٣٠ شوال ١٤٤٤ هـ
لماذا تكرر الحديث عن بني إسرائيل في القرآن؟
بقلم الدكتور سعد الفقيه
ليس للتحذير منهم
يتردد بين بعض المسلمين أن كثرة الحديث عن بني إسرائيل في القرآن إنما هو للتحذير منهم والتنبيه من كيدهم، وهذا غير صحيح لعدة أسباب:
الأول: أن التحذير لا يحتاج إلى هذا التكرار، وليس من المتصور أن ترِد مئات الآيات عن هذا الموضوع لمجرد التحذير.
ثانيا: أن بعض الحالات التي ورد فيها الحديث عنهم كانت في سياق الثناء، فكيف يكون تحذيرا وهو ثناء؟
ثالثا: أن السياقات التي وردت مختلفة في كل مرة، حتى لو بدا فيها تشابه لفظي، وفي كل سياق عبرة خاصة ودرس متميز.
تحدث القرآن عن بني إسرائيل منذ نشأتهم كأبناء لنبي الله يعقوب، ثم تمكين يوسف في مصر، ثم تعرضهم للذل والعبودية لعدة أجيال، ثم بعث موسى ومواجهته لفرعون، ثم خروج بني إسرائيل معه، ثم رفضهم القتال، ثم بقائهم في التيه، ثم بعد عدة أجيال يطالبون بالقتال ويقودهم طالوت ويبعث الله داود، ثم مملكة سليمان العظيمة، ثم يتعرضون للشتات ثم سيكون لهم شأن آخر مستقبلا.
تحدث القرآن عنهم وكأنه يعرض مسرحا تاريخيا ضخما لأمة محدّدة مرت بهذه الأطوار على مدى عقود وقرون و أحقاب، وفي كل مرحلة وحالة دروس وعبر، فلا بد أن تكون ضخامة السبب موازية لضخامة هذا العرض، فما هو السبب المرجح؟
إنها السنن الكونية
وحتى توضع قصة بني إسرائيل الكاملة في السياق لا بد من استحضار تأكيد القرآن على سنن الله في المجتمعات والأمم. لقد ساق القرآن بالتفصيل في آيات كثيرة أسباب القوة والضعف للأمم، وأسباب النصر والهزيمة، وأسباب الرغد وشظف العيش، وأسباب الاجتماع والشتات، وأسباب العذاب والسلامة، وغيرها من السنن. كان السياق القرآني في طرح هذه السنن إما مجردا أو مرتبطا بأحداث متفرقة لأمم مختلفة. وهنا يأتي دور بني إسرائيل كأمة مرّت بمعظم هذه الأطوار، وتجلّت فيها السّنن، في حالة تاريخية لأمّة واحدة، تمر بكل هذه الأطوار.
هذا الدور لا يقف عند الأمة بمجموعها، بل يتجلى كذلك من خلال شخصيات محورية في تاريخ بني إسرائيل كنماذج بشرية مرتبطة بهذه السنن، مثل يعقوب ويوسف وإخوته، والعزيز وزوجته والملك ورؤياه، وموسى وهارون وفرعون وطالوت وجالوت وداود وسليمان، ثم بعد ذلك زكريا ويحيى وعيسى أمه مريم. في كل شخصية من شخصيات هؤلاء وحياتهم دروس تكمّل النموذج السُّنَني الذي ظهر في بني إسرائيل كأمّة واحدة بمسيرة متصلة.
كرامة لأمة محمد
حين يرد الحديث عن بني إسرائيل في القرآن فإنما هو تَفضّل خاص على أمّة محمد عليه الصلاة والسلام. لقد كان بنو إسرائيل بهذا المعنى وسيلة إيضاح أو نموذج سابق لدورة بشرية كاملة على مدى آلاف السنين. وأراد الله سبحانه أن يقدم لنا بنَموذجهم هذا مشهدًا بشريًا في بُعدَيه -الفردي والجماعي-، حتى نستحضر (الفيلم البشري) الذي لم يكن خيالًا ولا تأليفًا؛ بل حقيقة بشرية وقعت بكامل تفصيلها بين يدي أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
النموذج الأول
من النماذج العظيمة للسنن التي وردت في القرآن: الإشارة إلى أن القائد العظيم لا يمكن أن يخرج من بيئة ذل وهوان وعبودية. ولذلك حين أراد الله بعث موسى كقائد لبني إسرائيل يخرجهم من ظلم فرعون هيأ له الظروف أن ينشأ عزيزا مَهيبا مُشبَعًا بالثقة بالنفس، مُفعَما بقوة الإرادة، متشرّبا القيادة بكل معانيها، وذلك دون أن يسلخه من انتمائه لبني إسرائيل ومسؤوليته تجاههم.
