٢٨ جمادى الآخرة ١٤٤٤ هـ
قياس الإيمان بمسطرة سياسية
بقلم الدكتور سعد الفقيه
الإيمان اعتقاد وقول وعمل، أو كما عبر عنه علماء العقيدة: "تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان". فالاعتقاد القلبي ينبغي أن يظهر أثره في كلام المؤمن وعمله، سواء في أداء الفرائض والواجبات أو في ترك المحرمات أو تحاشي المكروهات وعمل المندوبات. هذه القاعدة لا تقتصر على تديّن الإنسان في عباداته وأخلاقه، بل يجب أن تتجلى في تعامله مع القضايا المرتبطة بالسياسة.
والمسلم لا مفر له من أن يتعامل مع بقية البشر مسلمين وغير مسلمين، ويتعامل مع السلطة التي تحكمه والسلطات التي تحكم بقية العالم، ويتعامل مع الأحداث المحلية والعالمية والأوضاع التي يعيشها المسلمون وغير المسلمين. هذا التعامل سواءً بموقفه القلبي أو بتعاطيه المباشر سيكون انعكاسا لحالته الإيمانية، مما يعني إمكانية رصد هذه الحالة الإيمانية من خلال مجموع هذه المواقف والتعاطي المباشر ثم الخروج بتقوِيم معين.
وإذا اعتبر الأجر والثواب درجات بالموجب، واعتبر الإثم والذنوب دركات بالسالب، فيمكن مع التقصي الاقتراب من مقياس تقديري يكاد يكون مسطرة للحالة الإيمانية فيها ما يحاكي أرقام المسطرة الموجبة والسالبة إلا في حالات الإكراه والإلزام القانوني وماعمّت به البلوى.
حمل هم المسلمين وما يصيبهم
يغيب عن كثير من المسلمين أن الاهتمام بأمر المسلمين هو جزء كبير من الدين وأن الموقف مما يصيبهم قد يرفعه لأعلى الدرجات أو يسقطه لأسفل الدركات. يقول النبي ﷺ: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه"، ويقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ويقول: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وفي حديث جرير: "بايعت النبي ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم"، وقوله ﷺ "الدين النصيحة" قيل لمن قال "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". والنصيحة هنا لا تعني إسداء النصح فقط بل تعني التأييد في الحق ومنع الظلم والفساد.
فإذا كان مقتضى هذه التوجيهات النبوية أن يهتم الإنسان بأمر المسلمين فكيف يمكن رسم المسطرة الإيمانية لذلك
أعلى الدرجات
يساهم بنفسه في قوة المسلمين وتمكينهم وتقليل معاناتهم
⬆
يقدم ما يستطيع من كلام وعمل ومال لدعم من يتصدى لذلك
⬆
يحمل همّهم قلبِيا ويتمنى صادقا تمكينهم وزوال معاناتهم
⬆
مرحلة الصفر
⬇
لا يكترث بما يصيب المسلمين ولا يقلق لتسلط الظلمة أو الأعداء عليهم
⬇
يشمت بهم ويبرر ظلمهم ويبحث عن معاذير لمن آذاهم من الأعداء
⬇
أسفل الدركات
يؤيد ويدعم عدوهم ضدهم، وقد يكون كفرا إذا أيدهم قاصدا إضعاف الدين
الموقف من العلماء العالمين والمصلحين والدعاة
إذا كان العلماء ورثة الأنبياء كما جاء في الحديث الصحيح فلا بد أن تكون مهمة العالم مشابهة لمهمة الأنبياء، والتي لا تقتصر على إيصال رسالة مجردة، بل تتضمن مواجهة الكفر والفساد والظلم الطغيان ونشر التوحيد وتحقيق العدل بين البشر. وكل ما جاء في الثناء على العلماء في الكتاب والسنة إنما قُصد به من يعمل بما عَلم ويدُعو إليه ويصبر على الأذى فيه كما صنع الأنبياء.
بل إن الكتاب والسنة ذمت العالم الكاتم للعلم أو المزور له أو المتاجر به. والمعنى الأهم لكتمان العلم هو التخلي عن تنزيله على الواقع عند الحاجة للبيان، كما جاء في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } وقوله ﷺ "مَن كتمَ علمًا ألجمَهُ اللَّهُ يومَ القيامةِ بلجامٍ من نار".
أما ما جاء في الثناء على العلماء كما في قوله تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وقوله سبحانه {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقول النبي ﷺ "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ" وقوله ﷺ "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ" وغيرها من الآيات والأحاديث، فإنما قصد بها من أدى حق العلم في إبلاغه والتصدي للكفر والفساد والظلم والطغيان.
وأي داعية للحق بما يحمل من علم ولو قليل يشمله هذا الثناء ويلزم بقية المسلمين إلزامات تجاهه تشبه الإلتزام تجاه العلماء. وبذلك فإنه قبل أن يضع المسلم المسطرة التي يقيس فيها إيمانه من خلال موقفه من العلماء ينبغي أن يتضح لديه التفريق بين هذين الفريقين وتكون مسطرته في قياس موقفه من علماء الملة لا من علماء السلطة.
