top of page

٢١ جمادى الآخرة ١٤٤٤ هـ

صناعة التفاهة

بقلم الدكتور سعد الفقيه

صناعة التفاهة

مظاهر الاحتفاء الخرافي بلاعب مشهور وصل الرياض، أو "سْنابَر" دخلت المول، أو "يوتيوبر" عُرف جنس الجنين الذي في بطنها ليست شاذة ولا معزولة، بل تتعاظم وتبدو كأنها هي الطابع الحقيقي لمجتمعاتنا العربية. هذه التفاهة خرقت في البداية حاجز القبول وتحمّلها المجتمع بعد أن كان يستقذرها، ثم توسعت وتمددت، وهي الآن في اتجاه أن تصير الأساس في العرف الاجتماعي.


هل يمكن تفهّم أحوالهم؟

كان التعلّق في البداية بشخصيات أو جهات لها إنجاز استثنائي مثل لاعب جيد أو فريق له انتصارات كروية أو مغني صوته جميل أو خبيرات المكياج والأزياء. وهذا قابل للتصور في شعوب مَهزومة محرومة من الإبداع، لكن أن يتعلق الملايين بـ "يوتيوبر" وزوجته اللذان لا يقدمان شيئا سوى برنامجهما اليومي بتفاصيله التافهة التي يُفترض ألاّ يطلع عليها أحد، فهذا أسوأ درجات التفاهة. ومثله تعلق الملايين بـ "سنابر" تستعرض ملابسها وأكلها وشربها وتجاربها السخيفة وقصصها المملّة ومغامراتها المزعومة ومسَاجلاتها الصبيانية مع الآخرين.


أسئلة

هل هذا المسار في توجّه الشعوب العربية تطور طبيعي يواكب العولمة والثورة المعلوماتية ووسائل التواصل، أم هو مصطنع مفتعل يقف خلفه جهات لها نفوذ وسلطة؟


هل تعلق الشباب بفريق كروي إلى درجة الانتماء الذي يلغي هويته الدينية والعربية ويوالي ويعادي بناءً على تحزبه الكروي بكل فخر أمر طبيعي أم مصطنع؟


هل متابعة عشرات الملايين لإعلان جنس الجنين في بطن "اليوتيوبر" والذي سيظهر على برج خليفة في احتفال باذخ كلف ملايين الدولارات طبيعي أو مصطنع؟


هل اقتتال الناس في أحد المولات من أجل الوصول لـ "سنابر" مشهورة لـ"تكحيل العين" برؤيتها على الطبيعة أو"التفاخر" بالسلام عليها أو "التبرك" بلمسها طبيعي أو مصطنع؟


إذا أريد الإجابة على هذا الأسئلة لا بد من معرفة امتداد هذه الظاهرة وعمقها جنبا إلى جنب مع دراسة الظروف السياسية والاجتماعية والإعلامية والثقافية التي تشكلت فيها.


مظاهر التفاهة

من مظاهر هذه التفاهة سيطرة القضايا السخيفة على حديث الناس، فالرجال يتكلمون بالسيارات والأفلام وكرة القدم، والنِساء يتكلمن بالمكياج والأزياء والمشاهير، وحديثا شاركت النساء في حديث السيارات وكرة القدم. ومن مظاهرها تجاهل قضايا أساسية تمس الإنسان في حياته بشكل مباشر مثل البطالة والجريمة والفقر والظلم والفساد وفشل الخدمات والأخطار على الأمن القومي وغيرها. ومن مظاهرها الانسياق بالذوق في اللباس والأصوات والأكل والفن.


ويجد الناس أنفسهم مجبورين على التنافس على كماليات مرتبطة بهذه التفاهة حتى لو كانوا فقراء، فيضطر الفقير أن يسرق أو يبيع المخدرات أو أن يعيش تحت طائل الديون حتى يتمتع بواحدة من هذه الكماليات التافهة. ومن المفارقات المحزنة أن قسما كبيرا من الملايين الذين يتابعون اليوتيوبر الباذخ هم من مخيمات اللاجئين الذين لا يكادون يجدون قوت يومهم.


