top of page

٢٨ جمادى الآخرة ١٤٤٦ هـ

حقائق صادمة عن السلطة وسياسة الدولة

بقلم الدكتور سعد الفقيه

حب  السّلطة طبع بشري لا يقدح في العدالة

حين رشّح عمر بن الخطاب رضي الله عنه ستة الشورى وتنازل ثلاثة منهم بقي الأمر بين عبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين، ثم تنازل عبد الرحمن شرط أن يختار بينهما. ولم يوافق عثمان وعلي رضي الله عنهما أن يتنازل أحدهما للآخر، ثم بعد استشارة عبد الرحمن للمهاجرين والأنصار استقر الرأي على عثمان.


ولعل رفض عثمان وعلي التنازل كان دليلاً على رغبة في القيادة، وهي رغبة لم تكن حبّاً في السلطة ذاتها بل اعتقاد كل منهما أنه الأفضل لقيادة المسلمين. ولم تقدح هذه الرغبة في عدالتِهما ولا فضلهما، ولذلك لم يرد أي نقد لموقِفهما هذا من قبل الصحابة ولا التابعين ولا أحد من علماء الإسلام.


هذا يعني أن حب القيادة أو النّزعة للسلطة لا يتعارض مع العدالة والفضل، ولا يقدح في النّية والأمانة لأنّه طبع بشري يتجلّى في المؤهلين للقيادة. أمّا حب السّلطة لذاتها والاستمتاع بالأمر والنّهي والتّحكم بالناس فهذا ليس أمراً محموداً وحاشا أن يكون مراد علي وعثمان رضي الله عنهما.


قال سفيان الثوري " ما رأيت زهدا في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تَحامى عليها وعادى "،  وقال في رسالته إلى عباد بن عباد "إياك وحب الرئاسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة"، وقال يوسف بن أسباط:  " الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا ".


إذا كان أفضل الأمة بعد أبي بكر وعمر راغبين في القيادة ولم يُبادرا بالتنازل عنها، وإذا كان الصحابة والتابعون وعلماء الإسلام يعتبرون هذا الموقف طبيعياً لا يقدح في العدالة ولا الفضل فماذا يعني ذلك؟ يعني أن حبّ القيادة أو السلطة قد يرد من أفضل الناس.


ونموذج علي وعثمان يتكرر في الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، ولهما ما لهما من الفضل والصحبة، فقد ظنّا أنهما الأولى بالقيادة من يزيد. والفرق في حالة الحسين وابن الزبير عن علي وعثمان أنهما استخدما القوة في السّعي إلى السلطة ولم يقدح ذلك في فضلهما ولا عدالتهِما. أمّا عمر بن عبد العزيز فقد صرح بالنص أن له نفسٌ تواقة وأنها تاقت للإمارة فنال إمارة المدينة ثم للخلافة فنال الخلافة.


القسوة المشروعة فعلها الرّسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الرّاشدون

كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم صاحب الخلق العظيم ونبي الرّحمة لكنه كذلك نبيّ الملحمة وشديد على المُكابرين والمجرمين. وفي السّيرة النّبوية قصص كثيرة تعكس هذا الجانب وتدل على مشروعية القسوة إن دعت لها الدّواعي الشّرعية.


ثبت أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمن تكبّر أن يأكل بيمينه "لا استطعت" فشُلَّت يمينه، وثبت أنه قال لابن صيّاد "إخسأ فلن تعدو قدرك"، وثبت أنه تبسم حين شتم أبو بكر عروة بن مسعود في غزوة الحديبية ولم يعترض على أبي بكر، وثبت أنه قطع أيدي وأرجل العرنيين وسمل أعينهم قصاصاً. هذا فضلاً عن قتله صلّى الله عليه وسلم  كل البالغين من بني قريظة بعد خيانتهم واسترقاق نسائهم وأطفالهم.


وروي أنه صلى الله عليه وسلم رفض الاسترحام الثّاني لأَبي عزة الجمحي بعد أن منّ عليه المرة الأولى وقال له "لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول خدعت محمداً مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين" ثم أمر به فضربت عنقه. وأمّا الصحابة فقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه قادته بالتَّنكيل بمن آذى المسلمين، وعاقب علي بن أبي طالب من ادعى ألوهيته بالحرق.


