top of page

٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٤ هـ

حدود "البراجماتية" في الإسلام

بقلم الدكتور سعد الفقيه

المصطلح

انتشر استخدام مصطلح "البراجماتية" بما يكفي لاستقرار معناه عند المهتمين بالسياسة والاجتماع وقضايا أخرى. وعلى رغم أن المعنى المقصود يكاد يكون متفقا عليه لكن من الأفضل تحرير الترجمة العربية واستخدامها نيابة عنه. ومن بين الترجمات: "النفعية" و"الواقعية" و"الذرائعية"، وكلها كلمات معبرة عن المعنى، لكن بعد تتبع للسياق الذي غالبا تستخدم فيه "البراجماتية" قد تكون كلمة "النفعية" أقرب للمعنى في اللغة، لكن لأن لها إيحاء انتهازي سوف يستخدم مصطلح  "البراجماتية" في هذا المقال. و"البراجماتية" من المصطلحات المحدثة التي تشتمل على حق وباطل" وحكمها التفصيل والبيان.

الموضوع ملح

الحديث عن هذه القضية أصبح ضرورة ملحة بعد موجة التطرف في الاتجاهين، المرونة التي تميّع الدين والصلابة التي تجمّد الدين. بعض التيارات الإسلامية ومن المحسوبين على العلم الشرعي وبعض من يوصفون بالمفكرين الإسلاميين توسعوا في هامش "البراجماتية" حتى نقضوا ثوابت الإسلام، وآخرون ضيقوها حتى أغلقوا الهوامش المشروعة، وكأنهم أحرص على الدين من القدوة محمد ﷺ. ولهذا لا بد من تحرير هذه المسألة حتى تتضح الصورة لمن يجد نفسه مضطرا للتعامل مع هوامش "البراجماتية" في الإسلام.

البراجماتية والمصلحة

وهنا إشارة إلى أن دراسة موضوع "البراجماتية" ليس تكرارا  لدراسة موضوع "المصلحة"، فرغم التداخل بينهما فإن اتجاه النقاش مختلف. وقد خُدم موضوع المصلحة بحثا وكتابة وتحليلا منذ أن بدأ التدوين في الفقه الإسلامي ومنذ أن انطلقت المذاهب الفقهية، والمكتبة الإسلامية مليئة بالكتب والبحوث والفتاوى والتعليقات ورسائل الماجستير والدكتوراه التي اهتمت بموضوع المصلحة بما يغني عن الحديث عنها (1).

المبادئ والتطبيق

يوازن الإسلام بين المثالية في المبادئ والواقعية في التطبيق، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة أو السلطة. وهنا بداية الخلط عند من يتصدى لقضية "البراجماتية"، فالمبادئ والأصول والثوابت لها حكم، والتطبيق والتعامل المباشر له حكم آخر، وليس من المنهجية ولا من المنطق الخلط بينهما، وحسم هذه المسألة ينهي جزءا كبيرا من الخلاف في قضية "البراجماتية".

والمقصود بالمبادئ هنا هي كل ما هو من الثوابت التي لا تتغير عبر الزمان والمكان، كالقطعيات المعلومة والدلالات العظمى لنصوص الكتاب والسنة والقواعد الكبرى في الدين والأصول العامة للعقيدة وما اتفقت عليه الأمة في الفقه ومقاصد التشريع، فهذه ثوابت لا مجال فيها -من حيث هي نظريا- للاجتهاد ولا للتعديل البشري. بمعنى أنه لا يصح المساس بها او الدعوة لخلافها لأن ذلك يعني زعزعة الأسس ويفضي إلى إنشاء فكر مناقض لها ولما انبنى عليها من قضايا ومسائل، وهو ما يوصل بالضرورة إلى إحداث مدرسة بدعية جديدة تضاف للاتجاهات البدعية الكثيرة.

أما ما لا يدخل في حيز الثوابت فهو من أبواب الاختيارات الفقهية، وذلك له مساحة في باب المتغيرات، دون الثوابت، بل مطلوب في حق المجتهد أن يختار ما يترجح لديه حسب مصالح المسلمين، مما هو سائغ في الشريعة الإسلامية. ومن ذلك جملة من قضايا تطبيق الأحكام على وقائع معينة فقد تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة وفي سيرة النبي ﷺ وفي تطبيقات الصحابة رضي الله عنهم أن لهذا النوع مساحة من المرونة الواقعية، وهذه المساحة تتفاوت سعتها تبعا لعوامل عديدة من أهمها:

الأول الحكم الشرعي الأصلي في القضية، فإذا اقترب مستوى الحكم الشرعي الأصلي من مستوى المبدئية ضاق الهامش وإذا ابتعد توسع الهامش.

