top of page

١١ ربيع الأول ١٤٤٦ هـ

كم خسر الإسلاميّون بمداراة الأنظمة؟

بقلم الدكتور سعد الفقيه

من أخطر الممارسات التي وقعت فيها الحركات الإسلامية في العصر الحديث وتحولت إلى ما يشبه المنهج الثابت هو التعامل مع الأنظمة الحاكمة على أساس شرعيتها الدينية والوطنية والسياسية.  ويتجلى ذلك واضحاً في خطابها الخارجي وفي برنامجها التربوي وفي خططها ووسائلها، وكأنّ المآخذ على هذه الأنظمة مقصورة على سياساتها التفصيلية. 


وحتى بعد الثورة المضادة وتحول الأنظمة إلى ماكنة قمعية لا تؤدي من مهمات السلطة إلا سحق المخالفين بقيت هذه الحركات الإسلامية ملتزمة بشرعية النظام عموماً وحصرت معارضتها للحاكم وحاشيته فقط. 


الكوادر كذلك

ويترتب على ذلك أن كوادر هذه الحركات تتشرّب القناعة بشرعية هذه الأنظمة وتتربى على أن مساعي التغيير يجب أن تكون في الهامش الذي لا يصطدم مع هذه الشرعية. وبقيت الحركات الإسلامية عقوداً تقنع نفسها أن تتحرك في هذا الهامش ليس اضطراراً بل قناعة وتنظيراً. 


اعتراف ثم احترام ثم دعم ضد المخالفين

هذه المشكلة لا تقتصر على تبني ثقافة شرعية النظام الحاكم للبلد التي فيها ذلك الداعية أو تلك الجماعة بل تمتد إلى الاعتراف بكل الأنظمة العربية والإسلامية وتضيف إلى هذا الاعتراف بشرعيتها جرعة ضخمة من الاحترام لها والتثريب بقوة على من يشكك في شرعيتها. هذا مع أن القمع التي تتعرض له هذه التيارات يشارك فيه كل هذه الأنظمة بما فيها الأنظمة التي تحظى بمديح هذه التيارات واحترامها.


حجتهم: ليس من الحكمة استفزاز الأنظمة

قد يزعم هؤلاء أنه ليس من الحكمة استفزاز الظلمة ولا دفعهم للانتقام، وهي حجة مقبولة ظاهرياً لكنها تعكس سذاجة وجهلاّ، وفشلاً في فهم حركة التاريخ والمجتمعات. صحيح أن تعمد الاستفزاز المباشر يتعارض مع الحكمة وحسن التدبير لكن الحقيقة أعمق من ذلك، والمواجهة مع هذه الأنظمة أشمل من أن تقتصر على الاستفزاز المباشر للأسباب التالية:


أولاً: ما دام الإسلام يدعو للعدل والشورى والقضاء على الفساد وعلوّ شأن الدين والدفاع عن المسلمين في كل مكان، وما دامت الأنظمة في المقابل قائمة على الظلم والاستبداد والفساد والتبعية لغير المسلمين والتآمر ضد المسلمين، فمن الطبيعي أن يكون أيّ داعية إسلامي مهتم بأمر المسلمين أو حركة إسلامية ذات طرح شامل خصماً طبيعياً للأنظمة وخطراً عليها حتى لو لم تظهر من هذه الحركات أو من هؤلاء الدعاة استفزازات مباشرة للأنظمة والحكام. 


ثانياً: أثبت الواقع أن هذه الأنظمة بادرت بشن حرب شعواء ضد الحركات الإسلامية والنشاطات الدعوية التي تتبنى الطرح الشامل مع أن هذه الأنظمة لم تتعرض لأي استفزاز أو مواجهة أو تهديد. ولم تكتف الأنظمة بذلك بل اختلقت الاتهامات والروايات الكاذبة عن الحركات الإسلامية ورموزها وشغّلت ماكنتها الإعلامية والأمنية الضخمة لتشويه سمعة هذه الحركات وتقبيح صورة رموزها.


ثالثاً: أثبت الواقع أنه لم يسلم من القمع حتى الذين بالغوا في مجاملة هذه الأنظمة إلى حد أنهم اقترفوا خطيئة صريحة في تزكية الأنظمة والثناء عليها وعلى الحكّام ظناً منهم أنهم يشترون بهذا الثناء توسيعاً للهامش الذي يتحركون فيه. وحتى لا يساء الفهم ليس المقصود هنا العلماء الخونة والتيارات الموالية للأنظمة بل المقصود تيارات جادة في خدمة المشروع الإسلامي وزوال الظلم والطغيان، اجتهدوا في مدح الأنظمة طمعاً في توسيع الهامش الذي يتحركون فيه. 


رابعا: أثبت الواقع أنه لم يسلم من القمع حتى من أسرفوا في مسايرة الأنظمة وذلك حين نأوا بأنفسهم عن  التيارات الإسلامية التي اختارت المعارضة الشاملة للنظام وتبرأوا منها حتى لا يحسبون عليها. بل إن بعضهم انخرطوا في برامج الأنظمة في الهجوم على التيارات الجهادية وكأنهم جزء من الجهاز الإعلامي للسلطة. وأّياً كانت أخطاء التيارات الجهادية فلا يجوز شرعاً الاصطفاف مع الأنظمة ضدها ولن تكون بأي حال أكثر ظلماً وطغياناً من الأنظمة.


