top of page

١٣ رمضان ١٤٤٥ هـ

خواطر رمضانية ٢

بقلم الدكتور سعد الفقيه

التسليم الكامل وإلّا.. !!

في التعامل مع أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ليس عند المسلم خيار، (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ).


قد يقع المسلم في حرام وهو مقرٌّ أنه حرام، أو يقصر في واجب وهو مقرٌّ أنه واجب، وهو في كلا الحالتين يبقى في دائرة الإسلام ودائرة السنة. لكن حين يرفض أمراً شرعياً ثابتاً بحجة أنه غير مقتنع به بعد أن ثبت بالكتاب أو في السنة، فهنا سيخرج من دائرة الإسلام إن كان يرفض معلوماً من الدين بالضرورة، ويخرج من دائرة السنة إن كان يرفض أمرا ثابتا عند أهل السنة.


والانتماء للإسلام والسنة لا يُستكمل بالرضا البسيط بحكم الله، بل لا بد من التسليم الكامل في أعماق القلب بأن هذا هو الحق، حتى لو حاك في النفس أنه مخالف للعقل أو "الإنسانيّة"، (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).


وهنا إضافة هامة وهي أن التسليم لأوامر الله ورسوله  نتيجتها لا تنحصر في السلامة من الكفر والإثم، بل إن المسلم يؤجر بهذا العمل القلبي حتى لو اقتصر على التسليم به في قلبه ولم يصرح بذلك. والعكس ليس صحيحا لأن التردد في قبول أمر الله ورسوله في القلب فقط دون أن يعبر عنه بلسانه أو جوارحه ربما يُعفى عنه إذا كان وسواساً أو خاطراً عابراً، إلا أن يستقر في القلب ويُجزم فيه أو يترجم إلى قول أو عمل.


ما هي حقيقة التوحيد؟

تعلّم الكثير منا أقسام التوحيد الثلاثة، وتخصص البعض فيها في دراسته، ومع ذلك بقي غير مدرك للتوحيد الصافي ولا مطبّقا لحقيقته. نعم لا يجوز التقليل من أهمية الجانب النظري في معرفة توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، لكن مما ينبغي التأكيد عليه أن هذا التوحيد لا يتحقق إلا بتشرب هذه المعاني وترجمتها في الوجدان والكلام والأعمال.


كثير ممن يرددون الحديث عن توحيد الألوهية تجدهم يعظمون بعض البشر أشد من تعظيمهم لله، ويقدمون طاعتهم على طاعة الله، وربما لووا أعناق النصوص حتى يبرروا تقديم طاعة الحاكم على طاعة الله، فكيف يزعمون التوحيد؟ آخرون يطيلون الحديث عن توحيد الربوبية، ثم تجدهم لا يكترثون بأي تشريع خارج عن دائرة الإسلام، أو تعطيل أحكام الإسلام أو حماية السلطة للكفر والزندقة، فهل هذا توحيد؟


ثم ما الفائدة أن يردد المسلم أن الله هو السميع والبصير والعليم، ويتشدق بالرد على المعتزلة والأشاعرة والماتريدية في التعطيل والتأويل وهو يعتبر سمع الحكام وبصرهم أعظم من سمع الله وبصره؟ وما الفائدة أن يشرح صفات الله بأنه الرزّاق والوهّاب ويطيل النقاش في الرد على الصوفية في مفهوم التوكّل، ثم يعتبر المخلوقين هم الرزّاقون وليسوا سببا من أسباب الرزق يهيئه الله ويهيئ غيره؟ وما الفائدة أن يدرس طلابه صفات القدرة والقوة والعزة لله ثم يعتبر الطغاة أعظم قوة وعزة وقدرة من الله ويتلاعب بالأدلة لتبرير موقفه؟


ولربما تمثل التوحيد الخالص في شخص قليل العلم لكنه بذل نفسه في سبيل الله، إما في ساحات الجهاد أو بقول كلمة الحق عند سلطان جائر، لأنه استحضر في تلك اللحظة ألوهية الله وربوبيته وأسمائه وصفاته فهَان عنده شأن المخلوقين. ولربما تمثل النفاق العملي والاعتقادي في عالم ضليع بتفاصيل العقيدة لكنه مطبّل للحكام متفرغ لتبرير جرائمهم وتجريم مخالفيهم من المصلحين والآمِرين بالمعروف والناهين عن المنكر.