لم تكن قصة إلقاء موسى في تابوت في الماء ثم استقراره على ساحل بيت فرعون مجرد إثارة ومغامرة لترقب الخطوة التالية، بل كانت إرادة ربانية لتحقيق قوله تعالى: "ولتُصنع على عيني". والهدف هو ألا ينشأ موسى في قومه مثل أي طفل من بني إسرائيل لا يرى إلا العبودية، بل ينشأ في أقصى فرص العز والشرف والسلطان، وهو بيت فرعون.
وهذا هو سر الإيحاء لوالدته أن تضعه في التابوت حتى يستقر به المقام على ساحل بيت فرعون، ثم تسخير قلب زوجة فرعون له من أن أجل أن تتبناه فينشأ في بيئة الأمر والنهي والسلطان. ولكن حتى لا ينسلخ عن بني إسرائيل ويبقى انتماؤه لهم كتب الله ألا يقبل الرضاعة من أي مرضعة، ثم تتحايل أخته فتدلّهم على والدته فيعود إليها ويرتبط بقومه دون أن يفقد بيئة العز والسلطان. وهذا الشعور بالأنفة والعزة والثقة بالنفس هو الذي حدَا به أن يرفض الإهانة التي وقعت على الإسرائيلي من قِبل القبطي ويضربه ضربة قضت عليه.
كان الله سبحانه قادراً أن يصنع منه قائدا بمعجزة حتى لو نشأ في قومه، لكن الله كتب أن سُننه لا تتبدل ولا تتغير بالمعجزات. ولعل إخبار الله لنا عن نشأة موسى بهذه الطريقة درسٌ لنا حتى لا نتوقع استثناءات في السنن وألا نتعامل مع البشر والأحداث والكون إلا من خلال السنن فقط. وهذا هو حال كل الأنبياء فحَياتهم محكومة بالسنن، وفي مقدمتهم محمد عليه الصلاة والسلام الذي صبر وحوصِر وهاجر وقاتل وابتُلي ولم يُكتَب له فتح مكة إلا بعد عشرين سنة من بعثته.
وحتى يبيّن لنا القرآن الفرق بين مَن نشأ في بيئة العز والسلطان ومن نشأ في بيئة الذل والعبودية ساق لنا نموذج أخيه هارون عليه السلام الذي عجز عن ضبط بني إسرائيل بعد أن أخلفه موسى في قومه يقودهم نيابة عنه فعبدوا العجل ولم يكن قد مر على غياب موسى إلا أيام قليلة. السبب والله أعلم أن هارون وُلد ونشأ بين بني إسرائيل ولم تتوفر له فرص العز والسلطان التي توفرت لأخيه موسى.
النموذج الثاني
النموذج الثاني في السنن التي نتعلمها في قصص بني إسرائيل نجده في شخصية موسى العاطفية. يؤكد القرآن في قصة موسى أن التفوق القيادي والاصطفاء الإلهي لأعلى درجات النبوة والرسالة "أولى العزم" لا يتعارض مع الطبيعة البشرية في المشاعر والعواطف. وتكرّر هذا عند الأنبياء في القرآن، فقد خاطب نوح ربه في شأن ابنه، وجادل إبراهيم الملائكة في شأن قوم لوط، ورقّ قلبُ محمد عليه الصلاة والسلام لزينب حين أرسلت عِقدَها تفدي زوجَها الأسير، وقرر الزواج من جويرية رضي الله عنها حين رآها، وغضب من نية علي بن أبي طالب رضي الله عنه الزواجَ من حفيدة أبي جهل.
رسم لنا القرآن غضبَ موسى في مشهد يكاد يكون مرئيا في حالتين: الأولى: عندما قتل القبطي، والثانية: حين ألقى الألواح وفيها كلام الله وأخذ برأس أخيه ولحيته. وأما الخوف فقد ورد الوصف كذلك في مشهد مرئي حين خرج من المدينة خائفا بعد قتل القبطي فوصفه القرآن بأنه "يترقب" أي: يشعر بالمطاردة. وأما المشهد المليء بالرعب فهو حين خاف مِن عصاه بعد أن تحولت إلى حية حيث "ولى مدبرا ولم يعقب" أي: ركض هاربا منها ولم يلتفت من شدة الخوف.