حتى في الطرائف والحكايات

وتفاقم التأثير حتى تدخل في أذواق الناس في الطرائف والنكات ونوعية القصص المثيرة، فترى الناس يضحكون على طُرَفٍ سخيفة، و يتداولون قصصاً وحكايات سطحية لا تستحق القراءة، ويتجاهلون الروايات المحترمة والقصص المعبرة. بمعنى أن مسيرة التفاهة هي التي تحدد ما يُضحِك وما لا يُضحِك وتحدد ما يستحق القراءة أو الاستماع وما لا يستحق.


هل كان المسلمون هكذا في مراحل ضعفهم؟

في رصد المسارات التاريخية للمجتمعات المسلمة يتبين أنها لم تصل لهذا المستوى من التفاهة رغم ما مر بها من ضعف وتفشي العادات والمظاهر السيئة. أصاب المجتمعات درجات متفاوتة من الانحدار الأخلاقي والقيمي، لكن بقي فيها احترام القيم الكبرى، وظلت النخبوية من حق من يستحقها من علماء كبار أو شعراء مبدعين أو أعيان تميزوا بكرمهم وشجاعتهم وشهامتهم وفروسيتهم. بمعنى أن النظر في التاريخ يثبت أن التفاهة الحالية ليست حالة طبيعية.


إذا لم تكن هذه التفاهة نتيجة طبيعية فمن الذي فرضها في مجتمعاتنا؟

حتى يكون الجواب دقيقا فهذا الانحدار الخطير في اهتمام الناس وتغيير الأذواق والطباع ليس خاصا بمجتمعاتنا العربية بل يكاد يكون في العالم كله خاصة المجتمع الغربي ومن يحذو حذوه. لكن المجتمعات الغربية فيها ما يوازن هذه التفاهة من جدية في الإنتاج الصناعي والزراعي والخدماتي والتفوق العسكري والسياسي والاستخباراتي والتسابق المحموم في ميادين التقنية. بل أن التخطيط لديهم يأخذ مخاطر المستقبل المحلية والإقليمية والعالمية كلها على محمل الجد ويستعد لها الاستعداد الكامل.


جدية ومسؤولية في أكثر البلاد بطرا

سويسرا مثلا بلد محايد منذ مئات السنين ولم يتعرض لخطر إقليمي ذي بال، ويتمتع سكانها بوفرة مالية ولديهم القدرة على البطر والاسترخاء، ومع ذلك يُعتَبر الأمن القومي عندهم أمرا مقدسا وتوضع خطته الأمنية على أساس تدريب كل الشعب وتسليحه وجاهزيته الفورية للدفاع عن البلاد في أي لحظة. وعلى نفس المنوال الاجتهاد في التخطيط الدفاعي والأمني والاقتصادي في كثير من الدول الغربية وتجييش شعوبها على جدية ومسؤولية كاملة مقابل ما هو موجود عندهم من تفاهة على المستوى الاجتماعي. الخلاصة أن التفاهة الشاملة ليست قَدَر البشر، وأن الغرب الخالي من القيم الدينية والذي فيه بعض مظاهر هذه التفاهة أبقى درجات عالية من الجدية والمسؤولية تحميه من التفاهة الشاملة.


لماذا المجتمعات العربية فقط ؟

إذا كانت التفاهة الشاملة ليست قدر البشر فلماذا نحن فقط في مجتمعاتنا العربية الذين أصبنا بها؟ الجواب في سياسة السلطات المتحكمة في البلاد العربية والتي تعمل قصدا على أن تبقى الشعوب تافهة سطحية منشغلة بسفاسف الأمور حتى لا تطالب بحقوقها السياسية والاقتصادية. هذا التوجه لـ "تتفيه الشعوب" ناتج عن طبيعة خاصة للأنظمة الاستبدادية التي تسيطر على بلاد العرب تختلف عن بقية أنواع الاستبداد.


الطبيعة الأولى أنه استبداد شخصي لمتعة الفئة الحاكمة فقط، والذي يختلف عن الاستبداد الوطني الذي يكون فيه هم المستبد قوة بلده وعلوّ شأنها، كما فعل هتلر لألمانيا وستالين لروسيا وفرانكو لأسبانيا وكَاسترو لكوبا. هؤلاء رغم استبدادهم وطغيانهم فقد صنعوا دولاً قوية، وكانت شعوبهم تعيش أعلى درجات الجدية. أما استبداد معظم حكام العرب فإن متعة الفئة الحاكمة لا يمكن أن تبقى مع اتصاف الشعوب بالجدية والمسؤولية والأمانة وقوة البلد عسكريا واستقلال قرارها.


