top of page

٨ ربيع الأول ١٤٤٥ هـ

كيف تنجح دول وتفشل أخرى

بقلم الدكتور سعد الفقيه

"لماذا تفشل الدول" كتاب ألفه الأستاذان: "دارون عجم أوغلو" أستاذ علم الاقتصاد في جامعة إم آي تي، و"جيمس روبنسون" أستاذ في علم السياسة في جامعة هارفارد. ويعتبر الكتاب مرجعا في تقويم نجاح وفشل الدول، ولهذا يدرس في معظم أقسام السياسة والاقتصاد والتنمية في الجامعات العالمية. وهذا ملخص لأهم ما جاء في الكتاب مع تصرف وتعليق وإضافات.


وبما أن استنتاجات الكتاب تُعتَبر -في الجملة- مرجعا لمقاييس الإنجاز التنموي ومفهوم النجاح والفشل  لتقويم أداء الدول والأنظمة الحاكمة، فيمكن من خلال فهم ما جاء فيه تقويم أداء كل الدول و بالضرورة تقويم النظام السعودي في إدارة بلاد الحرمين. 


يفاجيء الكتاب القاريء بنسف المسلمات التي يتوقعها معظم الناس عن أسباب فشل الدول ويفنّدها بحجة دامغة، ثم يطرح أسبابَ نجاح الدول التي إن غابت تكون سببا في فشلها. 


مفهوم النجاح والفشل  "التنمية المستدامة"

يعتبر الكاتبان أن مفهوم النجاح هو القدرة على تحقيق "التنمية المستدامة". ويقصد بالتنمية المستدامة تحقيق التنمية المادية والبشرية وضمان بقائها إلى أجل غير مسمى. 


تتمثل التنمية المادية في إنجاز بنية تحتية متكاملة وشبكة خدمات شاملة وقدرة على توفير المستلزمات البشرية الأساسية إضافة إلى إبقاء الاقتصاد في حالة نمو من خلال خدمة هذه البنية وشبكة الصناعة والزراعة والنشاطات البشرية الأخرى. 


وتتمثل التنمية البشرية في برنامج تعليم وتدريب يوفّر الكوادر الكافية لتحقيق التنمية المادية وتشغيل البنية التحتية والخدمات وصيانتها، وبما يضمن النمو الصناعي والزراعي والنشاطات البشرية الأخرى، ومن ثم مواصلة النمو الاقتصادي. 


أما الاستدامة فتَعني أن المنهجية التي تدار بها الدولة والثقافة التي تهيمن على ممارسات المجتمع تضمن استمرار هذه التنمية البشرية والمادية بل توفر الوسيلة للنمو الاقتصادي والرفاهية للمواطنين.


نتيجة التنمية المستدامة 

لن تكون التنمية المستدامة حقيقية مهما كانت في مظهرها العام وأرقامها جميلة ما لم تحقق النتائج التالية: 


١) أن يعيش سكان هذا البلد اكتفاء ماديا يضمن المستلزمات الأساسية من مسكن وملبس ومأكل ومشرب ومركب، كما يضمن الحد الأدنى من الترفيه والاسترخاء.


٢) أن تتوفر الخدمات الأساسية، وخاصة النقل والاتصالات والتعليم والصحة وشبكات المياه والكهرباء،  ويكون الحصول عليها أمرا في المتناول ومكفولاً لجميع شرائح السكان.


٣) أن يشعر سكان هذا البلد أفرادا كانوا أو تجمعات أو مؤسسات بالحماية (الأمنية) من كل أنواع الجريمة، سواء من المجرمين أو السلطة نفسها أو من المتنفذين فيها


٤) أن يشعر سكان البلد بأن حقوقهم الأساسية في الحركة والتعبير والتجمع والعمل والتجارة مكفولة 


٥) أن يشعر سكان البلد ومؤسساته وشركاته ومنظمات المجتمع المدني أن لا إعتقال ولا استجواب ولا عرض على محكمة ولا حكم قضائي إلا طبقا لقوانين وإجراءات قانونية واضحة تطبق بعدل على الجميع


٦) أن يشعر سكان البلد بالأمن القومي وهو قدرة البلد على حماية حدوده وحماية مقدراته وحماية ثقافته وحماية خصوصيات السكان والسلم الاجتماعي.


٧) أن يطمئن سكان البلد أن كل ما ذكر أعلاه مضمون إلى أجل غير مسمى ولا يتطرق لهم الشك أن أياً مما ذكر عرضة للانهيار أو التآكل.


