top of page

١١ شوال ١٤٤٥ هـ

حتمية التدرج في النهضة الحضارية

بقلم الدكتور سعد الفقيه

هل الربيع العربي بداية نهضة أو نهاية صحوة؟

للإجابة على هذا السؤال لا بد من استدعاء التاريخ وتجارب الشعوب في التخلص من الظلم والاستبداد، واستحضار السنن الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل، وفهم الأحداث بتفاصيلها وسياقاتها ودراسة القضية بمنهجية علمية ونظرة شاملة.


في استعراض التاريخ العالمي يتبين أن بعض الشعوب مرت بمسارين في مواجهة الظلم والاستبداد، انتهى أحدهما بتغيير سياسي واجتماعي واقتصادي شامل، وانتهى الآخر إلى إجهاض مكتسبات سابقة والعودة بها إلى وضع أسوأ مما كانت عليه. ودراسة الفرق بين المسارين يفترض أن تعين على تقويم تجربة عالمنا خلال وبعد الربيع العربي وهل كانت بداية نهضة أو نهاية صحوة. ومن خلال تتبع الثورات الكبرى في التاريخ التي أدت لتحوّلات تاريخية شاملة وما يقابلها من نزوات عابرة وغضب زائل يمكن رصد الفروقات التالية


الانتشار الأفقي والعمودي

الثورات المؤدية لنهضة حضارية معروفة بسعة الانتشار أفقيا وعموديا. ربما يكون انطلاقها محدداً بمكان معين وظرف معين وفئة معينة من الشعب لكن يتبين أن ذلك ليس إلا شرارة تبعث التحرك في كافة الأماكن التي تمثل أمة معينة وكافة طبقات وشرائح المجتمع.


أما الغضب العابر فدائماً يكون في مكان واحد أو أماكن قليلة، أو لفئة محددة مثل العمال والفلاحين، وتكون عادة مرتبطة بالكامل بظرف انطلاقها وتموت معه في مكانها.


الربيع العربي حقق انتشارا تجاوز المدينة الواحدة إلى كامل الدولة، ثم تجاوز الحدود القُطرية، وواصل المسيرة لدول كثيرة، ثم إنه في كل هذه البلدان اشتمل على كافة فئات المجتمع وشارك فيه معظم شرائح الشعب. ومن خلال هذه الحقيقة نحن لا شك أمام نهضة وليس أمام غضب عابر حتى لو كنا في مرحلة الثورة المضادة.


التغيير الشامل والقيم الكبرى مقابل المطالب الفئوية و النزعة النفعية

النهضة الحضارية مطلبها تغيير شامل، بإزالة آثار الماضي واستبدالها بأسس جديدة للحياة الاجتماعية والسياسية، وإعادة تنظيم علاقة الشعب مع بعضه ومع حكامه.  ويكون أساس  هذه المطالب إدراك وتشرب قيم كبرى مثل الكرامة والحرية والعدالة والهوية والانتماء والمسؤولية الجماعية.


وحتى لو كانت الدوافع التي قدحت شرارة الثورة بطالة أو حرمان أو فقر، فإن الثائر لم يغضب لأنه حرم منها كفرد، بل يغضب لأنها حق له ولبقية الشعب، وعلى النظام أن يوفرها. وربما يكون انطلاق التحرك لأجل مطلب محدود، لكن سرعان ما يتحول -بسبب جاهزية الناس- إلى مشروع شامل بإصرار على تغيير كلي حتى لو بعد حين. وليس متوقعا ممن يشارك في هذا الزخم أن يفلسف هذه المعاني بنفسه وبكلماته، لكنها ستبقى هي دافعه الحقيقي وفي ضميره، وإن لم يستطع التعبير عنها.


أما الغضب العابر فغالبا ما يكون من أجل قضية واحدة، إما أن تُشبع فينتهي الغضب، أو تقمع فينتهي الحراك، ولا يمكن أن يتحول هذا الغضب إلى مشروع شامل ولا ينبني عليه منهج للتغيير.


