١٤ جمادى الآخرة ١٤٤٤ هـ
حجم التحدي العلماني
بقلم الدكتور سعد الفقيه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله… أما بعد
نظرة قاصرة
في نزعة اختزالية يظن البعض أن العلمانية لا تعدو أن تكون مدرسة فكرية تكفي مواجهتها بالجدل والمنطق والتربية الروحية. هؤلاء لا يدركون أن العلمانية فرضت نفسها فِكرا وسياسة واقتصادا و قانونا، وتمكنت داخل معظم الدول (إن لم تكن كلها)، وصارت أساسا للنظام العالمي والمؤسسات الدولية، ومرجعية للجنس البشري في العلوم والقانون والتاريخ والعلاقات وكل شؤون الحياة. ولم يكن هذا نتاج فكرة عابرة أو مؤامرة من جماعات وأحزاب، بل هو تراكم ضخم لجهد فكري بشري هائل على مدى مئات السنين أزاح الأديان وانتهى بشكله الحالي المتكامل.
ما الذي مكّن العلمانية أن تفرض نفسها بهذه الطريقة التي تغلغلت في الكيانات البشرية بكفاءة وثبات؟ وكيف يمكن مواجهة هذا التحدي العلماني؟
سياسة وقانون واقتصاد
قدمت العلمانية منظومة كاملة للسياسة والاقتصاد والقانون، وهي الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة. وتمكنت العلمانية من ذلك بسبب غياب الثوابت والقيود بعد أن تحرر الأوربيون من الكنيسة وتبعهم بقية العالم في تطور مستمر رسّخ نفوذ العلمانية وجعلها خيارا لا يبدو له منافس في حياة البشر. هذه المرونة جعلت العلمانية وعاء مناسبا لتمكين البشر من صياغة نظام سياسي و تعامل تجاري وقوانين لفض المنازعات، ثم تعديلها أو تبديلها بما يظنون أنه يناسبهم. ورغم تفاوت النظريات السياسية والاقتصادية والقانونية داخل الوعاء العلماني بسبب غياب الثوابت ألا أنهم يعتبرون هذا التفاوت ميزة ومرونة وقابلية للتكيف مع متطلبات وتحديات الحياة.
تفسير الظواهر الحياتية
قدمت العلمانية كذلك منظومة كاملة في تفسير كل الظواهر الحياتية وجعلت "العلم" بديلا عن أي تفسير ديني لهذه الظواهر. فمثلا كل الظواهر الفيزيائية من الذرة إلى المجرة تُفسّر بقوانين ثابتة يمكن حسابها رياضيا، ونشأة الحياة وانتشار الكائنات الحية يمكن تَفسيرها بنظرية التطور، والمشاعر والعواطف يمكن تفسيرها بنشاطات كهربائية وتفاعلات كيميائية في الجهاز العصبي. وأدى تراكم الجهد البشري في ذلك إلى وضع منهجية شاملة وملزمة لا يمكن الخروج من إطارها، يطلقون عليها وصف "علميّة" وهي منهجية مادية صرفة. وتَشَكّل تبعا ذلك ما يسمى بـ"الطريقة العلمية" التي تمنع أن يأتي أي ذكر للدين -ولا في التعليق الهامشي- في أي ورقة علمية أو بحث أو كتاب. الأغرب من ذلك أنه حتى الدين نفسه وأثره في المجتمعات صار خاضعا للمقاييس العلمية المزعومة.
سهولة المشروع العلماني
المشروع العلماني ليس فيه ثوابت ولا ممنوعات أصلية، والمطلق الوحيد في العلمانية هو اللذة على مستوى الفرد والمصلحة على مستوى الجماعة. وإذا كانت اللذة والمصلحة في ذاتها قضايا تقديرية فإن المطلقات تذوب تماما وتصبح الحياة كلها "سائلة". فغياب الممنوعات يعطي مساحة واسعة للبشر لاختراع حلول لقضاياهم السياسية والاجتماعية، مما يعني إطلاق العنان للإبداع البشري في حل أي معضلة يقابلها الإنسان. هذا بالطبع فيما يبدو لمن جرب الأديان الأخرى غير الإسلام والتي تفرض قيودا دون توفير حلول فتجمّد الجهد البشري، مما جعل العلمانية في ذهنهم حلا نهائيا. ولذلك فإن كثيرا من المتدينين من غير المسلمين متشربون للعِلمانية كمنهج حياة لأن أديانهم تعجز عن توفير ما وفرته العلمانية من فضاء للإبداع بل تحول دون ذلك.
