٤ محرم ١٤٤٥ هـ
سيد قطب وأسباب تأثيره
بقلم الدكتور سعد الفقيه
كان سيد قطب -ولا يزال- باتفاق المحللين نموذجا متفوقا في الفكر الإسلامي المعاصر وشخصية تحدَّث عنها المؤرخون والمفكرون باهتمام كبير. ولا يجادل أحد -لا من محبي سيد ولا من خصومه- أن له بصمةً واضحةً على خارطة الفكر الإسلامي بوجهٍ عامٍّ، والحركات الإسلامية بوجهٍ خاصٍّ، لا سيَّما الحركات الجهادية.
وسيد قطب مشهور لدى الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية من القوميين والشيوعيين والناصريين، بل لدى غير المسلمين من المختصين ومراكز الدراسات والبحوث. ويكاد موقعه في التأثير الفكري عند معظم المحللين يضاهي مستوى ابن تيمية وابن حنبل وغيرهما من الشخصيات الإسلامية الكبرى في التاريخ.
لكن كثيرا ممن تناولوا ظاهرة سيد قطب خرجوا من دائرة التجرد، لأنهم إما انطلقوا من موقف مسبق بالعَداء والخصومة، أو من موقف مسبق بالإعجاب والانجذاب. ولتحقيق التجرد في تناول شخصية سيد قطب لا بد من رسم خريطة ذهنية لأفكاره ودراسة الأسباب والظروف التي جعلته مؤثرا في الوعي الجمعي للتيارات الإسلامية، وإذا تم ذلك فلا حاجة للمدح والذم.
أدوات التأثير لدى سيد قطب:
امتلك سيد قطب ملكات ومهارات وتوفرت له فرصاً مكّنته من أن يوصل أفكاره بفعالية إلى عقل وقلب القارئ ويبني في ذهنه منظومة كاملة لفهم الدين على طريقته، ثم يدفعه لتحويل هذه الأفكار إلى مواقف وأفعال. ومن مهارته أنه يشعر مجموعة القراء بضرورة أن يترجموا الأفكار إلى نظام ومنهج حياة جماعي ومن ثم يطبقونها على أنفسهم كجماعة.
هذه المهارات والفرص التي نسردها هنا قد يشترك فيها سيد مع كل الكُتّاب والخطباء المؤثرين في التاريخ من المسلمين وغير المسلمين لأنها أدوات محايدة يمكن أن تستغل لأي محتوى:
١) أنه كاتب من الطراز الرفيع، موهوب في كتاباته التي صُقِلَت بخبرةٍ أدبيةٍ عاليةٍ كونه عاصَر مرحلةَ ذروة الأدب الراقي في مصر وعايش كبارَ الكُتَّاب في القرن العشرين كالرافعي والعقاد وطه حسين ومحمود شاكر ورشيد رضا وغيرهم. كانت هذه المعايشة سببا في رفع مستوى الذوق الأدبي والفصاحة والبيان لمستوى نادر في التاريخ العربي. ولا يشكّك محبو سيد ولا خصومه في قدرته الأدبية وأسلوبه البياني وبلاغته في الصياغة.
٢) قدرته على ترجمةَ المشاعر والأفكار الداخلية إلى كلمات واضحة التعبير سهلة الفهم، فيستطيع القارئ أن يدرك مراد سيد رغم عمق الفكرة واختلاطها بالمشاعر القلبية الأحاسيس الداخلية. وكثير من الكتاب المبدعين في الصياغة والبلاغة لا يتقنون هذه المهارة ومهما استمتع القراء بكتاباتهم لا تنتقل الفكرة من عمق قلب الكاتب وعقله إلى قلب وعقل القارئ.
٣) الثقافة العامة، فسيد قطب على قدرٍ عالٍ من المعرفة الموسوعية، فهو قارئ جيد في الشريعة والتفسير والتاريخ والجغرافيا وثقافات الشعوب الأخرى. ورغم تخصص سيد الأدبي فقد كان لديه اطلاع في العلوم الطبيعية مثل الفلك والطب والفيزياء مما أعانه على توسيع أفقه وفهم الواقع والتاريخ والدين بشكل أشمل.