كانت كل شعارات الربيع العربي مطالب تغيير شامل على أساس القيم الكبرى المذكورة، ولم تكن مطالب فئوية ولا محدودة بل إنها استمرت لعدة سنوات على هذا الأساس، ولهذا فنحن في حالة الربيع العربي أمام نهضة شاملة وليس غضبة عابرة.


المواصلة رغم العراقيل مقابل الانقطاع الكامل

الثورات الكبرى في التاريخ تبقى متواصلة  على مدى سنوات أو عقود، وقد تخمد حتى يبدو أنها انتهت ثم تعود أقوى مما كانت ويبقى كادرها أكثر حرصا على التغيير الشامل والقيم الكبرى. وحين تخمد الثورات الكبرى لا يقبل الناس بقدرهم بل تتحول الشعوب إلى كتلة حقد على الأنظمة ورغبة بالانتقام عند توفر الفرصة.


أما الغضب العارض  فهو انتفاضة مؤقتة توفرت ظروف لترجمته على شكل تحرك محدود، بدوافع عاطفية قابلة للامتصاص والاحتواء، يزول أثرها بالكامل خلال فترة قصيرة. وعند رشوة الغاضبين أو قمعهم يقبل الشعب بقدره وكأن شيئا لم يكن.


وصمود مسيرة الربيع العربي كل هذه السنين، وإصرار أهله رغم الصعوبات الهائلة ورغم التعاون العالمي لإيقافه، وتراكم الشعور بالحقد على الأنظمة واعتماد الأنظمة على القمع فقط لبقاء سلطتها دليل على أنه مسيرة متواصلة وليس غضبا عارضا قابلا للامتصاص والاحتواء.


حتميات تواجه مسيرة النهضة الشاملة

أثبت التاريخ أنه في مسيرات التغيير الكبرى هناك حتميات "سنن" لا يمكن تفاديها مطلقاً، ولا بد أن تواجهها الشعوب بكل آلامها وصعوباتها. وإذا لم تستحضر هذه السنن فإن غالب المراقبين ينحون منحى اليأس والقنوط، وتأخذهم العجلة والسطحية إلى الاستنتاج أن هذا هو القدر والمصير ولا أمل بنهضة ولا تغيير شامل.


الحتمية الأولى هي الحاجة للزمن الذي يستغرق سنيناً وعقوداً، حتى تستكمل الثورة مسيرتها في نهضة حضارية. ثورة كرومويل في بريطانيا احتاجت أربع سنوات لحسم الأمر مع الملك، ثم امتدت عشرين سنة أخرى لاستثمار هذا النصر. الثورة الفرنسية استغرقت في البداية عدة سنوات حتى وقفت على قدميها، ثم لم تنضج بشكل كامل إلا بعد عقود. وهذا هو حال الثورة الأمريكية والبلشفية، بل وحتى العباسية على الأمويين.


الحتمية الثانية هي الفوضى المصاحبة للنهضة التاريخية، والتي تتفاوت من غياب السلطة المركزية إلى حروب أهلية يطول مداها. كرومويل في بريطانيا لم يتمكن من حسم الثورة إلا بعد سلسلة معارك طويلة، ذهب ضحيتها مئات الألوف من القتلى، وهكذا الثورة الأمريكية والبلشفية. أما الثورة الفرنسية فعانت من فوضى عظيمة حتى تنبأ أهم شخصية في الثورة وهو روبسبير بأن الشعب الفرنسي سيتمنى قائداً عسكرياً مستبدا يخلصه من هذه الفوضى، وصدقت نبوءته عندما احتفى الفرنسيون بنابليون. ولم تنته المسيرة بنابليون لأنه هو ذاته أعاد جزءا من الاستبداد ونصب نفسه إمبراطورا، و كان لا بد من مرحلة إضافية تستكمل فيها فرنسا مسيرة النهضة.