الطبيعة الثانية مرتبطة بالأولى، وهي أن عجز هذه السلطات عن امتلاك قرارها جعلها تدور في فلك القوى العظمى وخاصة القوى الغربية، فصار استبدادها خيانيّا بامتياز. هذه التبعية المذلّة للقوى العظمى تنتقل من السلطة إلى الشعب على شكل دونية وخضوع تجعله مسرحا سهلا لما تريد القوى العظمى أن يكون عليه من تفاهة وسخافة. فالدول العظمى لا تريد للمجتمعات العربية التي يغلب عليها الطابع الإسلامي أن تكون جادة ذات همّة عالية مفعمة بالمسؤولية متشربة للأمانة، لأن هذا يؤدي لتمرّدهم على السلطات الخائنة ومن ثم إنشاء دولة أو دول تحرمهم من مصالحهم أو ربما تنافسهم في نفوذهم.


كيف تصنع السلطات التفاهة ؟

هذه السلطات العميلة الخائنة تملك كل الأدوات التي تصنع التفاهة، فبيدها اختيار المسؤولين للمناصب، وبيدها المال والأمن والقضاء والإعلام والتعليم، ولا تكاد وسيلة من وسائل التأثير الثقافي والتربوي والنفسي والذوقي تخرج عن هذه الأدوات.


من خلال احتكار القدرة على اختيار المسؤولين في المناصب تُفرض شخصيات في ذاتها تافهة وفي نفس الوقت معدّة لتنفيذ برامج التفاهة. وجولة سريعة بين وزراء الثقافة وحكام المناطق في العالم العربي فضلا عن الإعلام والتعليم تعطي فكرة فضائحية عن التفاهة المفروضة من قبل السلطات. في مقابل ذلك تمنع هذه السلطات -من خلال السيطرة على الأمن والقضاء- نشاطات الجدية والمسؤولية وتقمع وتسجن وربما تقتل أصحاب الهمم العالية سواءً كانوا علماء دين أو مفكرين أو مبدعين أو كتاب أو من النخب المميزة، من ثم تخلو الساحة بشكل مقصود ممن يرفع الهمة ويحرض على الأمانة والمسؤولية. وفي موازاة ذلك من خلال تدمير مناهج التعليم ينشأ جيل كامل لا يعرف هويته ولا مسؤوليته تجاه أمته.


وإذا خلت الساحة من الجادين ذوي المسؤولية وامتلأت بالقيادات التافهة وصار الجيل غير محصن ضد هذه التفاهة يأتي دور الإعلام ليبَرمج عقول وقلوب الناس بما تشتهي السلطات من تفاهة وسخافة. والسلطات لم تعد تقتصر على المطبوعات والراديو والتلفاز بل جندت عشرات الآلاف في وسائل التواصل الحديثة حتى يطبّعوا هذه التفاهة بصناعة رأي عام مصطنع يتبعه بقية الشعب.


النتائج

يترتب على تغلغل هذه التفاهة نتائج كثيرة مدمرة للمجتمعات، ولكن مع تغليب هذه التفاهة لا يملك المجتمع أن يدرك أنه ينهار فيدخل في حلقة مفرغة تغذي نفسها لمزيد من التفاهة. النتيجة التي تريدها هذه السلطات في النهاية -وقد حققت جزءا كبيرا منه- هي شعب بلا هدف ولا انتماء ولا هوية ولا رؤية وازدراء بالذات وتذلل لذوي السلطة والمال.


في جو التفاهة هذا تتدهور العلاقات الاجتماعية مثل بر الوالدين وصلة الرحم والإحسان للجار والأخوة الصالحة، وتنحسر الأخلاق الكريمة المرتبطة بها مثل الكرم والمروءة والفزعة والغيرة واحترام الكبير ورحمة الصغير وإعانة الضعيف وردع الظالم والمتنمّر. وتبعا لذلك تقوم العلاقات على المظاهر والمصالح، ويتنازع الناس في خلافات قد تصل إلى إراقة الدم على قضايا تافهة.


