top of page

٦ رمضان ١٤٤٥ هـ

خواطر رمضانية

بقلم الدكتور سعد الفقيه

حرية التّفكير تُلزم بِحرّية التّكفير

الذين ينادون بحرية التفكير يناقضون أنفسهم حين يتضايقون من ظاهرة التكفير كمَوقف فكري مجرد. والحقيقة التي تغيب عن أدعياء الليبرالية ( الداعين لحرية التفكير والتعبير) أن الهامش المفتوح للتكفير طبقا لأصول الفكر الليبرالي أوسع من الهامش المحدد بالشريعة.


والتكفير سواء كان تكفيرا عاما لمن يمارس ممارسة معينة دون تحديد شخص، أو تكفيرا عينيا لشخص معين، هو بالمنطق الليبرالي ممارسة فكرية لا يجوز الحجر عليها، ولا التدخل فيها، طبقا لأساسيات المنهج الليبرالي. بينما في الشريعة هناك منهج دقيق لضبط كلا المستويين. 


التكفير النظري (المطلق) له مبرراته المحددة بالشرع، فلا يجوز أن يوصف عمل معين بأنه مخرج من الملة إلا إذا كان موصوفا بالشرع بذلك. بينما يسمح الفكر الليبرالي لكل صاحب رأي أن يصف أي عمل بما يشاء، ثم له الحق أن ينسب هذا الموقف لأي دين يريد، لأن ذلك من حرية التفكير والتعبير. 


التكفير العيني في الشرع أشد صعوبة، ولا يمكن أن يوصف شخص معين بأنه خرج من الإسلام، إلا إذا تحققت فيه الشروط، وانتفت الموانع، وأن يحصل ذلك في مجلس قضاء معتبر، أو على لسان عالمٍ موثوق. أما الفكر الليبرالي فلا يمنع أي شخص من وصف شخص آخر بما يريد من الأوصاف لأن هذا التوصيف في نهاية المطاف وجهة نظر لا يجوز الحَجر عليها. 


العصيان المدني والإنكار بالقلب 

يستغرب البعض من أن الإنكار بالقلب فيه براءة للذمة، رغم أنه موقف سلبي، ولا يلجأ إليه إلا العاجز الذي لا يستطيع الإنكار باليد واللسان. أصحاب هذه النظرة يغيب عنهم التناول الحضاري لطُرُق التغيير في الإسلام، و يفوتهم أن إنكار شخص واحد سواء باليد أو باللسان أو بالقلب، لا يبرئ ذمة البقية، بل لا بد من إنكار جماعي بما أمكن من المراحل الثلاث. 


وبقدر ما في المجتمع من التزام، فإن إنكار المنكر بالقلب، يحقق عدة أمور توازي في كفاءة أدائها نسبة الملتزمين بإنكار القلب من أفراد المجتمع. وكلما زاد عدد المنكرين بالقلب، كلما تم تجريد الفاسد والظالم ممن يوفر له الظروف التي ينفذ فيها المنكر، سواء كانت ظروفا نفسية أو أخلاقية أو أمنية. 


الإنكار بالقلب يَحرمُ الطاغية من المثقف والإعلامي الذي يطبل له، ويحرمه من العالم الذي يفتي له بالباطل، ويحرمه من رجل الأمن الذي يقمع الناس من أجله، ويحرمه من دعم القيادات الاجتماعية التي تزيد من هيبته. وكلما زادت نسبة المنكرين بالقلب، كلما أمكن حصار الطاغية حتى بدون إنكاره باليد واللسان، وكلما قل الإنكار بالقلب كلما توفر له الفرصة في المضي قدما بطغيانه. ولذلك كان العصيان المدني الناجح الذي هو من أفضل تجليات الإنكار بالقلب من أقوى وسائل التغيير السلمي وهو نموذج من نماذج التغيير القلبي بالالتزام بالسّلبية الكاملة تجاه الطاغية. 


ولا يمكن أن يتحقق إنكار المنكر بالقلب، إلا أن يترجم بموقف يثبت السلبية ضد الفاسد أو الظالم أو الطاغية، ولا يجوز ادّعاء أن إنكار القلب موقف قلبي يزعم فيه بغض المنكر وهو يقف مع الطاغية أو يدعمه بأي وسيلة. ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن غياب الإنكار بالقلب يعني غياب الإيمان (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).


المفهوم الحقيقي لـ"ذكر الله" ومتى يتجلى في أعلى مراتبه

يفهم غالب الناس أن الذّكر الذي أمرنا به، هو ترداد الأذكار المعروفة والأدعية والقرآن، وأن هذا هو المقصود بأن يبقى اللسان رطبا بذكر الله. نعم لا شك أن ذكر الله باللسان خير عظيم، لكن لا يمكن أن يتم به الذكر الحقيقي إلا بأن يتمثل بتذكر الله في كل حين، لما يؤدي للتصرف بما يدل على استحضار الله في كل عمل وظرف.