الثاني المعطيات الزمانية و المكانية والبشرية والظرفية التي يطبّق فيها ذلك الحكم الشرعي، فإذا كانت أقرب للقهر والإكراه والعجز توسّع الهامش وإذا كانت أقرب للتمكين والشوكة و التحمل ضاق الهامش. ومثله كذلك تأثير المصلحة والمفسدة في اللجوء لـ "البراجماتية" أو العدول عنها.

وهذا يشبه تفريق العلماء بين الحكم الشرعي والفتوى، فالحكم الشرعي ثابت وغير مرتبط بالظروف والزمان والمكان، بينما الفتوى تتغير تبعا للمعطيات والظروف و حال المستفتي.

المستوى الفردي

على المستوى الفردي لا تشكل "البراجماتية" خلافا كبيرا، لوجود أدلة قطعية تؤكد وجود مجالات للإعذار مثل الإكراه والاضطرار والجهل والخوف، إضافة إلى الاستثناءات التفصيلية المنصوص عليها في الشرع مثل الحالات التي يباح أو يجب فيها الكذب والغيبة.  ولأن القضية مرتبطة بالأفراد فالحرج فيها محدود، لأن تأثيرها يقتصر على الفرد أو دائرة صغيرة حواليه، سواء أصاب أو أخطأ في تطبيقه.

لا يعني هذا بالطبع قلب الاستثناءات -التي نص الشرع أنها استثناء- إلى قواعد وأصول، لأن ذلك يحولها من قضية فردية إلى مبدأ عام للمجتمع كله، كما أن حكم الإلجاء لـ "البراجماتية" يزول بزوال سببه،ويعود حكم الأصل.

على مستوى الجماعة والسلطة

التكييف الفقهي لقضية "البراجماتية" على مستوى الجماعة والسلطة أخطر من مستوى الفرد لارتباطها بمصير الأمة وتأثيرها على الشعوب وامتداد أثرها الزمني. والتنظير لهذه القضية أكثر صعوبة من التنظير في حالة الفرد لتشعب التحديات وتداخل المصالح والمفاسد. لذلك يجب تحرير كل حالة منها بتجرد وعناية واستحضار الأمرين المذكورين: الحكم الشرعي الأصلي والمعطيات الواقعية.

الشخص المتبوع

ينطبق على الشخص المتبوع من العلماء والمفكرين والكتاب والنشطاء المشهورين ما ينطبق على الجماعة والسلطة بسبب تأثير أقواله ومواقفه على الناس، بل إن بعض هؤلاء المتبوعين لهم تأثير أقوى من تأثير بعض الجماعات. وحالات اللجوء لـ "البراجماتية" الصادرة من قبلهم لها عواقب  أكثر مما يصدر عن الجماعات، أولا لأن لهم جاذبية مؤثرة في الجماهير و يعتبرون من القدوات، وثانيا لأنهم غير ملزمين باستشارة أو استئذان أحد فيستسهلون اتخاذ هذه المواقف أو التصرفات. ومثال ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله الذي لم يأخذ بالرخصة الشرعية ورأى أن القضية من الخطورة ما يلزمه الأخذ بالعزيمة.

نماذج نبوية

من الأمثلة المشهورة التي يمكن إدراجها ضمن المعنى الصحيح للبرجماتية  في الإسلام، ترك النبي ﷺ قتل المنافقين رغم أنه يعرف معظمهم بأعيانهم، ومنها أنه كان مستعدا لتسليم ثلث ثمار المدينة للأحزاب، ومنها أنه رضي بشروط تبدو مجحفة في الحديبية، ومنها أنه سمح لنعيم بن مسعود أن يخدع اليهود والمشركين، ومنها أنه أعطى إشارة لأبي جندل أن ينفذ حرب عصابات ضد قريش، ومنها تركه إعادة بناء الكعبة وإدخال حجر إسماعيل رغم رغبته بذلك.