الحتمية الثالثة أن مقاومة الثورة لن تقتصر على السلطة المستبدة وقواها الأمنية والعسكرية بل يساهم فيها فئات أخرى منهم كثير من المنتفعين بالوضع الخاطيء من هذه السلطة ومنهم من انغمس في جو السلطة ومفاهيمها حتى ظنها هي السبب في حياته حتى لو لم يكن مستفيدا. وهؤلاء عادة جزء من الدولة العميقة حتى لو لم يكونوا داخل مؤسساتها. ولم تعجز ملكية بريطانيا في تجنيد أمثال هؤلاء ضد كرومويل ولم تعجز ممالك أوربا في تجنيد الملكيين الفرنسيين ضد الثورة الفرنسية وما يسمى بالجيش الأبيض ضد الجيش الأحمر في روسيا.


الحتمية الرابعة هي تآمر القوى التي تخشى من نزعة الحرية ضد هذه الثورات، بجهد هائل وتضحيات عسكرية ومالية كبيرة، لأن في ذلك حماية لكيانها. وما جرى مع الربيع العربي، له سابقةٌ تكاد تكون نسخة منه، وهي تآمر ممالك أوروبا المستبدة ضد الثورة الفرنسية، وتدخلها استخباراتياً ومالياً وعسكرياً من أجل إعادة الملكية. ورغم الانتصار العسكري الظاهري لهذه الممالك، إلا أن النتيجة النهائية تحول كل أوروبا الملكية للديمقراطية وليس العكس.


الحتمية الخامسة هي فزع قوى عالمية لا تخشى من عدوى الحرية، لكن تخشى من آثار نهضة الأمة المتحررة. النموذج الأوضح تاريخيا هو ما قامت به بريطانيا من محاربة للثورة الفرنسية، رغم أنها سبقت فرنسا إلى الحريات والحقوق. والسبب إدراك البريطانيين أن فرنسا ستكون أقدر على منافستها حين تتمتع بالحريات والحقوق، من قدرتها على المنافسة وهي في ظل ملكية مستبدة. ومثله حصل في الربيع العربي حين تحرك الغرب الليبرالي الديموقراطي ومعه إسرائيل ضد ثورات الربيع العربي، لأن الغرب يدرك أنها ستُخرج العرب من فلكه بالكامل، وستجعل مصير إسرائيل زوالا محتوما.


الحتمية السادسة صعوبة بناء تشكيلة قيادية ناضجة بعد الثورة مباشرةً، وظهور نماذج مختلفة من العجز الإداري والتنظيمي في السلطة تضاعف مشكلة الفوضى والانكشاف أمام الخصوم. والسبب في ذلك أن هذه الشعوب عاشت تحت أنظمة شمولية تخنق الفضاء العام وتتسلط على الفضاء الخاص، وتمنع بالقوة ظهور بيئة خصبة لإنتاج القيادات المبدعة. فالمبدعون والمفكرون والمصلحون والأكفاء مصيرهم إما القتل أو السجن أو الإبعاد عن فرصة الترميز في المجتمع.


وطول أمد هذه المدة "قبل الثورة" كفيل بتَعويد المجتمع على الاتكال في كل شؤونه على السلطة الشمولية. وفي حال الثورة والخروج من هذا الوضع الخانق، يصبح الثوار كمجموعةٍ تسعى لقيادة طائرة وصيانتها، وليس بينهم طيار ولا مساعد طيار وَلا مهندس طيران ولا فني صيانة.


عودة على السؤال الأول

هذه الصعوبات التي يتعرض لها الربيع العربي، والتي يعتبرها البعض دليلا على فشل الثورات هي في الحقيقة دليل على العكس وهو أنه يحمل ملامح النهضة الحضارية، التي سيكون مآلها نصر هذه الشعوب المستضعفة، وتمكين قوى الخير والحق لأن تتولى زمام الأمور. كما أنه دليل على أن المسيرة طويلة والصعوبات التي ستلاقيها الشعوب لن تنتهي عند انقلاب هنا أو مجزرة هناك. بل هناك مشاكل وأمراض أكبر وأعمق لم تظهر على السطح بعد.


وإذا استحضرنا مبدأ المؤرخ توينبي في نظرية "التحدي والاستجابة"، فإن هذه التحديات ستزيد الربيع العربي صفاءً وقوةً ومتانةً، والاستجابة لها سوف تنقل هذه الشعوب المستضعفة، إلى مرحلة تفوق حضاري وقيادة بشرية بانت ملامحها بحمد الله.

bottom of page