الانسجام مع الدولة القطرية
لا يمكن للدولة القطرية أن تتشكل في أفضل صورها إلا بالعلمانية، لأن الهوية والانتماء في الدولة القطرية الحديثة ليس لدين أو مذهب بل هو لكيان الدولة الجغرافي الذي يفترض أن يستوعب كل الأديان والمذاهب. سبب آخر يمنع تأسيس الدولة القطرية على الدين هو أن كل هذه الأديان (ما عدا الإسلام) ليس فيها برنامج سياسي واقتصادي وقانوني تسيّر به الدولة شؤونها. ولذلك فإن الدول التي تحاول أن تعطي لنفسها هوية دينية مثل إسرائيل والهند وميانمار لا يتعدى دور الدين فيها عنصرية ضد المسلمين وما عداه فإن دور الديانة في المشروع السياسي والاقتصادي والقانوني محدود جدا.
الالتصاق الكاذب بالديمقراطية
ارتبطت العلمانية كذبا بالديمقراطية و الحرية و حقوق الإنسان، واستقر في أذهان الكثير أن العلمانية هي التي توفر العدل والكرامة والحرية وما يتبع ذلك من استقلال القضاء وسلطة القانون وقدسية الملكية الفردية. و هذا الاعتقاد باطل لأن العلمانية ظهرت بكل نماذج الدكتاتورية والظلم في الفاشية والنازية والشيوعية والصهيونية والنظام العنصري في جنوب أفريقيا ، ونتج عنها أسوأ أشكال القمع والعنصرية وانتهاك حقوق الإنسان. وهناك من يطور الفكرة ويدعي أن الديموقراطية هي النموذج النهائي الذي تستقر عليه العلمانية بناء على نظرية نهاية التاريخ، لكن حتى صاحب نظرية نهاية التاريخ (فوكوياما) تراجع عنها حين لاحظ الانشقاق الاجتماعي في الغرب والتكتلات التي ستعيد المجتمعات بشكل أو بآخر لِلدكتاتورية والعنصرية.
التقنية والصناعة
تزامن صعود العلمانية مع انتعاش التقنية والإبداع العلمي بدءا بالثورة الصناعية و الماكنة البخارية ووصولا إلى الذكاء الاصطناعي وغزو الفضاء. ولا يلام الغربيون وكثير من أصحاب الديانات الأخرى (غير الإسلام) إذا ربطوا التطور الصناعي والتقني بالعلمنة، لأن رجال الدين حاربوا الإبداع ووصفوه بـ "الهرطقة" وحاكموا العلماء وسجنوهم وعذبوهم وقتلوهم، فلم يكن غريبا أن ينسب أي تطور إبداعي للخلاص من الأديان. ولم تنته آثار ذلك أبدا بل بقيت في الوجدان البشري وتحولت إلى قاعدة ثابتة أن لا إبداع إلا بالعلمانية، وحتى المتدينين من العلماء في الغرب يضعون حاجزا مفتعلا بين تدينهم وبين إبداعهم ونظرياتهم العلمية. وبالطبع فإن من المسلم به أن هذه المشكلة ليس لها وجود في الإسلام، بل إن الإسلام لا يكتفي بالسماح للعلماء بالإبداع بل يأمرهم به والسعي إليه.
الإبداع الإداري والتنظيمي
في موازاة الإبداع التقني والصناعي تزامن صعود العلمانية مع الإبداع الإداري والتنظيمي، وإيجاد أسس للكِيانات البشرية والمؤسسات المنبثقة عنها سواء على مستوى الدولة أو المجتمع أو الشركات أو على مستوى المؤسسات العابرة للدول. كانت الكنيسة تمنع أي تنظيم أو مؤسسة خارجة عن سلطتها وتلزم المجتمع بأن كل نشاط بشري يجب أن يتفرع عن علاقة الملك بالكنيسة، فنتج عن ذلك جمود وعجز وفشل إداري ولتنظيمي. وبعد التخلص من الكنيسة وصل الإبداع في علم الإدارة والتنظيم والتواصل البشري لمستويات لا تقل عن الإبداع في التقنية، بل هناك تداخل بينهما لأن التقنية ساهمت في تطور الإدارة والعكس صحيح.
النظام العالمي
فرضت العلمانية نفسها كمرجعية عالمية من خلال المؤسسات الدولية والنظام العالمي والقانون الدولي. هذه السلطة العالمية المبنية بشكل مطلق على العلمانية لا يمكن الخروج عنها أبدا حتى من قبل الدول الكبرى. وهذه السلطة هي التي تضمن المستوى الأول من النظام العالمي وهو بقاء الدول القطرية بحدودها الحالية، وتضمن المستوى الثاني وهو هيمنة القوى العظمى وخاصة الغربية، وتضمن المستوى الثالث وهو تقديس العلمانية كمرجعية نهائية للبشر.
