١٠ ربيع الآخر ١٤٤٦ هـ
كيف نتّخذ موقفاً عند النوازل الكبرى؟
مواجهة إسرائيل وحزب الله نموذجاً
بقلم الدكتور سعد الفقيه
المواقف مضلّلة للجمهور
ما يجري بين حزب الله وإسرائيل بعث نقاشاً حاداً تجاوزت الآراء فيه حدود التنوع الاجتهادي إلى خلاف التضاد المؤدّي للتّخوين والتّجريم. وتبين من خلال متابعة هذا الجدل أن المشكلة الحقيقية ليست في حسم الموقف تجاه الأحداث بل في آلية التناول والتركيبة الخاطئة للوضع السياسي والاجتماعي والتربوي الذي تعيشه الأمة في هذه المرحلة.
هذا الخلاف "التضادّي" ليس جديداً على الأمة، بل سبق أن بُعث بعد غزو العراق للكويت وأحداث سبتمبر واحتلال العراق والربيع العربي، فضلاً عن الموقف من التيارات الجهادية وممارساتها. وفي كل مرة يحصل فيها هذا الخلاف تتصادم الآراء صداماً عنيفاً ويستغرب الناس لماذا يحصل هذا التصادم ولا يحسم الأمر رغم الاتفاق على المرجعية الشرعية.
والمتأمل في واقع العرب والمسلمين يدرك بسهولة أن هذا التصادم في المواقف وتكرار الفوضى الفكرية والتربوية له تفسير، وأن التصادم حتمي بل هو الأكثر احتمالاً من الاتفاق أو الخلاف الاجتهادي المحتمل، والمنهجية الصحيحة تستدعي تشرّب هذه الحقيقة واستحضار الأسباب التي أدت إليها .
الأنظمة الحاكمة
معظم الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي عميلة لأعداء الإسلام تنفّذ برامجها الأمنية والإعلامية وسياستها العامة بما يخدم أعداء الإسلام. هذه العمالة تجرّدها تلقائياً من حق المرجعية في صناعة موقف يعكس المنهجية الدينية السليمة والمقاصد الشرعية المنضبطة بل يحولها إلى أداة لتضليل الأمة بمواقف تخدم أعداء الدين.
هذه الأنظمة إضافة لعمالتها فإنها تمارس الطغيان السياسي والقمع الأمني وتمنع الرأي الآخر، مما يعني أنها لا تكتفي باتخاذ المواقف المنطلقة من خيانة وعمالة بل تمنع أي رأي يخالف هذه العمالة. ومع تقادم الزمن بالمواقف الخيانية وحرمان الأمة من الصوت الآخر يسود الخطاب الخياني وينحسر الخطاب الحرّ المنطلق من تجرد ومسؤولية.
الإعلام المضلل
رغم كثرة وسائل الإعلام في العالم العربي والإسلامي فلا تكاد تجد بينها وسيلة إعلام مستقلة عن نفوذ السلطات المعادية للدين. وإن وجدت لا تجد الكوادر الكافية التي تستطيع أن تؤدي الرسالة بمسؤولية، وحتى لو وجدت الوسائل والكوادر فهي في مواجهة منظومة هائلة من الإعلام المضلل المتفوق في حجمه وفي كوادره وفي قدراته الفنية والإعلامية.
هذه الوسائل تتفاوت في تضليل الشعوب، فبعضها خادم صريح للصهيونية والإلحاد والتخريب الفكري والخلقي وتشويه الدين، وبعضها يمارس ذلك بطرق ملتوية. ومعظم هذه الوسائل مملوكة للحكومات إمّا بشكل مباشر أو غير مباشر، وينفق عليها مبالغ طائلة حتى ينجذب لها المشاهدون والمتابعون، وقد حصل.
أين النخب المخلصة؟
كيف للنخب التي لديها الكفاءة المرجعية المنضبطة أن تؤدي رسالتها في دول تحكمها هذه الأنظمة؟ لا يمكن لمن يلتزمون الأمانة والمسؤولية من علماء الدين أو المثقفين أو الشخصيات الحكيمة أو القيادات الاجتماعية العاقلة أن تؤدّي الدور المنوط بها في ظل هذه الأنظمة الخائنة العميلة.
هذه النخب إمّا مغيبة في السجون أو محاصرة فكريّاً وممنوعة من المساهمة في تغيير الرأي العام أو محرومة من المنصات التي توصل كلمتها للجمهور. والواقع لا يسمح بظهور نخب جديدة، لأن الجو العام يُجهض إنشاء أي عالم أو مثقف مؤثر، ولو نشأ أحد النوابغ رغم الجو القمعي يجد نفسه مبرمجاً رغم أنفه لخدمة السلطة.
الحاشية الخائنة
في مقابل النخب المسؤولة المخلصة تملأ الأفق طوابير المنافقين من خدم الأنظمة العميلة الذين يروّجون فقط لما تريده هذه الأنظمة ويوفرون لها الكوادر التي تغطي حاجة كل المنصّات المؤثرة في الجمهور. وقد تكاثر علماء الدّين الخونة والمثقفون المنافقون والأعيان الفسقة والقيادات الاجتماعية الخبيثة وصار المجتمع تحت رحمة تضليلهم وتخريبهم الفكري والعقدي والسلوكي وتَعبيد الشعوب للسلطات.