فحين نذكر الله بلساننا ونحن لا نغض البصر، أو نذكره بلساننا ونحن نغش في البيع والشراء والتعامل، فهذا ذكر باللسان ونسيان بالقلب. وحين يكون اللسان رطبا بذكر الله ونحن نتعامل مع الوالدين والزوجة والأبناء والجار والصديق تعاملا غير شرعي، فاللّسان رطب والقلب جاف من ذكر الله لأن القلب تصدقه الجوارح. وفي الحديث الصحيح "ذَكَرَ الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يَده إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟".


وأعلى درجات ذكر الله، أن يستحضر الذاكر عظمة الله في لحظات الاختبار الصعبة، وخاصة رفض المغريات التي تدفع الإنسان لإتيان الشهوات أو لأكل الحرام أو لقول الباطل. ثم أعلى منها إدراك أن قوة الله أقوى من أي قوة، حين يجد الذاكر لله نفسه ملزما بقول كلمة الحق رغم التبعات الصعبة لقولها، فلا يبالي لأن تجسد فيه تحقيق ذكر الله في أعلى صوره، وهذا مصداق ما جاء في الحديث "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".


سموّ السلوك الحضاري في الإسلام 

لا ترتقي المجتمعات حضاريا بالطرق والبنايات الجميلة والتقنية، فهذه ليست إلا تطبيقات مدنية يتقن فيها الإنسان استخدام الأدوات والآلات. إنما يحصل الرقي الحضاري بتكامل بني آدم مع بعضهم البعض، وتقليل الضرر المتحصل من بعضهم على بعض. 


وبهذا التكامل تتحقق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والقضائية والسياسية، وبمثله تتحقق الكرامة الإنسانية. وبمثله كذلك تتحقق نصرة المظلوم، وإعانة المحتاج، وإغاثة الملهوف، وضمان العاجز، وتقوية الضعيف الخ. و بتقليل الضرر تنحسر الجريمة، ويتلاشى الفقر، ويختفي الفساد المالي والإداري، وتخف الحوادث وبقية أنواع الضرر. 


وأرقى أنواع السلوك الحضاري، هو الذي يستحضر فيه الإنسان تلقائيا أثر تصرفه على الآخرين، ومن ثم مردوده عليه، فيتصرف باستحضار هذا الأثر فيرتقي حضاريا. وهذا ما يدفع الإنسان الحضاري إلى تحاشي إلقاء القمامة في الشارع، ويدفعه للانضباط بالطوابير، وإعطاء الفرصة للآخرين والالتزام بأنظمة السير والمرور.


ولقد وصلت كثير من الأمم الأوربية وغيرها، لهذا المستوى ليس بالنظام والقانون فقط، بل بتشرب المسؤولية الحضارية عند كل فرد في تلك المجتمعات. هذا الالتزام الفردي يعطي ضمانا أقوى من ضمان القانون والسلطة، وأكثر محاربة للفساد والظلم والجريمة.


هذا الاستحضار للمسؤولية الجماعية، يحققه الإسلام بمستوى أعلى من الاستحضار، وهو المسؤولية أمام الله الرقيب العليم السميع البصير القدير، وما يتبعه من استحضار الثواب والعقاب، ومن ثم الإحساس بالمسؤولية في كل تصرف يقدم عليه الإنسان. وما كانت مجتمعاتنا الإسلامية الحالية لترتكس في التخلف الحضاري، إلا لغياب هذا الشعور بالرقابة الربانية والمسؤولية أمام الله ثم الأمة في كل تصرف متعدٍّ للآخرين. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في قوله " فمن أحب منكم أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه"، أي يتعامل مع الناس بالطريقة التي يريد أن يُعاملوه بها.


الفلسفة النظرية والفلسفة التطبيقية، ولماذا فلاسفة الإسلام قليل؟

قد يكون النقاش في منطق أرسطو ممتعا ذهنيا، لكنه عديم الفائدة من الناحية العملية، لأنه منطق نظري بحت يكاد يستحيل ترجَمته لتطبيقات تنفع الإنسان أخلاقيا واجتماعيا وتنمويا. وحتى نقاش فلاسفة عصر النهضة أمثال كانت وديكارت لم تقفز بعيدا في الفائدة حتى بعد تناوله بعض قضايا الخير والشر والأخلاق والفضيلة. 