المسافة بين الحكم والصلاة

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله "لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة". السرّ في اعتبار الحكم أول عروة تُنقض هو أن الحكم أكثر أشكال التنظيم البشري تعقيدا وتشابُكا وتداخُلا وسعة وشمولا في التجمعات البشرية، ومن ثم بحاجة لمقتضيات كثيرة حتى يكتمل. وعلماء الإدارة يقولون إن أنظمة الحكم لا يمكن أن ينافسها أي مؤسسة إدارية أو شركة في حجمها وتعقيدها حتى لو كانت شركات عالمية وبرَأسمال فلكي


أما السرّ في اعتبار الصلاة آخر العرى انتقاضاً، فهو أنها في الجهة المقابلة للحكم من ناحية الحاجة للمقتضيات، فهي العبادة الوحيدة التي يمكن أن تُؤدّى في بعض الحالات فرديّا ودون أي شروط. فالمصلي لا يحتاج إلى اكتمال النصاب كما في الزكاة، ولا يعذر بسفر أو مرض كما في الصوم، ولا يشترط عليه الاستطاعة كما في الحج.


والصلاة تجب حتى لمن فقد الحركة والنطق ولم يبق له إلا عقله، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها حتى لمن كان في مواجهة العدو في لحظة احتدام القتال. وبين الصلاة والحكم طيف واسع من الواجبات التي تتدرج بتَعقيدها حتى تصل لأكثرِها تعقيدا وهو الحكم.


ومن الفوائد في هذا الحديث أنه تأكيد بأن الحكم عروة من عرى الإسلام، وهذا مصداق إجماع الأمة على وجوب إقامة الحكم الإسلامي بشروطه وأركانه. ومن فوائده أنه دليل على واقعية الإسلام، وقدرته على التمدد والانكماش، ثم إعادة التمدد بعد زوال الانكماش كما أثبت التاريخ ذلك.


نظرة المسلم للذنب تحدد موقعه

من علامات التديّن ترك المحرمات وتجنب الطرق المؤدية إليها، لكن الإنسان بطبعه خطّاء كما ورد في الأثر، ولا يمكن أن يتجنب هذه المحرمات بشكل مطلق. لكن رغم هذه الواقعية في تفهّم الإسلام لاحتمال اقتراف الذنوب، فإن الإسلام لا يتساهل إذا صاحب الذنب الأمور التالية:


الأول: التهاون بالذنب وتكراره بلا مبالاة ودون توبة واستغفار، وهذا هو ما يحول الصغيرة إلى كبيرة كما جاء في الحديث (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه).   ولذلك فإن القلق من الذنب والشعور بالخطأ عند اقتراف الذنب والحياء من الله هو من مصاديق التديّن الحقيقي، بل إن الذي يشعر بالخوف من ذنبه ويقلق من آثاره عليه أكثر تديّنا ممن لم يعمل الذنب وكأنه قد تفضل على ربه بترك الذنب.


الثاني: المجاهرة بالذنب أمام الناس فقد ثبت في الحديث المتفق عليه "كل أمتي معافى إلا المجاهرون" ، والمجاهرة أسوأ من التهاون بالذنب لأنها وسيلة لبثه في المجتمع وتطبيعه على المنكرات. ولذلك فإن من شرط التدين الحقيقي أن يستحي المسلم من ذنبه ويبذل ما يستطيع للاستتار به ليس خوفا من المخلوقين، لكن إدراكاً لقُبح الذنب في ذوق المسلمين ومنعا لتطبيعه.


الثالث استحلال الذنب، وهو أسوأ من التهاون والمجاهرة، لأن من يستحل الذنب الذي ثبت تحريمه في خطر عظيم وقد يخرج من دائرة الإسلام. وهذا الاستحلال لا يمكن أن يحصل إلا وقد نزعت هيبة الدين من قلب صاحبه حتى لو كان الذنب دون الكبائر. ولذلك اتفق العلماء على أن من يقترف المعاصي وهو مؤمن بحرمتها يبقى سليم العقيدة وهو أفضل آلاف المرات ممن يستحلّ هذه المعاصي حتى لو لم يقترفها لأنه معتل العقيدة.


أين يجد المسلم الراحة النفسية؟

من شروط كمال التديّن الاستحضار الدائم للشعور بفضل الله والحاجة الدائمة لتوفيقه وتثبيته وبركته وهداه، ثم أداء ضريبة هذا الشعور بدليل عملي وهو الاجتهاد في حمد الله وشكره باللسان والعمل. ومن كمال التديّن في الجانب الآخر الشعور بالتقصير في حق الله وأداء الواجبات الشرعية، مما يلزم بتحاشي أي خاطرة -ولو عابرة- في المنة عليه أو اعتقاد النجاح في أداء الواجبات وترك المحرمات.