أعلى الدرجات
يلتف حول العلماء العاملين والدعاة والمصلحين ويقف معهم ويساعدهم في إيصال رسالتهم
⬆
يدافع عنهم بلسانه ويرفض الإساءة إليهم
⬆
يحزن ويغتم لما يصيبهم من أذى وسجن وملاحقة ولا يصدر عنه ما يضرهم
⬆
مرحلة الصفر
⬇
لا يكترث بما يصيبهم لكن لا يصدر عنه شيء ضدهم
⬇
يشمت بهم أو يلوك الإفك فيهم دون أن يعادي رسالتهم
⬇
أسفل الدركات
يساعد الظالم في ظُلمِهم ويدعم الحرب على المصلحين وربما يكون كفرا إذا كان قصده العداء لرسالتهم
الموقف من شيوع الفساد والمنكرات
ينبغي أن يكون لدى المسلم موقف واضح تجاه أي فساد أو منكر حسب درجته وحسب المجاهرة به وإعلانه وحمايته. فما كان من الصغائر وقد استتر به فاعله فالموقف منه يختلف عن كبائر الذنوب المجاهر بها أو المحمية من قبل السلطة أو من قبل متنفذ. والمسلم مأمور بتغيير المنكر أيا كان لكن التغيير في حق الكبائر المجاهر بها المحمية من قبل السلطة أعظم.
والنصوص الشرعية في وجوب تغيير المنكر مقطوع بها، سواء في تأثيم المتخلي عن ذلك، أو في حصول العذاب على الأمة التي تتخلى عن هذا الواجب. وفي الحديث الصحيح المشهور اختصار لمسطرة التغيير: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ".
ولابن تيمية رحمه الله تعليق جميل يدل على علاقة درجة الإيمان بمستوى التعامل مع المنكرات، يقول الشيخ "فالمؤمن لا بد أن يحب الحسنات ولا بد أن يبغض السيئات، ولا بد أن يسره فعل الحسنة و يسوءه فعل السيئة، ومتى قدر أن في بعض الأمور ليس كذلك كان ناقص الإيمان، إلى أن قال: وفي الحديث في الصحيح أيضا (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل.) فعلم أن القلب إذا لم يكن فيه كراهة ما يكرهه الله، لم يكن فيه من الإيمان الذي يستحق به الثواب،"
وإذا أخذ بهذه النصوص عمليا سيكون ترتيب المقياس الإيماني على الشكل التالي
أعلى الدرجات
يسعى بنفسه لتغيير المنكر وإزالة الفساد واستبداله بكل أبواب البر والخير
⬆
يعلن بلسانه استنكاره له حتى لو لم يتمكن من إزالته
⬆
يكرهه بقلبه ويترجم هذا الكره بعدم القيام بأي عمل يتعارض مع موقفه
⬆
مرحلة الصفر
⬇
لا يؤيده لكن لا يكترث به
⬇
يجاهر بالمنكر ويوالي المفسدين لكن دون استحلال للمحرّمات
⬇
أسفل الدركات
يعادي من ينهى عن المنكر ويقف مع المفسدين ضدهم استحلالا للمحرمات ويصل بهذا لمرحلة الكفر
الموقف من الظلم والظالمين
قال تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" وقال النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا … الحديث"، والآيات والأحاديث في تحريم الظلم وبيان عاقبته في الدنيا والآخرة كثيرة.
ومسؤولية الظلم لا تقتصر على الظالم نفسه بل تشمل كل من يساهم في قوة الظالم ولو بشكل غير مباشر، فقد روي أن خياطا جاء إلى سفيان الثوري فقال: إني رجل أخيط ثياب السلطان (وكان السلطان ظالمًا)، هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع لك الإبرة والخيوط..!!
وإذا أريد أن يوضع الموقف من الظلم والظلمة على مسطرة الإيمان فيمكن الخروج بالترتيب التالي
أعلى الدرجات
يسعى بنفسه لإزالة الظلم إما بإجبار الظالم على التوقف عن الظلم أو بإزالة الظالم نفسه، وهذا السعي يصل بالإنسان لمرتبة أفضل الجهاد ومن يقتل بسببه فهو أفضل الشهداء
⬆
يساهم بما يستطيع في دعم الساعين لرفع الظلم أو تخفيفه
⬆
يكره الظلم ويتحاشى أن يصدر منه أي عمل أو قول أو موقف يدعم الظالم بشكل مباشر أو غير مباشر
⬆
مرحلة الصفر
⬇
لا يؤيد الظالم لكن لا يكترث بوجود الظلم ولا يشعر بمسؤولية في إزالته
⬇
يقوي الظالم بشكل غير مباشر من خلال كلامه أو وظيفته أو مواقفه مثل العمل في جهة لا يستغني عنها الظالم (غير الشرطة وأجهزة الأمن)ومثل التشكيك بالمصلحين الساعين لرفع الظلم
⬇
أسفل الدركات
يكون عونا مباشرا للظالم في شرطته أو مستشاريه أو جواسيسه أو المطبلين له في الإعلام أو العلماء الذين يفتون بِتزكيته أو القضاة الذين يحكمون تبعا لأوامره الظالمة. وقد يصل للكفر إذا كان يعين الظالم بقصد عداوة الإسلام نفسه
الموقف من تمكين الإسلام
يتفق علماء المسلمين على وجوب السعي لتحقيق الحكم الإسلامي بأركانه الصحيحة المتمثلة في مَرجعية الكتاب والسنة وهوية الدولة القائمة على الإسلام وتعظيم شعائر الدين، ويعتبرون هذه الأمور أركانا لشرعية الدولة المسلمة. والآيات والأحاديث كثيرة في وجوب تحكيم الشرع وإقامة الهوية على أساس إسلامي وتعظيم شعائر الدين ومسؤولية الدولة في منع المحرمات وأداء الواجبات العامة.