النخب العلمانية في العالم الإسلامي
بعيدا عن الغرب العلماني، فالعلمانية مهيمنة حتى في عالمنا الإسلامي. من أهم أسباب ذلك سيطرة النخب العلمانية على منصات الإعلام والثقافة والتعليم، وقبل ذلك على القرار السياسي والاقتصادي والقانوني. هذه السيطرة ليست تلقائية بل هي مفروضة بقوة السلطة، وفي نفس الوقت فإن النخب الإسلامية ممنوعة أو مقموعة أو مهمّشة بدرجات متفاوتة، مما أدى إلى التزام مصطنع بمرجعية سياسية إدارية فكرية وأخلاقية علمانية. هذا الوضع المصطنع طال عليه الأمد حتى تطبعت عليه المجتمعات الإسلامية وصار يقترب من الحالة الطبيعية. صحيح أن النخب الإسلامية تبذل ما تستطيع، ولا يزال لها تأثير في المجتمعات لكن ما دامت الفرص كلّها للنُخب العلمانية فالمِيزان يَرجَح لصالح العلمانيين.
الاختزال في الفكر الإسلامي
في مقابل هذا الشمول والتغلغل والعمق للمشروع العلماني يغلب على النخب الإسلامية الطرح الاختزالي خاصة في الفكر السياسي. المشكلة الأولى في هذا الطرح الاختزالي هي حصر الشرعية السياسية في شخصية الحاكم دون النظر إلى تفاصيل كيان الدولة وتفاصيل النظام الحاكم. المشكلة الثانية هي في تنزيل نظرة علماء المسلمين الأوائل المنطلقة من الحديث عن نموذج الدولة القائمة آنذاك على الدولة القطرية الحديثة. هاتان المشكلتان لم تقتصر على العلماء الموالين للسلطات فقط بل وقع فيهما معظم المهتمين بالفكر الإسلامي السياسي من مؤيدين ومعارضين للسلطات، بمن فيهم التيارات الجهادية التي ترفض شرعية الأنظمة بطريقة اختزالية معتمدة على التكفير الشخصي للحكام وتنزيل كلام العلماء الأوائل تنزيلا حرفيا.
الدين والعادات
ظاهرة أخرى عند النخب الإسلامية هي خلط التراكمات الاجتماعية والتاريخية مع الدين والخروج بحصيلة تضعف الطرح الإسلامي أو تقوي الطرح العلماني. وقع في هذه الإشكالية المتنطعون خاصة في قضايا المرأة، ووقع فيها ما يسمى بالليِبراليين الإسلاميين في قضايا الحكم والسياسة وكذلك في القضايا الاجتماعية. بعضهم يؤصل له بزعم أن الأعراف من الدين، وهذا هو الخلط بعينه، لأن الأعراف إنما يلتفت إليها في تنزيل النصوص على الواقع في الفتاوى والقضاء لا أن تكون بديلا عن النصوص ومصادر التشريع.
بعضهم يحتج أن المنظرين للسياسة في التاريخ الإسلامي مثل الماوردي وابن قتيبة جعلوا ممارسات الحكام والنظم الإدارية في زمانهم جزءا من المنظومة السياسية الإسلامية، وهذا مردود عليه بأن هؤلاء العلماء فرقوا في كتبهم بين ما هو أوامر ربانية شرعية وبين ما هو تنظيمي إداري اجتهادي.
الطرح الاعتِذاري
بعد أن استقرت هيكلية التفكير العلمانية في ميادين الثقافة والفكر والسياسة والقانون والاقتصاد اضطر كثير من النخب الإسلامية أن يلتزم بهذه الهيكلية ثم يضع عليها لحما وشحما إسلاميا في محاولة بائسة لأسلَمتها. هذا التناول للفكر الإسلامي يجعله مهزوما ابتداء، أولا لأنه سلم القيادة كلها للمشروع العلماني لأنه انطلاق من منصة علمانية، وثانيا لأنه حشر محتوى له شكله وأبعاده الخاصة به في قالب لا يستوعبه ولا يناسبه. لا يصلح أن يكون المشروع السياسي الإسلامي قائما على هيكلية رسمها هُبس وجون لوك وروسو، ولا أن يكون النظام الاقتصادي قائما على تنظير آدم سميث وجون كينز!! ²
كيف نواجه العلمانية؟
لعل هذا الاستعراض يبين حجم التحدي العلماني الذي يحاول البعض تهوينه، ويبقى السؤال الأهم: كيف يمكن مواجهته؟ وهو ما سيطرح بإذن الله في مقال آخر.
-------------------------------------------------------------------------------------------------
2: تعليق هام من أستاذ لنا حول النقاط الثلاث الأخيرة:
يمكن التمييز هنا بين ثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الارتِمائي ويتمثل في العلمانيين من بلاد المسلمين
الاتجاه الانكِفائي ويتمثل في الانحباس داخل ما يظنونه خصوصية في خلط بين الثوابت والمتغيرات والمقاصد والأدوات
الاتجاه الانتقائي وهو الذي يفرق بين أدْواء العصر وأهوائه ويميز بين ما يجب أخذه وما يُمنع