قواعد التعامل مع "البراجماتية"

من خلال تتبع هذه الحوادث وغيرها وربطها بنصوص الكتاب والسنة يمكن استنتاج مجموعة من القواعد أو الضوابط التي توضح هذا الهامش وتعين على معرفة حدود الفضاء الشرعي في البراجماتية أو الواقعية، وهذه محاولة لاستقراء بعض هذه القواعد باستحضار كل ما سبق ذكره:

القاعدة الأولى: أن أي قول أو تصرف أو قرار من هذا القبيل ينبغي أن يكون في المواقف التفصيلية (التكتيكية) وليس الاستراتيجية، وذلك لأن الاستراتيجي مرتبط بالمبادئ ارتباطا بنيويا، والتفريط فيه تفريط بالمبادئ، أما التفصيلي فليس فيه تفريط بالمبادئ كما جاء في الحالات المذكورة في السيرة.

لا بأس مثلا بالرضا ببعض البروتوكولات الشكلية التي فيها مخالفة شرعية محدودة لا تقدح في العقيدة ولا في المنهج في سبيل تحقيق مصلحة كبرى، لكن لا يجوز تعطيل ركن شرعي أو شعيرة من شعائر الدين أو مخالفة أصل ثابت بحجة تحقيق مصلحة.

القاعدة الثانية: أن المسؤول أو العالم أو المُصلح أو قائد الجماعة أو الناطق باسمها يستطيع أن يؤجل قول الحق لمصلحة معينة، لكن لا يجوز أن يقول باطلا. كما يمكن له تأجيل تنفيذ عمل واجب لمصلحة معينة لكن لا يجوز له أن ينفي وجوب هذا العمل شرعا ويتبرأ منه بحجة "البراجماتية" والمصلحة.

يجوز مثلا من أجل تحقيق مصلحة كبرى السكوت عن ظلم أو فساد أو منكر اقترفته السلطة إذا كان هناك من قام بالواجب أو تأجيل الحديث عنه للوقت المناسب، لكن لا يجوز إصدار بيان أو فتوى بإقرار السلطة على هذا الظلم أو الفساد كما تفعل بعض المؤسسات الدينية في العالم العربي. كما يجوز تأجيل الإعانة لمظلوم أو نصر مستضعف لمصلحة ظاهرة، لكن لا يجوز البراءة من هذا المظلوم أو المستضعف وتأييد السلطات ضده بحجة المصلحة.

القاعدة الثالثة: إن الفرد العادي حتى لو كان محسوبا على جماعة لكنه خارج القيادة والمسؤولية ولا يعتبر ممثلا للجماعة يسعه ما لا يسع القائد أو الحاكم أو العالم المتبوع، فقد استطاع أبو جندل رضي الله عنه حصار قريش لأنه غير مُلزم بعهد المسلمين، وكان تصرفه خارج إطار القيادة الإسلامية في وقتها، والنبي ﷺ لم يكلفه تكليفا مباشرا حتى لا يكون هذا التكليف خرقا للعهد مع قريش، لكنه أعطى إشارة تُحقق الهدف ولا تنقض الاتفاق فحصل مراده ﷺ، لأنه لا يجوز للقائد أو من يمثل جماعة أو شخص متبوع ذي أثر أن يخالف العهود والمواثيق التي أقرها الشرع.

القاعدة الرابعة: أن التصرفات السرية التي تتم بطريقة يضمن عدم نسبتها لمن يمثل جماعة أو شخص متبوع لها مجال أوسع من التصرفات أو التحركات التي تصدر بشكل معلن من هذه الجهة. فنعيم بن مسعود رضي الله عنه استطاع خديعة الأحزاب "قريش وغطفان واليهود" بتصرف سري مبني على الكذب الصريح الذي لا يمكن أن يصدر من القيادة. ومثل هذا لا يجوز أن يصدر علنا عن القائد أو الجماعة أو الشخص المتبوع لأن إعلانه بمثابة تحويل هذه الممارسة الاستثنائية إلى أصل ومن ثم تطبيعها وهو أمر مرفوض شرعا.

القاعدة الخامسة: أن تكون هناك مصلحة كبرى متحققة في ظرف استثنائي تتفوق على الضرر من عمل محرم، مثل قوله ﷺ "وأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل في القتال.. الحديث"، ومثل أُذُنِه ﷺ لمحمد بن مسلمة رضي الله عنه أن يقول كفرا يخدع به كعب بن الأشرف حتى ينجح في مهمته الخطيرة، فالخيلاء لا تجوز في غير هذا الموضع، وقول الكفر لا يجوز إلا في الاستثناءات الملجئة.