فلعل هذا التأكيد على قوة المشاعر ورسمها بطريقة مشهدية مؤثرة رسالة ربانية فيها تأكيد أنه إذا كان هؤلاء الذين اصطفاهم الله تؤثر فيهم المشاعر فيجب أن نتهيأ لتدخل المشاعر في تصرفات من هو أدنى منهم ويتحمل بعضُنا بعضًا.
النموذج الثالث
النموذج الثالث للسنن التي نتعلمها من قصة بني إسرائيل في القرآن أن القائد العظيم لا يمكن أن يقود أمته للتفوق والنصر والتمكين بعد أن مرّ عليها أمدٌ طويل في الذلّ والعبودية. كان موسى مالكا لكل صفات القيادة كما وصفه الله "ولتصنع على عيني"، ومع ذلك لم يستجب قومه له بالقتال حين أمرهم، وكان ردهم القبيح "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون".
هذا مع أنهم رأوا بأعينهم المعجزات العظيمة، وعاشوا بأنفسهم لحظة النجاة بفلق البحر وإهلاك فرعون، وتمتعوا بنعم الله عليهم من تفجير الينابيع الاثني عشر و نزول المنّ والسلوى. وهكذا فإن الأمة الفاشلة العاجزة لن يجعل منها القائد العظيم أمة ناجحة مُمكّنة، ولن يكون لشهودهم للمعجزات وتمتُّعهم بالنعم دور في تغيير إرادتِهم وهمّتهم.
النموذج الرابع
وهذا ما يأخذنا إلى النموذج الرابع وهو أن الله حين أراد لهم التمكين فقد كتبه لهم من خلال نفس السنن، وهو أن يعيشوا في التيه أربعين سنة حتى يَنقرض الجيل الذليل وتظهر أجيال لم تعرف إلا الصحراء والحرية وشظف العيش، حتى تزول أدران العبودية ويحل محلها العزة والكرامة والثقة بالنفس والمسؤولية. ومن هنا جاءت منهم المبادرة بطلب القتال في سبيل الله، بعد أن كانوا يُؤمَرون بها قبل التيه فيرفضون. لكن هل شمل ذلك كل الجيل الجديد أم أن هناك من ورث من أسلافه الذل والهوان؟
النموذج الخامس
الإجابة على هذا السؤال تقودنا إلى النموذج الخامس من نماذج السنن التي نتعلمها من قصة بني إسرائيل في القرآن وهي (حتمية الامتحان والتصفية) ثم تحقيق التمكين على يد أقلية صغيرة لم يخطر في البال بعددها المحدود أن تكون السبب في التمكين.
مرّ بنو إسرائيل بعد التيه، أولا: باختبار التكليف الحقيقي بالقتال، فكانت النتيجة تراجُع فئة كبيرة ولم يثبت إلا القليل: "فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليل منهم". والاختبار الثاني: في تحديد شخصية القائد، وهو طالوت والذي رفضه فريق منهم بحجج واهية. والاختبار الثالث: في الشرب من النهر، والذي لم يثبت فيه إلا القليل: "فشربوا منه إلا قليلًا منهم". والاختبار الأخير: المواجهة الحقيقية لجيش جالوت، والتي قال معظمهم فيها: "لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". ولم يواجه طالوت في النهاية إلا "الذين يظنون أنهم ملاقوا الله".
وبعد هذه التصفية وثبات الفئة الصغيرة تحقَّق النصر ثم علا شأن بني إسرائيل أيام داود وسليمان عليهما السلام. وهذا درس لكل من يسعى للتغيير أن يتوقع الامتحان والتصفية، وألا يستغرب أن التمكين يحصل على يد فئة صغيرة يتبعها الباقون. هذه السنة الربانية تكررت مع كل الأمم تقريبا في لحظات تمكينها وتفوقها.
نماذج أخرى
وبعد، فهذه ليست إلا نماذج قليلة من الدروس السُّننيّة التي نتعلمها من قصص بني إسرائيل في القرآن، والمتأمل في قصة يعقوب ويوسف وداود وسليمان ويحيى وعيسى يستطيع أن يستنبط الكثير من السنن.