top of page

٣ شعبان ١٤٤٦ هـ

ثورة الاتصالات والإسلام السنّي

بقلم الدكتور سعد الفقيه

درج الكثير من القلقين على الأمة، سواء من منطلقات إسلامية أو قومية، على التحذير من ثورة الاتصالات والمعلومات خوفاً من فرض نمط الحياة والتفكير الغربي والأمريكي تحديداً. وهذا القلق له ما يبرره، فإن الغرب في هذه المرحلة من التاريخ متفوق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتقنياً، والإنتاج المادي والإعلامي الغربي يؤثر في السلوك والفكر وفي الهوية والانتماء.


لكن ثورة الاتصالات والمعلومات قبل أن تكون اختراقاً اجتماعياً وفكرياً وسلوكياً، كانت -ولا تزال- أدوات تقنية فقط، تُمكّن الإنسان من نقل الكلمة والصورة والمعلومة والفكرة أو حفظها أو تسهيل الوصول إليها، وتمكنه كذلك من مخاطبة الآخرين والتفاعل معهم من خلالها. 


هذا الجانب التقني، وإن كان ابتكاره في الأصل غربي، فإنه متوفر لجميع البشر، يستخدمونه بما لديهم من محتوى فكري وفني وعاطفي أو بأي محتوى آخر. والتطورات الأخيرة في التقنية قضت تقريباً على احتكارها، فأصبحت فرصة استخدامها متساوية من قبل من لديه الحد الأدنى من القدرات المدنية.


كون هذه الثورة معتمدة على تقنية “غير متحيزة”، وكون استخدامها حتمياً أثبت مع الزمن إمكانية تحقيق مصالح كبيرة من خلالها، ربما تزيل في نهاية المطاف هذا القلق منها وتجعل من حاول فرضها علينا أكثر قلقاً من استخدامنا لها.


ومن يرى هذه الثورة شيطاناً متغولاً يهدف لنزع هوية الأمة من قلوبها و إلباسها هويةً مصطنعة استهلاكية لا تمت لدينها أو جغرافيتها بصلة، عليه أن يعلم أن كونها في الأصل تقنية مجردة أفادت الإسلام، بل الإسلام السّنّي تحديداً، ووصلت الإفادة حداً قل وجوده في تاريخ الأمم عامةً والإسلام خاصةً. وهذه الفوائد مصالح حقيقية، يمكن رصدها على مسار العمل الإسلامي وبالأخص السّنّي.


النصوص بين يدي الجميع

المصلحة الأولى سهولة الوصول للنّصوص الدينية وتفسيرها وشرحها والاستنباط منها ومعرفتها، حيث يمكن لمعظم البشر بعد هذه التقنية أن يَطّلعوا على تفسير القرآن وشرح الحديث وكلام العلماء ليس باللغة العربية فحسب بل بعشرات اللغات. وهذه السهولة في الإطلاع على النصوص تعني كذلك سهولة الإطلاع على الجدل الذي جرى بين العلماء في التاريخ الإسلامي أو بين المسلمين وغير المسلمين، وهي قدرة لم تكن متوفرة قبل هذه التقنية إلا لكبار العلماء أو الباحثين المتفرغين. 


نهاية الاحتكار

المصلحة الثانية أن فضاء التواصل ميدان مفتوح وغير متحيز للحوار والنقاش والجدل سواءً بين أصحاب الرأي في المذهب الواحد، أو أصحاب المذاهب المختلفة داخل الدين الإسلامي، أو بين أصحاب الديانات والفلسفات المختلفة. قبل عقود قليلة لم نسمع إلا بمناظرات أحمد ديدات، أما الآن فالمنصات مليئة بآلاف المناظرات والنقاش في كل فكرة عقدية أو شرعية أو تاريخية أو فلسفية أو اجتماعية. 


وسلاح المشاركين في هذه المناظرات والنقاشات ليس إرهاب الحكومات ولا ترغيب المتنفذين بل هو قوة حجتهم المبنية على المنطق والأدلة النقلية والعقلية. ومن نتائج تحقيق هذه المصلحة أن الناس أصبحت تستهجن من يرتكز على القوة في تمرير قوله وفكره، ويتهكمون بأنصار الأنظمة القمعية الذين لا يزالون يخدعون أنفسهم أن منع الكتاب الفلاني ينفع في احتكار الرأي.


ولم يكن غريباً أن يكون الإسلام متفوقاً أمام الفلسفات والأديان الأخرى بسبب ما فيه من تماسك العقيدة وبساطة الفطرة ووضوح الفهم للإنسان والحياة والكون والغيب. ولعل هذا هو السبب في زيادة المتحولين من الديانات الأخرى للإسلام في العقود الأخيرة.  أمّا داخل المذاهب الإسلامية فلأن الإسلام السّنّي يتفوق في توثيق النصوص وانضباط المَنهج في الفهم والاستنباط وانسيابية العلاقة بين العقل والنقل مقابل إشكالات المذاهب الأخرى في توثيق النصوص واضطرابها في تحديد دوائر العقل والنقل، فلم يكن غريباً أن يكون الإسلام السّنّي هو المستفيد الأكبر من هذه الثورة مقابل بقية المذاهب.