إشكال عقدي ومنهجي 

هذا المنهج في التحرك من خلال الاعتراف الضمني أو الصريح بشرعية الأنظمة فيه إشكال مبدئي خطير وهو القبول بشرعية أنظمة أسقطت كل أركان الشرعية الدينية، بل تفرّغت لحرب الإسلام والتآمر مع أعداء الإسلام ضد المسلمين. والاعتراف بمثل هذه الشرعية يعني بالضرورة التخلي استراتيجياً عن واجب السعي لإقامة نظام تكتمل فيه أسس الشرعية الدينية وبدلاً من ذلك التطلع للترقيعات الجزئية والتي لن تحصل على كل حال. ومع مرور الزمن تنتقل هذه الثقافة من سياسة للجماعات إلى قناعات عند كوادرها فيتلاشى عند هذه الكوادر الركن الأهم في الفكر السياسي الإسلامي.


إشكال عملي حركي 

وأما الإشكال العملي فهو أن الاعتراف الضمني بشرعية هذه الأنظمة يلغي تلقائياً التفكير الاستراتيجي والتخطيط الشامل عند هذه الجماعات ويبقيها في دائرة الهوامش الضيقة وردود الأفعال وتلاعب الأنظمة. وكنتيجة طبيعية لهذا التوجه تمارس هذه الجماعات تلقائياً تهميشاً أو قمعاً للمبدعين من كوادرها الذين يتمردون على هذا النهج ويرفضون الاعتراف بشرعية الأنظمة. هذا القمع والتهميش للمبدعين يعطل عدداً كبيراً من الكوادر النافعة للعمل الإسلامي ويحرم الأمة من الاستفادة منها كما ينبغي. ومن المحزن أن هذه الجماعات لديها قدرة على تهميش هؤلاء المبدعين تفوق قدرة الأنظمة القمعية. 


ما هو المنهج البديل؟

للخروج من هذه الإشكاليات لا بد من إعادة تأسيس للمشروع الإسلامي على مجموعة أركان تقفز بهذا المشروع قفزة تاريخية وتخلصه من هذه التبعية والهزيمة أمام الأنظمة. 


الركن الأول هو التأكيد على المهمة الأصليّة والأساسية للحركات الإسلامية ودعاة المسلمين وهي تمكين دين الله في الأرض وما يتبع ذلك من تفاصيل مبنية على هذا التمكين. وهذا يستدعي إعادة برمجة لعُقول كثير من قيادات هذه التيارات والتي تدرّجت في مسايرة الأوضاع القائمة حتى نسيت مفهوم التمكين للدين. وبقدر ما تبدو صياغة هذه الفكرة سهلة وبسيطة فإن تنفيذها يكاد يكون مستحيلاً في تغيير عقليات هذه القيادات، وربما لن يتم الحل إلا بظهور قيادات جديدة لم تقع في حبائل "الشرك السياسي".


الركن الثاني هو تحديد الموقف من الأنظمة في دوائر التيارات الداخلية بغض النظر عن الخطاب المعلن. وينبغي أن يتخذ هذا الموقف الاستراتيجي بعد بذل أقصى درجات التجرد انطلاقاً من ثوابت هذه التيارات ومنهجها الشرعي حتى تتضح الصورة في حقيقة الأنظمة. 


ويُقتصر تحديد الموقف على الأساس الشرعي والديني والأساس الفكري والسياسي، بعبارة أخرى يكون موقفاً نظرياً داخليّاً قبل أن يترجم لأيّ خطوات عملية. وما دام هذا الموقف داخلياً ونظرياً فيجب أن يكون محايداً لا تراعى فيه أي اعتبارات مصلحية أو عملية. وبهذا الحياد يبقى هذا الموقف منطلقاً أو مرجعاً يدور حوله التخطيط والرؤية والاستراتيجية.


الركن الثالث هو استحضار الواقع بكل تفاصيله، ابتداء بإمكانات وقدرات النشاطات الإسلامية ثم قدرات الأنظمة الحاكمة ثم ثقافة الشعوب والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية وتأثير الدول الأخرى. ومن أجل تحقيق موازنة حقيقية بين المحافظة على المبادئ وتحقيق أفضل الإنجازات لا بد من بذل جهد كبير في معرفة هذا الواقع، لأن من خلاله يمكن الإحاطة بمعرفة كاملة للأدوات والقدرات، وتصور شامل للميدان الذي ينفذ فِيه المشروع. ومن الأخطاء الكبيرة التي تقع فيها كثير من الحركات الإسلامية التقليل من أهمية تتبّع تفاصيل الواقع ومعرفة الذات والخصم والبيئة والاعتماد على ثقة أشبه ما تكون بثقة المراهقين بقدراتهم. 


والأخذ بهذه الأركان بكفاءة ومهارة سوف يهيئ الفرصة لوضع الاستراتيجية ورسم الخطط التي تُنجح المشروع الإسلامي وقدرته على النمو وامتصاص الصدمات والسعي في نهاية المطاف للتمكين. وعند التطبيق لا مفر من المرونة والواقعية، لكن دون تغيير في المبادئ والثوابت.



bottom of page