الجماعات الإسلامية العاجزة
بذلت التيارات الإسلامية المختلفة جهداً لتعويض الشعوب عن غياب الأنظمة التي تحكم بالإسلام، وسعت إلى نشر التربية الإسلامية وبناء الهوية والانتماء وإصلاح السلوك والشعور بالمسؤولية. لكن هذه الجماعات بقيت تعمل في الهامش الذي سمحت لها به الأنظمة وظلّت تناور فيه وهو يضيّق عليها شيئاً فشيئاً حتى أُغلق في بلدان وكاد أن يُغلق في بلدان أخرى.
وبسبب الالتزام بهذا الهامش لم تمتلك هذه الجماعات نفوذاً في وسائل الإعلام الرسمية وحُرمت من وسائل الإعلام المستقلة، ولم يكن لها سلطة تذكر في المنصات المؤثرة في المجتمع. وفضلاً عن ذلك فقد حرصت على مجاملة الأنظمة القائمة من أجل أن تتفادى الاستئصال ، سواء الدولة التي فيها نشاط الجماعة الأصلي أو أي دولة أخرى هاجروا إليها. هذه المجاملة أدت في كثير من الأحيان لغياب التجرّد ومن ثم مزيد من الفوضى الفكرية وتضليل الجمهور.
العلماء المستقلّون ليسوا مستقلين
رغم ما ذكر عن القمع والتقييد وإغلاق الهوامش لا يزال بعض العلماء والمثقفين المستقلين قادرين على الهجرة إلى أماكن آمنة نسبياً وفيها فضاء أوسع لإيصال كلمة الحق. لكن مع التغول العالمي ضد الإسلام والمسلمين وتعاون الأنظمة ضد من يقول كلمة الحق لا يوجد فضاء حقيقي يمكن فيه قول كلمة الحق كاملة دون لبس.
إضافة لذلك فإن كثيراً من العلماء والمثقفين المستقلين عن الحكومات ليسوا مستقلين عن تياراتهم وجماعاتهم ولا يفضلون الخروج عن إطار هذه الجماعات ولا إحراجها بمواقف أقرب للحق تعتبرها هذه الجماعات محرجة ومتطرفة. آخرون لا يريدون أن يخسروا علاقاتهم مع بقية العلماء أو أن يُحرجوا الحكومات التي احتضنتهم مع الأنظمة القمعية الأخرى، فإمّا يتخلون عن المسؤولية أو يتخذون مواقف فيها لبس واضح.
التآمر العالمي ضد الإسلام
يشعر العالم عامة والغَرب خاصة بخطر الإسلام، ومن ثم يخطط ويكيد ويضع القوانين المحلية والعالمية وينظّم المؤتمرات لمحاربة الإسلام بدعوى الإرهاب، مما يضاعف التضييق على قول كلمة الحق المتجردة. والأخطر من ذلك أن دول العالم تتعاون وتنسّق فيما بينها إذا كان العدوّ المشترك هو الإسلام، حتى لو كان بَينها من العداوة ما بينها.
وقد أدى هذا التآمر العالمي إلى ضررٍ على مستويين، عالمي ومحلي. أمّا المستوى المحلي فقد غُيرت القوانين في كل الدول الغربية حتى لا يستطيع الإسلاميون الذين يعيشون فيها من استخدام حرية التعبير لإعلان مواقفهم بتجرد وأمانة. وأمّا المستوى العالمي فقد أحدث هذا التعاون والتنسيق إرهاباً أجبر كل الأنظمة التي فيها بقية خير على تضييق هوامشها وبذل المزيد من التضييق مثلما تفعل الأنظمة القمعية.
ضخامة النوازل وصعوبة تكييفها
النوازل التي حلت بالأمة هائلة، وفيها تعقيدات وتداخلات تحتاج إلى جهد ضخم من أجل تكييفها الشرعي والمنطقي قبل الحكم عليها. وإذا كان واقع التيارات الإسلامية والعلماء والمثقفين بهذا التشرذم والتضييق وصعوبة التجرد فكيف لهم أن ينجحوا في تكييف صحيح لهذه الأحداث سواء بفهم الواقع أو بتنزيله على القواعد الشرعية.
وإذا كان الموقف من حزب الله في مواجهته مع إسرائيل يمثل نموذجاً من نماذج التكييف الصعب فقد كانت أزمة الكويت سنة ١٩٩٠ لا تقل في تعقيدها وتداخلاتها سواء في تكييف دخول العراق للكويت أو في قضية الاستعانة بالقوات الأمريكية من قبل السعودية ودول الخليج. والذين عايشوا تلك الحقبة يتذكّرون الفوضى في المواقف التي تفاوتت بين بيانات خيانيّة للعلماءِ الرسميين مكفّرة للنظام العراقي وداعمة للاستِعانة بالأمريكان ضدّه، وبيانات مؤيدة بدون تردد للغزو العراقي.