ومن النتائج الثانوية لهذه التفاهة المجاهرة بالانحراف الأخلاقي الذي يتجاوز الشهوات الطبيعية إلى ما يخالف الفطرة كليا مثل الشذوذ وجنس الأطفال ورياضات الجنس القبيحة، ويصاحب ذلك انتشار المخدرات وشيوع الأمراض النفسية وخاصة الاكتئاب والقلق. ومن نتائجها كذلك نمو الشعبوية، وتجييش الناس لصالح التوجهات التي يريدها المستبد، فمرة تجييش ضد الأجانب وأخرى ضد "المطاوعة" وثالثة ضد التجار ورابعة ضد أهالي منطقة معينة إلخ.


ولأن الناس غير محصنين دينيا بسبب هذا التوجيه المركب يتطبّع الناس بأسوأ خصلتين، الأنانية والنفاق،  فيكون حال الفرد "نفسي نفسي"، ويتخلى عن واجبه تجاه البلد والمجتمع وزملائه والمقربين منه، ويفشو الكذب والغش والغدر واللؤم والخيانة والفجور في الخصومة وفضح الأسرار وكل خصال النفاق القبيحة.

ولأن مقاييس الصواب والخطأ غائبة ينتشر الدجل بغلاف علمي والشعوذة بزعم طبي والسِّحر بحجة الإبداع، ويُصدّق الناس خرافات الطاقة وقانون الجذب والبرمجة العصبية وغيرها من الخرافات. وحينئذ يسهل التلاعب بالجماهير وتتعاظم التفاهة لأنها تغذي نفسها حتى يكاد الشعب كله يتخدر فيسهل على السلطات تسويق المزيد من التفاهة.


وحين تهيمن التفاهة لن تحتاج السلطة أن تقمع المصلحين لأن مد التفاهة يتنامى إلى أن يصل مرحلة إرهاب اجتماعي يقصي العقلاء أو يسكتهم "أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون". وأسوأ من ذلك أن بعض هؤلاء العقلاء ينساق مع زخم التفاهة فيذوب فيه أو يجامله.


العلاج

هذا التشرب بالتفاهة لا يمكن إزالته والعودة بالشعب إلى الجدية والمسؤولية والأمانة والإنتاج والإبداع إلا بجهد كبير يتعامل مع كل أسباب التفاهة ويجعل أدوات التأثير بيد من يستحق أن يمتلكها. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتغيير سياسي واستبدال السلطات الخائنة المخربة المالكة لزمام الإعلام والتعليم والأمن والمال والقضاء بسلطات تستحق صفة القوي الأمين. وحتى بعد استلام القوي الأمين فإن بعث الجدية والمسؤولية والأمانة والانتماء في الشعوب يستدعي جهدا هائلا فيه عملية إزالة قاسية لآثار المستبد الخائن.

ولا شك أن إزالة المستبد هي الأصعب لأن الشعوب التي تطبعت على التفاهة تدافع عن من استخف بها، وترفض الوقوف مع المناضلين الساعين لإنقاذها وتخليصها منه. لكن سنن الله تقضي أن الصراع البشري الطويل حتمي والزمن جزء أساسي من برنامج التغيير.


هذا الصراع والشد والجذب ويوم لك ويوم عليك هو بذاته قسم من غسيل آثار التفاهة كونه تدريب تدريجي لقِطاعات من المجتمع على المسؤولية والنضال، خلافا لما يعتقده الحالمون بالمخلّص الذي بجهده الفردي يكون بديلا عن سنن الله الكونية.


المجتمع الجاد المسؤول

وحين تغسل آثار التفاهة تسود الجدية والمسؤولية والأمانة، وتكون الكرامة والحرية والعدالة هي القيم الرائجة، ويرتقي الذوق ،وتُعظّم الأخلاق، ويراعي الناس المَخبر قبل المَظهر، وتهيمن النخب العاقلة، ويسيطر الجدل العلمي ويُلفظ الدجل، وتحترم عقول الناس، وتقدم القضايا ذات الأولوية.


لكن كل هذا العلو الحضاري لا يدركه الشعب الذي تشرّب التفاهة ولا يمكن الوصول إليه إلا بعد سلسلة من التحديات تمحّص الناس وتصنع النخب المؤهلة ثم ترفعها لمناصب القيادة.

  • Whatsapp
  • Twitter

عبدالله الغامدي

د. سعد الفقيه

  • Whatsapp
  • Facebook
  • Twitter
  • Snapchat

للإتصال بنا عن طريق البريد الإلكتروني:

لدعم نشاط الحركة الإعلامي:

Digital-Patreon-Wordmark_FieryCoral.png
bottom of page