٤) احتكاكُه بطيفٍ عريض من الأطروحات الفكرية داخل الصف الإسلامي. كانت مصر عامرة في وقته بكل التوجهات من الطرح السلفي والصوفي والمعتزلي ونماذج بتوجهات مختلفة من العلماء والكتاب والمفكرين. كما احتك سيد بالتجمعات الحركية التي كان أهمها وأثقلها جماعة الإخوان المسلمين التي استقر رحاله فيها.
٥) احتكاكه بطيف عريض من الأطروحات الفكرية خارج الصف الإسلامي مثل الشيوعيين والقوميين والليبراليين و تلامذة المستشرقين، ثم من خلال سفرته لأمريكا تعرف على طبيعة المجتمع الرأسمالي العلماني عن كثب وعايشه مباشرة وتعامل مع تفاصيله. هذا التعرض للطيف العريض ساهم في توسيع أفقه وفهم العالم وتجلى أثر ذلك في كثير من كتاباته. وربما كانت رحلته لأمريكا نقطة تحول كبيرة في فكره كما ذكر هو وكما أكد ذلك بعض الذين بحثوا سيرته.
الأفكار الأساسية لسيد قطب
قام فكر سيد قطب على مجموعة من الأفكار التي سَلَّط عليها جُلَّ تركيزه وساهم في تداولها بسهولة. ولم تنتشر هذه الأفكار بالضرورة من خلال قراءة الكتب، بل انتشرت من خلال تداولها أو تداول أجزاء منها كتابيا وكلاميا في منشورات وكتب ومحاضرات وخطب أخرى فتركت ذلك التأثير دون أن تقرأ الكتب بذاتها. من أهم هذه الأفكار:
العقيدة أولا وآخرا
الدِّين عند سيد ينطلق من وإلى العقيدة، بمعنى أن العقيدة والتوحيد وعلاقة المسلم بربه ونظرته للحياة والموت وموقعه بين الكائنات ومهمته في الحياة ومصيره في الآخرة هي قضية القرآن الأولى والكبرى. ويصرّ سيد على أن الدين شدّد على مركزية مسألة العقيدة في الإسلام وتدخّلها في كل شيء، ويستدل على ذلك بأن القرآن يؤكد عليها في كل حين حتى في معرض حديثه عن أمور حياتية مثل الزواج والطلاق والبيع والشراء والسلم والقتال.
منهج حياة
الإسلامُ منهجُ شاملٌ لا يخرج عن سُلطته شيء، ولا يكفي ترديد هذا الكلامَ بل لا بُدَّ من تشرُّبه وتمثُّله وتطبيقه حقيقةً وواقعًا على مستوى الفرد والمجتمع والدولة. وكثيرا ما يؤكد سيد أن كُتُبَ الوحي بشقَّيْه (القرآن والسُّنة) ليست كُتُبَ بركةٍ وتلاوةٍ فحسب بل هي كُتُب عملٍ وتطبيقٍ ومنهجٍ للفرد والجماعة والدولة والاقتصاد والسياسة والحرب والمعاملات والسِّلم والعلاقات الدولية... إلخ.
الهوية والانتماء
لا بد عند سيد من وضوح الهُوية والانتماء بخطٍّ فاصلٍ لا مكان فيه للرمادية، بمفاصلة مطلقة لا مجاملة فيها ولا مداهنة قيد أنملة. فهو يعتقد أن المسلمَ مسلمٌ والكافرَ كافرٌ ولا يدخل الكافر في الإسلام إلا بانسِلاخه الكلي من الكفر -والعكس صحيح-، فلا يوجد لديه ما يسمى أنصاف الحلول أو أنصاف المسلم أو نسبية الإيمان بين الإسلام والكفر، فمن الوارد أن يكون المسلم عاصيًا لكن ليس من الوارد مطلقًا أن يكون المسلم كافرًا في الوقت نفسه.
والثقة بالهُوية ومباهاة بقية البشر وتحديهم بها، يجب أن يعيشها المسلم بقلبه وجوارحه، فلا يمكن أن تكون الهُوية الإسلامية صحيحةً إلا باستحضارٍ واعٍ للانتماء، ولا بُدَّ للمسلم أن يعي ويتذكر ويعيش دائمًا حالة كونه مسلمًا وأن يستشعر انتماءه لهذا الدِّين، والانتماء للإسلام ليس مفهوما بارداً، بل هو انتماء متوقد لأفضل خطٍّ بشريٍّ في التاريخ؛ الذي هو خط الأنبياء من أبينا آدم إلى محمد -عليهم جميعًا أفضل الصلاة وأزكى السلام-.