هل السبب في النجاح والفشل عوامل قدرية؟ 

هل نجاح الدول وفشلها مرتبط بالمقدرات الطبيعية كالنفط والمعادن، أو بالموقع الجغرافي من تَضاريس ومناخ معين، أو بالقدرات البشرية مثل القوة البدنية والذهنية المرتبطة بالعِرق والجينات، أو بالتَراكمات التاريخية والحضارية؟ 


الحقيقية أن النجاح والفشل ليس مرتبطاً بأي من هذه المعطيات، مع أنها قد تكون عاملا في تسهيل هذا النجاح أو فشله.


كوريا الشمالية والجنوبية كلاهما في نفس الموقع الجغرافي وفيها نفس العرق البشري وفيها نفس المقدرات وقد ورثت نفس التاريخ والحضارة،  ومع ذلك بينهما ما بين المشرق والمغرب في التنمية المستدامة وراحة الشعب وطمأنينته. 


نموذج آخر هو مدينة نوغاليس المقسومة لنِصفين، النصف الشمالي في ولاية تكساس في الولايات المتحدة والنصف الجنوبي في المكسيك. سكان هذه المدينة بنصفيها ينتمون لنفس الأعراق ويخضعون لنفس المناخ ولديهم نفس المقدرات ولكن الفارق بينهما هائل جدا في التنمية المستدامة وراحة الشعب وطمأنينته، حيث يعيش النصف الأمريكي مستوى حياة الأمريكان والنصف المسكيكي مستوى حياة المكسيك المتخلف كثيرا عن النصف الأمريكي. 


أما المقدرات فإن الأمثلة على أنها ليست عاملا أساسيا في النجاح كثيرة، فوفرة النفط لم تنفع فنزويلا التي تعتبر من أفشل الدول في التنمية، ووفرة الألماس واليورانيوم والنحاس والمعادن النادرة لم تنفع دول أفريقيا الفقيرة والفاشلة. وفي المقابل فإن سنغافورة وتايوان واليابان من أنجح الدول في التنمية رغم افتقارها إلى المقدرات والمعادن ومصادر الطاقة. وقد تفوقت دول أوروبا في التنمية المستدامة رغم قلة المقدرات فيها بما في ذلك النرويج التي تمكنت من النجاح قبل اكتشاف النفط. 


أين الجواب إذن؟

بعد استعراض التجارب التاريخية توصل الكاتبان إلى أن مجموعة عوامل تجمع بين نماذج النجاح وغيابها أو غِياب بعضها يؤدي لفشل الدول. 


المؤسسات السياسية الكفؤة المستقرة و المستوعبة

لا يمكن أن تتحقق التنمية المستدامة إلا بنظام سياسي قائم على مؤسسات كفؤة ومستقرة ولها مصداقية ثقيلة واحترام ومرجعية في ضمير السكان. ولا يُنجَز ذلك إلا بتحقيق ما يسمى الفصل بين السلطات الثلاث المعروفة (التنفيذية والتشريعية والقضائية) وقدرة كل مؤسسة على أداء الدور المنوط بها وإقناع الشعب أنها قد أدت هذه الدور بكفاءة. ولا بد لهذه المؤسسات أن تستوعب كل الشؤون التي تعتبر من شأن الدولة والسلطة وقادرة على التعامل والتفاعل معها.


المؤسسات الاقتصادية الكفؤة المستقرة و المستوعبة

النجاح التنموي لا يتم إلا بشبكة من المؤسسات الاقتصادية المتكاملة التي تتمّم وتَخدم بعضها. وتشتمل هذه على البنوك وما يشبهها من المؤسسات المالية والاستثمارية، ولا بد لهذه المؤسسات أن تستوعب كل أوجه النشاط الاقتصادي في البلد وأن يشعر السكان بأن التعامل معها مبني على الثقة وأنها مضمونة ومحميّة من قبل الدولة. هذه المؤسسات المالية تكون في خدمة الشركات التي يجب أن تغطي كل أنواع الخدمات والصناعة والزراعة والتموين والترفيه وغيرها. ولا تكتمل الصورة إلا بوجود مؤسسات استشارية ومحاسبية تضبط التعامل بين كل هذه النشاطات الاقتصادية.


قدسية الملكية الفردية 

لا يكفي من أجل نجاح الأمم أن تكون الملكية الفردية محمية بالقانون والسلطة بل يجب أن تسود ثقافة الملكية الفردية إلى ما يقترب لمستوى تقديس هذه الملكية.  وإذا لم يطمئن سكان بلد ما أن حمايتها من المسلمات المتفق عليها فلن يكتب لهذه الأمة نجاح. 


