٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ
خواطر رمضانية ٣
بقلم الدكتور سعد الفقيه
المشاعر تدور مع الدين وأهل الدين
يردد كثير من المسلمين النصوص الواردة في حب إخوانهم المسلمين وأحاديث الجسد الواحد وغيرها مما جاء في التضامن والتآخي والتعاون بين المسلمين. وهذه النصوص ليست عبارات شكلية أو كلام استعراضي بل هي أوامر ملزمة يجب أن يترتب عليها مواقف ومشاعر ومسؤوليات.
الالتزام الأول أن يُحَبّ المسلم لأنه مسلم ويُحَبّ ما عنده من طاعة الله ويكره ما عنده من معصية الله. وكلما كان مقدار الحب للمسلمين مرتبطاً بما لديهم من دين وطاعة لله وبغضٍ لما عندهم من عصيان وفسق كلما كان التديّن قريبا من الكمال.
الالتزام الثاني هو تمني الخير للمسلمين وتطهير القلب من الغل البشري عليهم، ويُستثنى من ذلك بُغض ما عندهم من ظلم وفجور فهذا لا يجوز الرضا عنه. والعكس صحيح فإن من يسيء الظن بالمسلمين ويحسدهم على ما عندهم أو يفرح لمصابهم أو يشمت بهم ويتساهل في العداوة والبغضاء تجاههم فقد سقط في أسفل سلم التدين حتى لو كان صوّاما قوّاما.
الالتزام الثالث هو الفرح بانتصارهم على أعدائهم، والفرح بِخلاصهم من أي ظلم وطغيان واستبداد، والحزن على مصائبهم وتمكين أعدائهم منهم. ومن لم يفرح ويحزن بهذه المقاييس فإن المشكلة لديه لا تقف عند نقص التدين بل ربما تكون في أصل عقيدته كلها وانتمائه لهذا الدين.
الموقف من الجهاد
ثبت في الحديث فضل الجهاد على كل النوافل لأن فيه حمايةً لبيضة الإسلام ورفعاً لراية الدين وتمكيناً لأمر الله وتحكيماً لشرعِه وإنقاذاً للمُستضعفين. هذه الأهداف تُبقي هيبة الدين وتدفع البشر لعبادة الله وتوحيده ويترتب عليها أن يحصل المجاهد على أجر كل من انتفع بها، ومن ثم فمن الطبيعي أن يكون الجهاد أفضل من النوافل التي تنفع صاحبها فقط أو تنفع عددا محدودا من الناس.
ولذلك فإن من علامات التدين حبّ المجاهدين والذبّ عنهم والبحث عن معاذير لهم إذا أخطأوا والسعي لنُصحهم إن كان لا مجال لعُذرهم. والعكس صحيح فإن من علامات البعد عن الدين التضايق من نجاحات المجاهدين والترصد لأخطائهم والجرأة في وصفهم بأوصاف غير شرعية. ومداراة المجاهدين لا تعني السكوت عن أخطائهم وتنبيههم لها والبراءة منها، بشرط أن لا يترتب عليه الإرجاف بهم وتخوينهم واتهامهم بما ليس فيهم. أما الغلاة المخالفين للسنة والذين يسمون أنفسهم مجاهدين فلا حرج في بيان غلوّهم وتسرّعهم في التكفير وتساهلهم في سفك الدماء، دون تحريض العدو الكافر عليهم ولا انتقاد الصواب الصادر عنهم، وينبغي أن لا يتحول بيان غلوّهم إلى البراءة من كل المجاهدين.
الموقف من منكري الظلم والفساد
لا جدال أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقدم على النوافل، لأنه أقرب لوصف الفريضة من النافلة حتى كاد أن يعتبر ركنا سادسا من أركان الإسلام. والسبب أن أثر مثل هذا العمل يتعدى إلى الأمة المسلمة كلها، ومن ثم يكون للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر نصيباً من أجر كل من تأثر بأمره ونهيه.
وكلما عظم المنكر وقوي صاحبه وصعب إنكاره كلما عظم أجر وفضيلة الإنكار، حتى يصل إلى أقصاه في الإنكار على الحاكم الظالم فيكون الأجر أعظم درجات الجهاد ويكون الموت بسببه أفضل أنواع الشهادة في سبيل الله. ولذلك فإن كل ساعٍ لإزالة الظلم والفساد العام الذي يحميه الأقوياء هو بمثابة مجاهد في أفضل ميادين الجهاد. ولعل هذا يشمل ما يسمى بالمعارضة شرط إخلاص النية وصحة الاتباع.
ومن يتحاشى هذا الإنكار خشية الأذى الذي يترتب عليه فهو مقصّر لا شك في ذلك، لكن لديه فرصة أن يحقق جزءاً من هذا الجهاد بحب وتأييد ودعم من يقوم به والدفاع عنه والذب عن سمعته وعرضه والدعاء له بالتوفيق والنصر والتمكين. وأما من يتخلى عن هذا الواجب وفي المقابل يبحث عن معاذير للظلمة ويتتبع زلّات المحتسبين عليهم، فهذا ليس مقصّرا فحسب بل أقرب للمنافق حتى لو كان مصنّفا من العلماء وعليه علامات التدين في شكله وتصرفاته.
الفزعة للمسلمين وإغاثة الملهوف وإعانة الضعيف
من الخلق الإسلامي الذي يعتبر كمالا في التديّن الفزعة للمحتاج في كل أنواع الفزعة والإعانة. وإغاثة الملهوف ومساعدة الضعيف وإطعام الفقير وإنقاذ المشرف على الهلاك، والتوسط لمن يحتاج إلى وجاهة والإصلاح بين متخاصمين كلها أقرب لله من الاجتهاد في النوافل.