العالمية
عالمية الهُوية وعدم الاعتراف بمفهوم القُطْر والوطن بحدود معينة واضحة في كتابات سيد قطب لدرجة استخفافه بمفهوم القطرية واعتباره "تجمُّعًا بهائميًّا داخل سياج الحدود". ويتبع ذلك عالمية الإسلام؛ وذلك بتحويل الاعتقاد بالعالمية إلى اعتقادٍ بوجوب إيصاله وتبليغه لكافة البشر وعلى المسلم -عند سيد- استحضار هذا الواجب دائمًا. وعالمية الإسلام لا تعني فقط نبذ الوطنية وانتفاء العنصرية ومحاربتهما بل تعني السعي -سلمًا وحربًا- لأَنْ يَدين العالمُ كله بالإسلام، وأن تكون للإسلام الهيمنة المطلقة على هذا العالم؛ فالإسلام هُويةٌ واضحةٌ وانتماءٌ عالميٌّ، ونشره في العالم واجب سواء كان سلمًا أو حربًا.
المسؤولية
يؤكد سيد دائما على ضخامة أمانة المسؤولية في حمل رسالة الإسلام بكل الوسائل المتاحة، فهو يرى أن الإيمان لا يصح إلا باستحضار مسؤولية نقل الرسالة لبقية البشر في كيفية تعليم الناس العقيدة الصحيحة والتطبيق الصحيح للإسلام، سواء كانت الرسالةَ الأصليةَ من المسلم لغير المسلم، أو نقل العلم الشرعي للمسلمين الجهلة، أو رسالة الإسلام الصحيحة لمن حاد عن الطريق الصحيح، أو إصلاح أوضاع المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الاستعلاء
مفهوم الاستعلاء بالإيمان مشهور عند سيد قطب ويكاد يكون أكثر الأفكار الملتصقة به فهو يرى أنه "لا يكتمل الإيمان إلا بشعور المسلم بالتفوق الحقيقي على كل البشر". وليس المقصود عنده هنا تفوقًا عنصريًّا لأنه لا عنصرية في الإسلام، وإنما التفوق الروحي والثقافي والحضاري، و في المقابل القناعة ببؤس غير المسلمين لأنهم، أولا: لا فرصة لهم للنجاة في الآخرة، وثانيا: لأنهم لم يحملوا رسالة الحضارة الحقيقية التي أرادها خالق الإنسان للبشر والمُتمثِّلة في التمكين لدين الله في الأرض.
وتتمة للاستعلاء الفردي يدعو سيد للاستعلاء الجماعي من خلال السعي لهَيمنة المجتمع المسلم على غيره؛ بمعنى أن يكون الإسلام هو القانونَ السائدَ مطلقًا وبلا منافس، وهذا عنده هو معنى قوله تعالى "ويكون الدِّين كله لله".
المرجعية
لا يتسامح سيد في أن تكون المرجعية للكتاب والسُّنة صارمة في كل شيء، وهي التي استخدم لها مصطلح "الحاكمية". وقد فهم البعض من مصطلح "الحاكمية" أنه محصور في الحكم فقط، لكن الصحيح أنه يقصد مرجعية شاملة للكتاب والسنة بدءًا بالوضوء والصلاة والحيض والنفاس وانتهاءً بالحكم والحرب والمعاملات، حتى قيل إن سيد قطب ارتبط اسمه لدى الناس بكلمتين (الحاكمية - الاستعلاء).
القدوة الفردية والقدوة الجماعية
حين تحدث سيد عن اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم واعتبارِهِ القدوة العليا أشار إلى أن هذا الاقتداء الفردي لا يتمّ إلا بالاقتداء الجماعي بجيل الصحابة الذين سماهم مجتمع قرآني فريد. والقارئ لسيد قطب يجد نفسه أمام الحديث عن قائدٍ وصل الحد الأقصى في المثالية الفردية وجماعةٍ وصلت الحد الأقصى في المثالية الجماعية.