 فلسفة هوبز وجون لوك وروسو ومونتسكيو وميكافيلي، لها شأن آخر لأن لها أثر عملي في المجتمعات والسلوك والسياسة والاقتصاد، وربما كان لها الدور الأكبر في التكوين الحضاري الأوربي الحديث الذي يقلده العالم كله تقريبا. قد يدعي البعض أن الفلسفة النظرية هي الأصل الذي انطلقت منه الفلسفة التطبيقية، لكن دراسة متفحصة في عطاء الفلاسفة التطبيقيين، تبين أن انطلاقتهم مستقلة ومُستغنية تماما عن الفلسفة النظرية. 


ومع أن الفلسفة الأوربية قد أنجزت نجاحاً في الطرح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، إلا أن اضطرابها في نظرتها للحياة والكون والإنسان ومفهوم الفضيلة والأخلاق واضح للعيان، بل إنها تجاوزت ذلك بالعجز التام عن تحديد المطلقات فيها، الذي جر عليها الفشل في معرفة المرجعية التي تنطلق منها في صياغة هذه النظرات. 


وهنا يتجلى سمو الإسلام في تحديد المرجعية، وتحديد طريقة الاستنباط منها، ومن ثم صياغة المطلقات بشكل شديد الوضوح، ومعرفة المنهج الذي تتفرع منه تفاصيل الحياة والكون والإنسان والأخلاق والعقائد. ولأن الإسلام مصدره خالق العقل نفسه سبحانه، فسيكون بالضرورة متكاملا متماسكا قويا متجانسا خاليا من التناقض.


ولهذا السبب لم تكن المجتمعات الإسلامية بحاجة للفلاسفة، وتفوق الآلاف من علماء الإسلام في الفقه والحديث  في الأثر الاجتماعي والحضاري على المصنفين فلاسفة في التاريخ الإسلامي مثل ابن سينا والفارابي والكندي. والسبب ليس لأن علماء الفقه والحديث أكثر ذكاء منهم بل لأنهم ينهلون مباشرة من الوحي المنزل من الخالق نفسه، بينما الفلاسفة يجترّون كلام المخلوقين ويضيفون له من عقولهم. 


المنهجية طريق السلامة

حين تريد التعرف على مدينة كبيرة، تستطيع أن تتعرف عليها بطريقتين، إما أن تشاهد خريطتها كاملة ثم تتناول أحيائها ومعالمها بطريقة منظمة، أو أن تتمشى في شوارعها شارعا شارعا وتستغرق سنين من أجل أن تعرفها. الطريقة الأولى هي الطريقة المنهجية الشاملة التي تليق بالعاقل والحريص على المعرفة الشاملة، والثانية هي الطريقة التلقينية التي تليق بالعاجز عن النظرة البانورامية.


ربما يليق بعامّي جاهل أن يتلقى الدين تلقينا بتَعليمات محددة في العبادة والسلوك والحلال والحرام ومبادئ العقيدة، لكن الإسلام يجعل هذا استثناء وليس القاعدة. الأصل في الإسلام أننا نتعلم ديننا بمنهجية شاملة ثابتة راسخة في التلقي والفهم والتطبيق والاختلاف، والمواقف وتقويم الآخرين وليس بقالب معلب. 


وضوح هذه المنهجية والانضباط فيها، هو الذي يؤدي إلى عقيدة صحيحة وعبادة صحيحة وسلوك صحيح وبناء مجتمعي وسياسي سليم. وغُموض المنهجية أو عدم الانضباط بها، هو الذي يؤدي إلى اضطراب في العقيدة ومخالفات في العبادة، وانحراف في السلوك وضعف اجتماعي وتشتت سياسي. 


منهجية التلقي تعني لا مرجع لنا إلا القرآن وما صح من السنة، ومنهجية الفهم تعني لا فهم لنا إلا على طريقة فهم الصحابة وما أجمعوا عليه، وهكذا منهجية التطبيق والاختلاف والتقويم والمواقف. والانضباط بهذه المنهجية لا مجال فيه للاختيار، فهو واجب شرعي ومنصوص عليه، بل هو مرتبط بنيويا بهوية المسلم المتبع لمحمد عليه الصلاة والسلام.


كما أن الانضباط بهذه المنهجية عودة للسمو الحضاري الذي كنا عليه، لأنه يعيد تشكيل العقل المسلم كفرد والمجتمع المسلم كأمة بخريطة واضحة، تسهل الوصول لكل معالم الحياة والتعامل معها بمراد الوحي. وفي المقابل فإن التلقين بطريقة القالب، لا تسمح إلا بسلوك طريق واحد، ومسار واحد في وقت واحد. 



  • Whatsapp
  • Twitter

عبدالله الغامدي

د. سعد الفقيه

  • Whatsapp
  • Facebook
  • Twitter
  • Snapchat

للإتصال بنا عن طريق البريد الإلكتروني:

لدعم نشاط الحركة الإعلامي:

Digital-Patreon-Wordmark_FieryCoral.png
bottom of page