القسوة غير المبررة مارسها من يتغنّى الناس بأمْجادهم

يتغنّى الناس بأمجاد هارون الرشيد الذي كان يغزو عاماً ويحج عاماً مع أنه نفذ مذبحة البرامكة دون قضاء مستقل وحبس عدداً من العلويين خوفاً من منافسته في السلطة دون قضاء مستقبل. ويتغنّى الناس بأمجاد المعتصم في فتوحاته وانتصارِه للمرأة المسلمة رغم ما فعل بأحمد بن حنبل.


ويتغنّى الناس بأمجاد يوسف بن تاشفين، ويحق لهم، رغم المذابح وتدمير المدن، ويتغنّون بأمْجاد قطز، ويحق لهم، رغم قتلهِ أقطاي وتشريده للمماليك البحرية ويتغنّون بأمْجاد بيبرس، ويحق لهم، رغم قتله قطز وتساهله في الدماء.


وسبب هذا الثناء على هذه الشخصيات وغيرها هو أعمالهم العظيمة في تقوية شوكة المسلمين وتوحيد كلمتهم وحماية الأمة وتحكيم شرع الله وهيبة الدين وتعظيم العلماء وغير ذلك مما يستحقون الثناء عليه، ولا يعفيهم من مسؤولية الدماء التي سفكُوها بغير حق.


قد يوجد متهمون بجرائم في فريق يقوده راشد

كان محمد بن أبي حذيفة الذي ولاه علي بن أبي طالب على مصر ممن حرض على عثمان رضي الله عنه، وكان مالك بن الأشتر من قيادات جيشه ثم ولاه كذلك رغم أنه من المتهمين بالمساهمة في قتل عثمان. وكان وجود أمثال هؤلاء وتقريبهم أحد الأسباب في فتنة الجمل وصفين حيث اعتبره المُطالبون بدم عثمان إيواء لقتلة عثمان. هذا التقريب للمتهمين بأعمال تعتبر جريمة في عين آخرين لم يقلّل من فضل علي بن أبي طالب رضي عنه، وبقي من بين أفضل أربعة بعد الأنبياء.


توحيد الكلمة قد لا يتم إلا بدماء كثيرة

معركة صفين التي قتل فيها آلاف المسلمين كانت محاولة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه لتوحيد كلمة المسلمين بالقوة بعد أن رفض معاوية رضي الله عنه البيعة. وحين سعى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه لجمع المسلمين تحت خلافته بعد موت يزيد أطلق يد أخيه مصعب في معارك ودماء كثيرة قتل في أحدها سبعة آلاف أسير كان قد أمّنهم.


ولم يتمكن عبد الملك بن مروان من توحيد كلمة المسلمين إلا بعد معارك دموية هائلة مع جيوش عبد الله بن الزبير في العراق والحجاز. ولم يتمكن أبو جعفر المنصور من توحيد كلمة المسلمين (ما عدا الأندلس) إلا بعد إخماد عدد كبير من الثورات وقتل عمه عبد الله بن علي وأبي مسلم الخراساني وآخرين. ولم يتمكن يوسف بن تاشفين من توحيد بلاد المغرب وبناء جيش كبير ينقذ به المسلمين في الأندلس إلا بعد معارك دموية ودماء ودمار. والنجاح في توحيد كلمة المسلمين بعد هذه الدماء لا يعني إقرار هذا الفعل لكن الشعوب تتغير وتمر بأحوال تقتضي سنة الله أن لا يمكن توحيدها إلا بالدم.


أمّا عند غير المسلمين فلم تجتمع بريطانيا في دولة واحدة ولم تتمكن أمريكا من القضاء على فتنة الانفصال ولم تتشكل روسيا بمَساحتها الهائلة ولم تظهر ألمانيا للوجود كدولة إلا بسلسلة من الحروب والدماء وسنين طويلة من الصراع.