وإتماما للفكر أشارَ سيد إلى أن العصمة التي اتصف بها النبي صلى الله عليه وسلم والتي أهلته للقدوة الفردية لم يتصف بها الصحابة كأفراد وإنما اتصفوا بها كجماعة، بمعنى أن مجتمع الصحابة في موقفه الجماعي معصوم لكن أفراده ليسوا معصومين.
إلهية المصدر وبشرية التطبيق
رغم تشديد سيد على إلهية المصدر في رسالة الإسلام فقد أكد على أن هذا الدين منهج عملي واقعي للبشر يناسب أحوال البشر، ويصيب من يؤمن به ما يصيب بقية البشر من أحوال وعوارض وسنن بشرية سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. ويقصد سيد من ذلك أن حظ المسلمين من التمكين والنصر والرخاء والأمن مرتبط بأخذ الأسباب التاريخية التي تمكنهم من ذلك وليس لأنهم مسلمون. والعكس صحيح فقد يصيبهم الهزيمة والضعف وانعدام الأمن والفوضى ليس لأنهم تركوا الإسلام بل لأنهم اقترفوا الأسباب التاريخية والسننية التي تؤدي إلى ذلك.
لا تجزئة في الإسلام
الإسلام عند سيد كل لا يتجزأ ولا يعتبر مسلما من لم يقبل به منظومة كاملة، ومن لا يقبله كله فكأنما رفضه كله. وهذا لا يعني التقصير في بعض الواجبات ما دام مؤمنا بوجوبها أو اقتراف بعض المعاصي ما دام مؤمنا بتحريمها، وإنما يعني رفض الإيمان بأي جزء من تعاليم الإسلام الثابتة. وفضلا عن اعتقاد سيد بخُروج من لا يقبل الإسلام كاملا من دائرة المسلمين فإنه يعتبر ذلك هزيمة نفسية وانتكاسا حضاريا وتنازلا أمام العقائد والمذاهب الأخرى.
مقتطفات من أقوال سيد قطب:
هذه مختارات من أقوال سيد قطب ربما تعتبر نموذجا للاختراق الذي حققته كتاباته لقلوب وعقول كثيرا ممن قرأ له:
"إنني أنظر من عُلُوٍّ إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتماماتِ أهلها الصغيرة الهزيلة، لكم دينكم ولي دين، لا أنصاف حلول، لا التقاء في منتصف الطريق، مهما تزينت الجاهلية بِزِيِّ الإسلام أو ادَّعت هذا العنوان. إن الجاهليةَ جاهليةٌ والإسلامَ إسلامٌ، والفارق بينهما بعيد، والسبيل هو الخروج من الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته".
"ما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوةً ولا سلطانًا؛ إنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تُمطي له ظهرها فيركب، وتمد له أعناقها فيجرّ، وتحني له الرءوس فيستعلي، وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى! العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر لأن في نفوسهم حاجةً مُلِحَّةً إلى العبودية لأن لهم حاسةً سابعةً اسمها: حاسة الذل".
"إن قتل عبد الناصر هدف تافه؛ إننا نهدف إلى بناء أُمَّةٍ لا يخرج فيها أمثال عبد الناصر".
"ليس في إسلامنا ما نخجل منه وما نضطر للدفاع عنه، وليس فيه ما نتدسَّس فيه تدسُّسًا أو نتلعثم في الجهر به على حقيقته، إذا كان هناك مَن يحتاج للدفاع والتبرير والاعتذار فليس هو الذي يقدم الإسلام للناس؛ إنما هو ذلك الذي يحيا في هذه الجاهلية المهلهلة المليئة بالمتناقضات والنقائض والعيوب، يريد أن يلتمس المبررات للجاهلية، وهؤلاء هم الذين يهاجمون الإسلام ويُلجِئون بعضَ محبيه الذين يجهلون حقيقته إلى الدفاع عنه كأنه مُتَّهَم مضطر للدفاع عن نفسه في قفص الاتهام".
"الدعوة الهينة يتَبَنَّاها كل ضعيف، أمَّا الدعوة العتية الصعبة فلا يتَبَنَّاها إلا الأقوياء ولا يقدر عليها إلا الأشداء".
وقال لما طُلِب منه أن يعتذر: "لن أعتذر عن العمل مع الله". ولما جيء به إلى المشنقة وقيل له: "قل لا إله إلا الله" رد بعبارته الشهيرة: "وهل جئتُ هنا إلا من أجلها؟!".