والمداومة على الجمع بين هذين الأمرين وهما شكر الله على نعمه والشعور بالتقصير في حقه دائما يؤدي إلى راحة نفسية وطمأنينة قلبية و ثقة بالله وتَأييده والأمل بتوفيقه في الدنيا والطمع برَحمته في الآخرة، ويبعد القلق والشعور بالعجز والفشل.


والشكر لا يقتصر على فضل الله بنعمه المعروفة في الرزق والصحة والأمن، بل الشكر يلازم المسلم حتى مع نزول المصائب لأنه يدرك أن الله قد دفع عنه من الشر ما هو أسوأ منها، ثم مهما بلغت مصائب الدنيا فلن تكون مثل المصيبة في الدين، كما جاء في الحديث "ولا تجعل مصيبتنا في ديننا".


حسن الخلق مقدم على النوافل

يغيب عن الكثير أن التقرب لله بالأخلاق الحسنة أفضل من كل النوافل، وهو ما ثبت قطعيا في أحاديث كثيرة. وحسن الخلق مفهوم واسع لا يقتصر على ما يسميه الناس بالأتاكيت، بل يشمل كل العلاقات مع البشر والكائنات من الوالدين لبقية العائلة والجيران لبقية المسلمين ثم غير المسلمين ثم الحيوانات والبيئة.


فبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان للجار وإكرام الضيف ورحمة الصغير وتوقير الكبير كلها أفضل من النوافل دون تقليل من قيمة النوافل. والمتدين الحقيقي -بعد أدائه للفرائض- هو الذي يجتهد في هذه المنظومة من الأخلاق ومن يتساهل فيها فلن يحقق التديّن الصحيح. وكثير ممن لا يبدو عليهم مَظهر التدين في شكلهم ولباسهم وكثرة عبادتهم هم أقرب لله سبحانه بأخلاقهم وأدائهم لحقوق الناس وخاصة الوالدين والأقربين.


الصدق والأمانة نافذة على التديّن

يغيب عن الناس أن الأمانة والصفات المتفرعة عنها مثل الصدق والوفاء وحفظ السر من أقوى علامات التديّن إذا كانت مبنية على رقابة ربانية وإخلاص لله. ويغيب عنهم كذلك أن الآثام المترتبة على ما يناقض الأمانة مثل الكذب والغش وخرق العهود وإخلاف الوعود والفجور في الخصومة وكشف الأسرار أعظم ذنبا من كثير من المعاصي المستقبحة عند الناس.


والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه عد المخالفات المرتبطة بالأمانة من صفات المنافقين بينما لم يربط المعاصي الأخرى بالنفاق. والنفاق بكل أشكاله قبيح ومعارض للتديّن مهما بذل صاحبه من جهد في الظهور بمظهر المتديّن. ويكون المرء بعيدا عن الدين والتدين بقدر ما لديه من كذب وغدر وخيانة وإفشاء الأسرار، وإذا اجتمعت فيه هذه الصفات كان منافقا خالصا، كما جاء في الأحاديث الثابتة عن صفات المنافقين.


والصدق والأمانة ليس محصورا في التعامل مع الأخبار وحفظ الأموال، بل هو في كل ما فيه مسؤولية الأمانة، وعلى رأس ذلك قول الحق في مواطن الخطر وتحمل المسؤولية عند الشدائد. ومن هنا فكثير من المحسوبين على العلم ممن عليهم مظاهر التديّن لا ينفعهم مظهرهم إذا لم يمارسوا الصدق والأمانة. والصدق في هذا المقام هو بيان الحق وكشف الباطل والأمانة هي تحمل المسؤولية في مواجهة الظلم والمنكر.


وبسبب سوء التربية وتراكم النفاق العملي في المجتمع على مدى أجيال يتطبّع الناس بأطْباع النفاق حتى يظن بعضهم حقيقة أن الدين إنما يتمثل في المظاهر والطقوس والمناسك وليس في الأمانة والمسؤولية. وهذا التراكم الاجتماعي  حتى لو لم يكن نفاقا اعتقاديا فهو قطعا من النفاق العملي الذي يتعارض مع الإيمان، فلا يمكن أن يتحلى بصفات الكذب والغش والخيانة إلا من نزع منه التدين الحقيقي.

bottom of page