القاعدة السادسة: أن يراعى حال المسلمين من حيث القوة والاستضعاف، وانتشار الإسلام وعكسه، فما يصدر في حالة ضعف المسلمين وهيمنة غيرهم يحتمل ما لا يحتمله ما يصدر في بلد غالبية شعبه يؤمن بالإسلام والشريعة وللدين فيه هيبة. فالوضع في أوربا وأمريكا بل وحتى في تركيا وتونس التي تمكنت منها العلمانية يحتمل ما لا يحتمله الوضع في مصر أو السعودية أو اليمن أو السودان. ولهذا أُمر المسلمون بالكف عن السلاح في الفترة المكية لأنه لم يكن من المصلحة مواجهة الكفر المتمكن بالسلاح، ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ… الآية )) النساء ٧٧

القاعدة السابعة: أن هناك فرق بين أن يحتاج الشخص المتبوع أو الجماعة لموقف "براجماتي" يندرج تحت القواعد السابقة وبين أن يحول عمله إلى تنظير يتنازل فيه عن المبادئ، فمثلا قد تقرر جماعة أو شخصا متبوعا المساهمة المؤقتة في عمل مشترك مع أشخاص مشبوهين في دينهم وأفكارهم لتحقيق مصلحة مرتبطة بظرف محدد، لكن لا يجوز أن تتخذ هذه الجماعة أو ذلك الشخص المتبوع موقفا ثابتا بجواز التعامل الشامل مع المشبوهين في دينهم وأفكارهم دون قيود، كما لا يصح تكلّف التقعيد الشرعي لتحويل مثل هذا الاستثناء إلى حكم عام وقاعدة.

القاعدة الثامنة: أنه قد يحصل تجاوزات للضوابط والقواعد في اعتبار المصلحة او إلغائها إعمالا لـ "البراجماتية"، وقد يقع الخلط والغلط واللغط في هذا الباب من خلال التوسع في "البراجماتية" وعندئذ فلا مانع من وصف هذا التجاوز والخطأ بما يستحقه شرعا، لكن هذا لا يعني بالضرورة انطباق هذا الحكم على الشخص أو الجماعة التي صدر عنها، لأن الحكم على العمل ذاته لا يقتضي انطباق الحكم على عين الشخص الذي قام به، تماما مثلما فرق العلماء بين تكفير العمل وتكفير المعين.

فقيام جماعة بالتساهل في التطبيع مع الكيان الصهيوني أو التحالف مع إيران مخالفة عظيمة يجب أن توصف بوصفها الحقيقي، لكن لا يعني هذا تلقائيا توصيف من قام بها بنفس الوصف إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع. وقد ثبت في الحديث أن النبي ﷺ لم يعاقب حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه رغم أن ما قام به يعتبر في ظاهره خيانة عظمى، وذلك لاعتبارات شرعية منعت من وصفه رضي الله عنه بذلك أو معاقبته عليه.

أهل السنة فقط

هذه القواعد استنتجت طبقا لمنهج أهل السنة، لأن الطوائف الأخرى لديهم تنظير مختلف، فبعضهم يتوسعون في هذا الهامش مثل الشيعة في مبدأ التقية، وبعض المعتزلة في تقديم المصلحة على النص، وما يسمى بـ (الليبرالية الإسلامية) الذين يعتبرون -من بعض الوجوه- امتدادا للمعتزلة وينظّرون لتعطيل قواعد شرعية كثيرة، وطوائف أخرى يكادون يغلقونها مثل الخوارج ومن يشبههم من الفرق الجهادية الغالية ولا يلجئون لـ"البراجماتية"إلا في تبرير التكفير وسفك الدماء.

(1) من الكتب التي تناولت موضوع المصلحة كتب أصول الفقه مثل المستصفى للغزالي، وكتب مقاصد الشريعة مثل الموافقات للشاطبي، كما تناول ابن تيمية الموضوع باستفاضة في كثير من فتاويه، وتناوله ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية، وأفرد له من العلماء المتقدمين أبوابا خاصة مثل القرافي والطوفي، وفي العصر الحديث صدرت كتب كاملة حول المصلحة مثل "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" للبوطي و"المصلحة في التشريع الإسلامي" لمصطفى زيد وغيرها.

bottom of page