حرية التجارة والوظيفة 

"دعه يعمل دعه يمر" عبارة صاغها رينيه ديفوار وزير المالية الفرنسي قبل ٢٠٠ عام وكانت مبنية على فلسفة آدم سميث وتعني حرية العمل وحرية التجارة والحركية. ومنذ أن تغلغلت القناعة بهذه القاعدة تصاعد النجاح في عدد كبير من الدول التي تبنتها وتحولت بعد ذلك إلى ما يشبه العقيدة. وكلما تعرض نشاط العمل والتجارة والحركة لشيء من القيود كلما اقترب البلد للفشل أو تناقص نجاحه حتى يصل إلى الفشل الكامل في النموذج الشيوعي البائس. 


تساوي الفرص في العمل والتجارة 

أي نجاح للأمة بحاجة لإبداع، ولا يتحقق الإبداع إذا لم يكن لكل فرد نفس فرصة المساهمة في أي نشاط يخدم البلد مع أي فرد آخر سواء في العمل البدني أو الفني أو التجارة أو الفكر أو الأدب أو غيره. ذلك لأن الإبداع لا يعرف دون إن يكتشف المبدع ويستثمر، والمبدعون قدراتهم كامنة لا تظهر إلا إذا توفر لهم المجال والميدان. بل إن تساوي الفرص يخلق الحيل التي تكتشف المبدعين، ونماذج ذلك كثيرة في الدول التي تفوقت في نجاحاتها.  


استقرار القوانين وإجراءات التقاضي

 لا يمكن المراهنة على استثمار نوعي في كل ما يساهم في نجاح الدول إلا بطمأنينة السكان أن حقوقهم مضمونة بالقضاء. وضمان الحقوق بالقضاء لا يحصل إلا بقناعة السكان أن القانون مستقر وليس عرضة للتلاعب والتغيير من سلطة أو متنفذين. والقانون مهما كان مستقرا لا ينفع إلا بجهاز قضائي بمصداقية عالية وإجراءات تقاضي مستقرة لا تتغير إلا للحاجة وفيما لا يؤثر على حقوق الناس. 


ما هي الظروف التي تحقق كل تلك المتطلبات؟

هذه المتطلبات لا يمكن تحقيقها جميعا وبطريقةٍ مستقرة وضامِنة للمستقبل إلا بمجموعة من الشروط تعتبر الشرط الأخير في استدامة مثل هذه المتطلبات. 


حرية التعبير في كل وسائل الإعلام والمنصات المختلفة أو وسائل التواصل ضرورية لتقويم المعوج وتصحيح الخطأ والتنبيه إلى ما فات على السلطات المعنية، وضروري كذلك لحِوارات كثيرة تساهم في هذه الاستدامة. وغياب حرية التعبير يفتح المجال للمؤسسات السياسية للجمود أو على الأقل بالاسترخاء في الفساد وسوء استغلال النفوذ بما يؤدي للفَشل المحتوم.


حرية التجمعات وحرية إنشاء المؤسسات المدنية من أجل أن تساهم في تقوية الصوت الشعبي في الاحتساب على أي سلطة رسمية أو تعويض ضعفها. وغياب هذه المؤسسات يفتح المجال للظُلم وأكل الحقوق وتوقف الإبداع وتشجيع الجمود والتخلف.


مشاركة الشعب في القرار السياسي سواء في انتخاب الحاكم أو في اختيار ممثليه في المؤسسات السياسية ضرورة أخرى تمنع تغول السلطة وتحول دون حصانة المتنفذين من العقوبة، ومن ثم تقفل الباب أمام التراجع في التنمية بسبب تفرد أصحاب النفوذ بالقرار وتفضيل مصلحتهم على مصلحة البلد. ويتبع المشاركة السياسية حق المحاسبة، وهذه لا تعني فقط ملاحقة المخطيء بل تعني المراجعة والتقويم. 


وما ذكر عن استقرار القانون والثقة بالقضاء لا يمكن أن يتحقق إلا بقناعة راسخة باستقلال ونزاهة القضاء وثقة عميقة أن هذا الاستقلال باقٍ إلى أجل غير مسمى.  


هل يمكن أن يحقق "المستبد الأمين" هذا النجاح؟

يمكن أن يحقق المستبد المخلص للوطن نجاحا في تنمية مؤقتة وليست مستدامة، ولن تتحقق نتائج هذه التنمية المستدامة لأن كل الإنجاز مرتبط فيه وليس بمؤسسات مستقرة ونظام قضائي راسخ. 


هل يمكن أن يحقق استبداد الأقلية الثائرة المخلصة نجاحا 

كثير من الشعوب يقود الثورات فيها ضد الاستبداد أو الاحتلال أقلية مخلصة، ثم تجتهد بصدق وإخلاص في تنمية البلد، لكنها لن تضمن تنمية مستدامة إلا بتحويل سلطتها من الأقلية إلى مشاركة شعبية كاملة وحرية تعبير وحرية تجمعات ومؤسسات. 



bottom of page