وفي الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، الحديث " وقوله: ومن يسر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ، ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ، ما كان العبد في عون أخيه …. الحديث"
والعكس صحيح، فخذلان المحتاج والتخلي عن الضعيف مع القدرة إثم ومعصية وقد يصل إلى الجريمة إن كان في المسألة دفع ضرر أو منع مصيبة. وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ( ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه , وينتهك فيه من حرمته , إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته ، وما من أحد ينصر مسلماً في موطنٍ ينتقص فيه من عرضه , وينتهك فيه من حرمته , إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته )
التجرد هو الطريق إلى العدل
لا يمكن أن يحقق الإنسان العدل في تعامله مع الناس والجماعات والأحداث والآراء والرويات إلا أن يتجرد من كل العوامل التي تؤثر في موقفه وقراره. والقرآن نص على ذلك بوضوح في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألّا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون".
ولأن العوامل التي تؤثر في موقف الإنسان وقراره كثيرة وقوية كان التجرد ثم العدل مهمة صعبة وتحقيقها إنجاز كبير. الحب والبغض، والخوف والطمع، والحسد والغيرة، والتشبث بالمكاسب والشهرة والمنصب والمنزلة، والتفكير الرغبوي، وغيرها عوامل لا يكاد يسلم الإنسان من تأثيرها. بل إن تربية الإنسان وبيئته وثقافته وتجربته المحدودة تجعل التجرد مستحيلاً لأن التربية والبيئة والتجربة تترك جزءا كبيرا من أثرها في اللاشعور فلا يدرك الإنسان أنه انحاز بسببها.
وقد دلنا القرآن على تأثير البيئة حين وجه النداء للكفار بأن يتخلصوا من تأثير الآخرين في قوله تعالى "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جِنّة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد". وعلماء النفس يقولون إذا زاد العدد عن اثنين في أي نقاش ينخفض مستوى التجرّد لأن كل واحد يريد أن يكسب الثالث أو يريد أن يستعرض حجته أمامه.
طول الأمد أشد أنواع الابتلاء
بعض الدعاة والعلماء والنشطاء يعجبك كلامهم وعباراتهم القوية ومواقفهم الصارمة، لكن يُبتلى أحدهم فينهار منذ الضربة الأولى، أو يصمد أمام الضربة الأولى، ثم ينهار في الثانية، أو يصمد في الثانية ثم ينهار في الثالثة، فيُغيِّر رأيه ويتحول. وقد يتحول فقط لأن النتيجة التي كان يتأملها تأخرت وبقي الطاغية قويّا وبقيت كل السلطة في يده.
هذا الناشط الذي تحوّل قد يعبر عن تحوّله علنا بتنكّر لماضيه، أو بانقلاب على رفاقه في الجهاد، أو قد يتحاشى الإعلان لكن يترجم تحوّله بمواقف تعكس هزيمة وإحباط وانكفاءً على نفسه واختلاق التبريرات للتخلي عن المهمة.
والامتحان بطول النَّفَس من أشد أنواع الـمِحَن، ولذلك كان الأنبياء -عليهم السلام- أكثر مَن اختُبِر في هذا الجانب؛ فنبي الله نوح -عليه السلام- دعا قومه "ألف سنة إلا خمسين عاما"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ؛ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ».
والنبي -صلى الله عليه وسلم- دعا في مكة ثلاثة عشر سَنةً وتعرَّض لضغوط كثيرة وما آمن معه إلا بضعُ مئات، مع أنه أفضل البشر عقلاً وذكاءً وحكمة، وأكثرهم قدرة على القيادة، ومعه المعجزات المتتالية وفي مقدمتها القرآن العظيم، ومعه التأييد الرباني الكامل. ثم حتى بعد الهجرة تعرض لما حصل في أحد وحوصر في الخندق ولم تفتح له مكة إلا بعد ثماني سنين من الهجرة.
والصمود الكامل أمام طول العهد وتتابع البلاء لا يؤتى إلا للقليل الذين يثبت التاريخ أسماءهم ويطمس أسماء خصومهم، كما حصل للإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية وأمثالهم.
هناك من يضعفون أمام التحديات لكن لا ينقلبون على مسيرتهم، ولا يتنكّرون لرفاقهم، بل يكتفون بالتنحي، فاتحين المجال لغيرهم من الثابتين، مثنين عليهم، داعين لهم بالنصر والتمكين، فهؤلاء يبقى لهم تقديرهم حتى لو أجازوا لأنفسهم "استراحة المحارب".
في المقابل ينهار آخرون ثم لا يترددون في طرح المبررات المرفوضة، بل إن بعضهم يريد أن يغير المسيرة كلها معه ويحرفها مع انحرافه، وكأنّ التاريخ والإسلام والدعوة والمشروع متوقفٌ على حالته النفسية وظروفه الشخصية!
ومن سنة الله الثابتة، التي لا تخص المسلمين فقط، أن أي تغيير كبير لا بد أن يستغرق وقتاً طويلاً ويُكبِّد ثمناً باهظاً. الثورة الفرنسية والثورة الروسية والأمريكية -رغم أنها ليست ثورات إسلامية- مَضَت فيها هذه السنّة واستغرقت سنوات طويلة وتعرضت لِتراجعات خطيرة قبل أن تؤتي ثمارها.
وكثير من الرواد الذين أحدثوا تغييرات تاريخية كبرى -حتى من غير المسلمين- استغرق جهدهم عقوداً، وواجهوا انتكاسات كثيرة وتخلى عنهم كثير من رفاقهم قبل أن يحققوا مرادهم. نلسون مانديلا مثلا بقي في سجنه ثمانية وعشرين سنة قبل أن يكتب له التمكين ويصل إلى رئاسة جنوب إفريقيا.