فرصة متساوية في مخاطبة الجمهور

المصلحة الثالثة أن ثورة الاتصالات والمعلومات وفرت الفرصة لكل من كان ممنوعاً من منصات الخطاب الجماهيري أن يوصل صوته للناس بكل الثقل الذي تحمله وجهة نظره، بل مكّنته أن يصنع منصة خاصة به يخاطب بها الناس أو يناظر بها الآخرين. وحتى لو تعرض هذا الرمز للقمع أو القتل فإن مساهماته تبقى مخدومة من قبل كثير من مريديه وربما يكون القمع سبباً في مضاعفة انتشار مساهماته. وهذه كذلك نتج عنها تفوق لدعاة الإسلام عموماً والإسلام السّنّي خصوصاً لنفس الأسباب.


آثار هذه الثورة المعلوماتية 

الجدل من طبيعة البشر ولهذا يستحوذ على جزء كبير مما تقدمه وسائل التواصل المختلفة ومن ثم يؤثر تلقائياً في السلوك البشري سواء بشكل مباشر لمن يشارك فيه أو بشكل غير مباشر لمن يتابع النخب التي تشارك فيه. ولذلك فإن الأثر المترتب على هذا الجدل ليس محصوراً على النصوص وشرحها والاستنباط منها بل هو ممتد لأثرها الشامل ومقاصدها الكلية ومن ثم ينعكس على شكل آثار حضارية قد لا تتبين إلا بعد سنين أو عقود. 


صراع الهوية

من هذه الآثار صراع الهوية والانتماء في الإسلام مع الانتماءات الدينية والقومية والفكرية الأخرى، حيث يقدّم الإسلام هويةً متكاملةً تعطي الإنسان قوةً في الانتماء تصل إلى الحدّية، بلا مناطق رمادية. ويتفرع عن صراع الهوية مواجهة خاصة مع العلمانية فقط وهي معركة الاستعلاء، فلا الإسلام "السّنّي" يرضى بأن يكون تحت مظلة أي فكر أو منهج، ولا العلمانية ترضى بأن تكون تحت مظلة الأديان، فضلاً عن الدين الذي ينافسها في كل المجالات. 


صراع الشّمول والواقعية

ومن هذه الآثار تحدي الإسلام للديانات والأفكار الأخرى بطرحه الشامل فهو مشروع تربوي إيماني اجتماعي اقتصادي سياسي يحدد علاقة الإنسان بربه ثم بنفسه وبقية البشر والحياة والموت والأرض والكون كله. باختصار، يطرح الإسلام برنامجاً متكاملاً يشرح الوضع من البداية إلى النهاية، في دائرة متجانسة، تستطيع الوصول إلى أبعد نقطة دون الحاجة لمساعدة خارجية.


صراع الأخلاق والروحانيات 

ومن هذه الآثار تجاوز الماديات إلى الروحانيات والإيمان والأخلاق الفضيلة. ومع أن هذه الصفة متوفرة في الكثير من الديانات السماوية والوثنية، لكنها في الإسلام السّنّي تختلف في كونها مُنسابة مع طبيعة النفس الإنسانية و متوافقة مع منطق العقل. وفضلاً عن تفوق الإسلام على الديانات الأخرى في الروحانيات والأخلاق فهو بالطبع يتفوق على العلمانية الخالية من الروحانيات والأخلاق لأنها قائمة بشكل مطلق على اللذة والمنفعة. ومن الملاحظات المعروفة على العلمانية أنها لا تملك إلا أن تسن قائمة من الممنوعات في القوانين لأنّها منزوعة القدرة على الدعوة للفضيلة.


تحدي الإلزام

ولأن الإيمان يؤدي إلى الالتزام فلا يملك المسلم إلا أن يخدم رسالته في هذا الفضاء دون تكليف من سلطة ولا مصلحة مادية. هذا الإلزام يدفع كثيراً من المسلمين على اختلاف قدراتهم وعلمهم للمساهمة في استثمار هذا الفضاء رغبة في الأجر وخوفاً من الإثم في التخلي عنه. 


هذه الآثار التي يتمظهر فيها الإسلام السّنّي لم تكن لتجتمع فيه، لولا أنها حُمِلت بكفاءة في ذلك الوعاء المحفوظ وهو النص المقدس عند المسلمين بشقيه الكتاب والسّنّة على فهم الصحابة. وهذا ما يجعل مرجعية الإسلام السّنّي ليست في كيان بشري مثل الفاتيكان أو الحوزة أو شيخ الصوفية، بل هي في ذات النص وبفهم الصحابة دون غيرهم.

  • Whatsapp
  • Twitter

عبدالله الغامدي

د. سعد الفقيه

  • Whatsapp
  • Facebook
  • Twitter
  • Snapchat

للإتصال بنا عن طريق البريد الإلكتروني:

لدعم نشاط الحركة الإعلامي:

Digital-Patreon-Wordmark_FieryCoral.png
bottom of page