قد يتقاتل المتحابون على السلطة

قاد عبد الملك بن مروان المعركة التي هزم فيها مصعب بن الزبير بنفسه وحين انتهت المعركة قال "كان من أحب الناس إلي، ولكن هذا المُلك عقيم". وقاتل أبو جعفر المنصور عمّه عبد الله بن علي وأسره ثم قتله مع أنه كان من أهم المساهمين في تأسيس الدولة العباسية.


أمّا تنازع الإخوان وبني العم على السلطة بعد وفاة والدهم فتكاد تكون في كل السّلالات، حيث تنازع بنو أمية على السلطة بعد وفاة هشام بن عبد الملك، وتنازع الأمين والمأمون بعد وفاة الرشيد، وتنازع الأيوبيون بعد وفاة  صلاح الدين، وتنازع أبناء محمد الفاتح بعد وفاة والدهم، وتنازع أبناء شاه جيهان في الهند بعد وفاة والدهم.


وعند غير المسلمين تنازع ابني وليام الأول في إنجلترا على السلطة، ثم تنازعت سلالتان من جد واحد بعد ذلك في حرب الوردتين التي دامت ثلاثين عاماً، وتنازع أبناء قسطنطين الأكبر على حكم الامبراطورية الرومانية بعد وفاته، وتنازع أبناء كلوفيس الأول على حكم فرنسا، وتنازع أبناء لي يوان في الامبراطورية الصينية على السلطة. وهذه ليست إلا نماذج قليلة من الصراعات بين الأبناء والمتحابين ورفاق النضال السابقين.


من الأكثر حظا بالنصر القائد المتساهل في سفك الدماء أم القائد الورع؟

القائد الورع لا يقتل ولا يقاتل إلا من اكتملت شروط سفك دمه وربما ترك من يستحق ذلك تورعاً، ومع أن هذا النهج هو المطلوب شرعاً لكن حين يفشو النفاق وتنتشر الأنانية ويتطبّع الناس على الارتزاق ينجو كثير من المتربصين المخربين ومُثيري الفتنة بسبب هذا الورع.


أما القائد المتساهل في سفك الدم فإنه يُغَلّب سوء الظن ولا يتورع أن يكون بين ضحاياه من ليس مستحقاً للقتل من أجل أن يضمن أن السيف قد أخذ كل من يشكل خطراً على السلطة وانقياد الناس. لكن الدموية المحضة لا تنفع دون دهاء ومراعاة التوازنات الاجتماعية واستخدام قوى أخرى مثل المال والعلاقات.


وقد يكون عند القائد الورع من الدهاء والموهبة قيادية ما يعوّض عن المخاطرة بترك بعض من يشكل خطرا على سلطته، ومن جهة أخرى قد يفتقر القائد الدموي إلى الدهاء فلا ينفعه سفك الدم ولا التساهل في التخلص من المجرمين، بل قد يستعدي الناس ويقتل المؤيدين النافعين له بسبب هذا التساهل. ولكن إذا اجتمع الدهاء والمَوهبة القيادية مع الجرأة على العنف فربما تكون فرصة النجاح أعلى ولهذا السبب كسب عبد الملك بن مروان وأبو جعفر المنصور.


وسفك الدم من أجل السلطة لا شك أنه جريمة غير مبررة لكنه لا يعني الخيانة ولا التفريط بقوة المسلمين فقد كان للمسلمين شأن عظيم في خلافة بني أمية والفترات الأولى من حكم بني العباس ورفعت راية الجهاد وفتحت الفتوح وحكم بالشرع وكان الدين مهيبا. وخلال حكم المماليك تم تطهير بلاد المسلمين من المغول والصليبيين وخلال حكم العثمانيين وصلت الفتوحات إلى النمسا وتمت حماية المشرق العربي من الصفويين. أما إذا صاحب هذا النهج الدموي عمالة وتبعية وتحويل بلاد المسلمين إلى دولة وظيفية في خدمة الأعداء فهي جريمة مركبة جمعت بين سفك الدم والخيانة.

  • Whatsapp
  • Twitter

عبدالله الغامدي

د. سعد الفقيه

  • Whatsapp
  • Facebook
  • Twitter
  • Snapchat

للإتصال بنا عن طريق البريد الإلكتروني:

لدعم نشاط الحركة الإعلامي:

Digital-Patreon-Wordmark_FieryCoral.png
bottom of page