وقد أدت الفوضى أيام أزمة الكويت إلى عداوات وبغضاء ونزاعات كبيرة بين الإسلاميين اشتملت على تخوين وتجريم واتهام في النيات لم يتم تجاوزها إلا بعد سنين طويلة. فإذا كانت هذه الفوضى حدثت رغم أن الهامش وقتها كان أوسع بكثير مما عليه الآن، فما بالك بالأوضاع الحالية؟
ما هو الحل إذن؟
هذه المعطيات تعني حتمية الفوضى في المواقف وصعوبة اتخاذ مواقف مبنية على تكييف صحيح وتنزيل سليم، ولهذا فإن السعي لإزالة هذه الفوضى طرح غير واقعي ولا بد من التفكير بوسيلة أخرى للتعامل مع هذه التحديات الضخمة. والجماعات والتيارات التي يفترض أنّها مؤهلة أكثر من غيرها عاجزة أو ربما مشاركة في بعث هذه الفوضى، فكيف إذن يمكن التعامل مع هذا التحدي الكبير الذي لا بد من تحصين المجتمعات ضده؟
أولا: استحضار المعطيات السابقة
لا بد للموجهين والنشطاء والدعاة من تعريف الشعوب بهذه المعطيات، وخاصة حقيقة الأنظمة الخائنة ووسائل إعلامها الرسمية وعلمائها الخونة وضيق الهامش الذي يتحرك فيه الشرفاء. وكلما استحضر الناس هذه الحقائق كلما كانوا أكثر تهيُّئاً للميل للموقف الأقرب للحق.
ثانيا: إدراك أن الموقف نظريٌّ فقط
من الحقائق المحزنة غياب الحكم الإسلامي وحرمان التيارات الإسلامية والنشطاء والمصلحين من أي شكل من أشكال النفوذ، ومن ثم غياب الفرصة لقول كلمة الحق بشكل طبيعي. وغياب النفوذ يعني أن المواقف لا يمكن تحويلها إلى إجراءات عملية، مما يعني أن أي موقف يُعلن أو يُتخذ إنما هو موقف نظري قلبي شاعري وليس قراراً يبنى عليه تصرفٌ عسكري أو أمني أو شعبي. وإلى أن يقترب المسلمون من إنشاء حكمٍ إسلاميّ أو الحصول على نفوذ حقيقي فعليهم الاعتراف أن المواقف تجاه هذه النوازل تبقى نظرية قلبية شاعرية.
ثالثا: لا موقف دون فهم التفاصيل الكاملة
يستعجل بعض الإسلاميين في اتخاذ مواقف وينشرونها بأسلوب أستاذي رغم جهلهم بكثير من التفاصيل المرتبطة بالنازلة. ولا يقصد بالتفاصيل الأحداث المباشرة، فهذه يسهل معرفتها، وإنما يقصد جذور المشكلة وتاريخها ومنطلقات الأطراف وعقائدهم وطريقة مشاركتهم. والجرأة في نشر المواقف دون إحاطة بالتفاصيل تدل على غرور فكري وتهور ثقافي وتصدّي غير المؤهلين، وعلى طالب الحقّ أن يميّز من يتحدث عن معرفة عميقة بالواقع والتِزام بالثوابت ومن يتحدث عن سطحية وعَجَلة وتساهلٌ في الثوابت.
رابعا: المواقف ليست فتوى ولا يحتكرها علماء الدين
يدعو البعض إلى الرد إلى العلماء في هذه النوازل، وهي دعوة سليمة لو كانت الأمة بخير والدّين هو الغالب وكلمة المسلمين واحدة والعلماء المتبُوعون على مستوى العلماء العظماء في التاريخ الإسلامي. لكن مع المعطيات المذكورة وانزلاق كثير من علماء السلطة في الخيانة ومجاملة غيرهم للوضع العام أو لِجماعاتهم لم يعد الموقف حكراً على العلماء في هذه النوازل. ومتى ما تصدّى للنازلة من أثبت في كلامه أنه عارف بالواقع قادر على التنزيل السليم على أصول الشرع متجرّداً في رأيه متحرّياً الصواب فهو الأقرب للحق، سواء كان مصنّفاً عالماً أو مثقفاً أو ناشطاً أو غير ذلك.
خامسا: تحمّل الخلاف ما لم يخرج بالكامل عن إطار الشرع
التفاصيل المعقدة في هذه النوازل والمعايشة الشخصية للذين يتخذون المواقف تجعل الباب واسعاً للاجتهاد بمفهومه الشرعي الذي يشتمل على هامش واسع من المرونة، خاصة وأن المواقف كما ذُكر نظريّة ولا يبني عليها تصرف عمليّ. لكن مرونة الاجتهاد لاتعني التفريط بالثوابت ولا تبديل الفتاوى ومجاملة للحكام أو مراعاة الظروف الشخصية. وهذه الموازنة بين تحمل الخلاف الاجتهادي من جهة ورفض المواقف المناقضة للشرع من جهة أخرى لا بد أن يتربى عليها كل مسلم حتى لو كانت صعبة، لأن فيها السلامة تجاه هذه النوازل والثبات أمام كل خلاف يحدث فتنة كبيرة.