وبذلك فإن السعي لتحقيق هذه الأركان واجب على كل مسلم، خاصة السعي لتحكيم الشرع ومَرجعية الكتاب والسنة. ومن خلال التعامل مع هذه الواجبات والموقف منها يمكن رسم مسطرة تعكس حقيقة الإيمان بناء على ذلك
أعلى الدرجات
يسعى المسلم بنفسه لتحقيق أركان الحكم الإسلامي وخاصة تحكيم الشرع
⬆
يساهم بما يستطيع في دعم الساعين لتحقيقه
⬆
يتمنى صادقا من قلبه تحقيق هذا الأمر ولا يصدر منه ما يناقض ذلك
⬆
مرحلة الصفر
⬇
لا يكترث بهذه الأركان ولا يشعر بأي مسؤولية تجاهها ولا يتضايق من غيابها
⬇
يساهم في منع التمكين لهذا الدين لمصلحة دنيوية ودون أن يقصد معاداته
⬇
أسفل الدركات
يساهم في منع أي تمكين لهذا الدين منطلقا من نية وقصد وبهذا يتجاوز خط الكفر
الموقف من الجهاد والمجاهدين
يفترض أن يكون الموقف من الجهاد في مقدمة مقاييس الإيمان، لكن صار الحديث عنه في زماننا مثيرا للجدل ومُصطدما بتراكمات ترسخت لدى الشعوب يصعب تعديلها. هذه التراكمات تشكلت إما نتيجة التصرفات المنحرفة للتيّارات المحسوبة على الجهاد أو نتيجة حملات التشويه التي مارستها الحكومات ضد "الجهاد". ولم تدّخر الحكومات جهدا من خلال وسائل إعلامها المعادية للإسلام أو من خلال مؤسساتها الدينية والثقافية المزورة للدين في تنفيذ هذه المهمة .
ولهذا السبب يفضل الاكتفاء بالإشارة إلى أهمية الموقف من الجهاد في تقويم الإيمان دون طرح تفاصيل على غرار النقاط السابقة، عسى أن تزول هذه التراكمات وتتوفر الفرصة لمناقشة الموضوع بتفاصيله المطلوبة.
تنبيهات
قياس درجة الإيمان بهذه المقاييس لا يعني عزلها عن بقية مقاييس الإيمان أو الاعتبارات الأخرى التي تحدد الأجر والإثم والتي يمكن تتبعها في الملاحظات التالية:
أولا: لا يمكن أن ينال الإنسان علوا في درجة الإيمان إلا بضمان أداء الفرائض بل إن الحد الأدنى لقبول العمل لا يتم ما لم تؤدى الفرائض.
ثانيا: يجري على الأعمال التي يتحقق بها الأجر في هذه المقاييس ما يجري على أي عمل من شرطي الإخلاص واتباع السنة، فالأجر على قدر إخلاص النية وعلى قدر الاجتهاد في اتباع السنة.
ثالثا: وصف بعض الأعمال في هذه المقاييس بالكفر لا يعني بالضرورة تكفير من عمل به وإخراجه من الملة، فلا بد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، خاصة في هذا الزمن الذي عمت به البلوى وتشتت الناس فكريا بسبب الفتاوى المضللة للعلماء المزورين وأدعِياء التدين من الليبراليين والمنحرفين والفرق الضالة.
رابعا: يكاد يكون من الملاحظات الثابتة أن الذين يمارسون الأعمال التي تجلب الأجر في هذه المقاييس عادة يتصفون بصفة الأمانة وما يتبعها مثل الصدق والوفاء بالوعد وحفظ العهد وكتم السر، والذين يمارسون الأعمال التي تجلب الإثم عادة يتصفون بصفات المنافقين مثل الكذب والغش والخيانة وخرق العهد وإخلاف الوعد وإفشاء الأسرار والفجور في الخصومة على درجات مختلفة في هذا وذاك.
خامسا: التزامات المسلم السياسية لا تقل أهمية عن التزاماته الأخلاقية، خاصة ما هو في مقدمة هذه الالتزامات مثل بر الوالدين وصلة الرحم والإحسان للجار وحسن معاملة الزوج أو الزوجة. والالتزام بهذه الأخلاق أو التفريط فيها يعكس درجة الإيمان علوا ونزولا في مقياس يرتفع بالإنسان لأعلى الدرجات أو ينخفض به لأَدنى الدركات كما جاء في أحاديث كثيرة.