإن الحاجة لخطاب التغيير الشامل أولى لأنه وسيلة في تمكين الشعب من تعلم مبادئ دينه وإصلاح أخلاقه.
سادساً: العالم والمثقف الموالي للسلطة خائن ولو حسنت سيرته
اصطف مع الأنظمة الحاكمة عدد من علماء الدين ومثقفي الإسلاميين، ودأبت كثير من الحركات الإسلامية على مجاملتهم بل التأكيد على احترام مرجعيتهم الدينية والفكرية. وهذه الممارسة فضلا عن أنها مخالفة شرعية فإنها خطأ استراتيجي لأنها مثل من يطلق النار على نفسه باختياره.
ألا تدرك هذه الحركات الإسلامية أن من يعطي الحكام شرعية إنما يطلب من الشعب طاعة عدوٍّ من أعداء الله؟ ألا يدركوا أن هذه ليست معصية فحسب بل قد تكون مخرجة من الملة؟ فكيف تقبل الحركات الإسلامية ترميز مثل هذا واحترام مرجعيته؟
ثم ألا تدرك الحركات الإسلامية أن الأنظمة تبطش وتقمع مستفيدة من الشرعية التي يضفيها عليهم هؤلاء؟ ألا يدركوا أن ترميزَهم واحترام مرجعيتهم هو إضفاء مشروعية على الحملة الموجهة ضد نفس هذه الحركات الإسلامية وكوادرها؟
وبهذا فلا بد من البيان للأمة عن الكارثة الضخمة التي يرتكبها العلماء والمثقفون بالفتوى بطاعة أعداء الله أو بالتنظير لشرعيتهم. وإذا كانت الحركات الإسلامية تتحرج من مهاجمة هؤلاء العلماء والمثقفين خاصة إن كانت سمعتهم الشخصية جيدة فعلى الأقل لا يجري التعامل معهم برمزية ومرجعية.
ثغرات أخرى
تعاني الحركات الإسلامية كذلك من قصور في فهم النظام العالمي والنظام الإقليمي والعجز عن التعامل مع المؤسسات المجتمعية التقليدية وعدم استثمار الشخصيات المؤثرة، إضافة إلى ثغرات أخرى لا يتسع المقام لذكرها. وطرح مثل هذا المقال ليس حلاً للعجز الاستراتيجي عند هذه التيارات وإنما هو دعوة لأن تراجع مناهجها وبرامجها وخططها حتى تتحاشى هذه الثغرات وغيرها.