٢٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
ماذا يجري في سوريا
بقلم الدكتور سعد الفقيه
ما يجري في سوريا حدث كبير سيؤثر على الأغلب على المنطقة كلها، ومن ثم لا بد لكل مسلم وعربي أن يتعرف على الصورة كاملة لأنها ستؤثر عليه بشكل مباشر أو غير مباشر عاجلاً أو آجلاً. وكان الناس قد تخلوا عن متابعة أخبار سوريا بعد الإحباط الذي ساد بسبب تراجع الثورة، ولماذا يتابعون الأخبار وكلها تشير -فيما يظنون- إلى أن النظام يعيد السيطرة على كافة سوريا بكفاءة.
وبسبب هذا العزوف عن المتابعة كان ما حدث في حلب وغيرها مفاجئاً لهم، وبدأت تنتشر نظريات المؤامرة والبحث عن تفسير لهذا الانهيار المفاجئ في جيش النظام والميليشيات. ومن أجل فهم المشهد بالكامل نجيب في هذا المقال على أسئلة مختارة تبين فيما نظن حقيقة ما يجري والله أعلم. والمعلومات المنشورة هنا ليست آراء شخصية بل معلومات بُذِلَ جهد لجمعها على مدى عدة سنوات من الموجودين في الميدان ومن المطّلعين والعارفين بالشأن السوري عموماً والثورة خصوصاً.
هل انحسرت الثورة وانتصر النظام بسبب الدعم الدولي؟
المتداول بين الناس أن دعم روسيا وإيران وحزب الله والقصف الأمريكي هي التي قضت على الثورة وساهمت في استعادة النظام سيطرته على معظم سوريا. ولا شك أن التدخل الخارجي له دور كبير في انحسار الثورة لكن هذا التدخل مهما كان ضخماً لم يكن ليهزم الثورة لو لم تكن فيها مشاكل جوهرية هيأت لنجاح هذا التدخل الخارجي.
من هذه المشاكل، التعدد الهائل في الفصائل، والتشكيك ببعضها البعض، وانتشار الغلو والتكفير والتساهل في سفك الدماء، وغلبة الكرّ والفرّ على التخطيط والاستراتيجية، وتصرفات إعلامية وسياسية تعطي العدوّ ذخيرة في حشد العالم كله ضد الثورة، إضافة إلى كثرة المرتزقة والمنتفعين وضعاف النفوس. وهذه المشاكل ليست مستغربة فلا يفترض في شعب تربى على الاستبداد والقمع على مدى خمسين سنة أن يكون نقياً منظماً واعياً مخلصاً متجرداً وقادراً على التخطيط الاستراتيجي وتحاشي التدخلات والاختراقات.
ولو تحركت الثورة منذ انطلاقها بخطّة واستراتيجية، وتماسُك تنظيمي ووحدة في القيادة، ومنهج شرعي منضبط دون غلو ولا تفريط، وبحذر إعلامي ودهاء سياسي لما استطاع العدو حشد العالم ضدها ولا اختراقها ولا تحريض بعضَها ضد الآخر. وحتى لو تفوق العدو عسكرياً وتقنياً لا يستطيع هزيمة الثورة لو تحققت فيها الشروط المذكورة.
ما الذي جعل جيب إدلب هو القادر على استعادة قوة الثورة؟
حكاية الفصائل تطول لكن الذي ميز المجموعة المتمركزة في إدلب هو نجاحها -فيما يبدو- في تفادي المشاكل المذكورة. سعت هذه المجموعة لما تريد بخطة مدروسة واستراتيجية واضحة، وقيادة واحدة وبرنامج واحد، والاعتماد على الخبراء في تخصصاتهم، والموازنة بين المحافظة على الثوابت والواقعية في التطبيق، وتحييد من لا مصلحة في مواجهته.
وخلال السنوات الماضية نجحت هذه المجموعة في إعداد الكوادر تدريباً وتنظيماً، وفي تطوير التصنيع العسكري وفي فتح قنوات سياسية تساعد في تحقيق الأهداف المرسومة. كما حققت هذه المجموعة ما لم تحققه أي جهة في سوريا بما في ذلك المناطق الخاضعة للنظام وهو توفير الأمن والقضاء المستقل وتوفر الخدمات والأغذية والمواد الاستهلاكية، وإدارة المنطقة كسلطة حقيقية مثل سلطة الدولة، حتى صارت نموذجاً يتمنى بقية أهل سوريا لو يعيشون مثلهم.
التوقيت
العملية الأخيرة التي سميت ردع العدوان لم تكن كرّاً وفرّأً بل قد جرى الاستعداد لها منذ سنوات، وكانت قد وصلت لمرحلة الجاهزية منذ بداية هذا العام لكنها أجلت حتى لا يقال أنها طعنت "المقاومة" في الظهر. ولهذا فإن انطلاق عملية ردع العدوان مباشرة بعد إعلان الاتفاق بين إسرائيل وحزب الله كان من الأدلة على دهاء قيادة هذه المجموعة لعدة أسباب:
السبب الأول هو ما ذكر من سد ذريعة "طعن المقاومة في الظهر" فلم يعد ممكنا اتهام الثورة بذلك.
السبب الثاني أن جزءاً كبيراً من حزب الله عاد إلى لبنان لدعم المواجهة مع إسرائيل فتقلّصت كوادرهم وقدراتهم العسكرية في سوريا.
السبب الثالث أن من بقي منهم ستكون فضيحة له لو شارك في القتال ضد الثوار بعد أن استسلم للإسرائيليين ويخسر حزب الله كل ما يعتقد أنه حققه في مواجهة إسرائيل.
السبب الرابع أن معنويات الحزب والميليشيات التابعة لإيران في حالة إحباط بعد التسليم المذل لإسرائيل.
السبب الخامس وهو احتدام المعارك في أوكرانيا وانشغال الروس هناك فضلاً عن تردد بوتين في دعم الأسد بعد فشله في إدارة البلد.
السبب السادس هو القناعة أن فوز ترمب يعني عدم وجود رغبة في تدخل أمريكا بالمنطقة خاصة أن سياسة هذه المجموعة هي تفادي إعطاء ذريعة لتدخلات غربية.
السبب السابع هو رغبة تركيا في إضعاف النظام من أجل تقوية موقفها في التفاوض معه وإضعاف الأكراد بعد أن تبين استفادة المتمردين الأكراد في تركيا من مناطق قَسَد في سوريا.
هل هناك جهة دولية نسقت مع مجموعة إدلب؟
لم يتعود العرب على انتصارات سريعة وهزيمة لنظام حاكم بهذه السرعة، فكيف بنظام مدعوم من روسيا وإيران وحلفاء إيران، ولذلك تناقلوا تفسيرات مؤامراتيّة تتحدث عن دعم دولي غربي بزعمهم أن هذا نكاية بروسيا وإيران. وما يتناقلونه كله كلام مرسل مبني على تحليل ما يسمى بـ "وكالة يقولون".
والحقيقة أن هذه المزاعم ليس لها أصل بل إن الحكومات الغربية وخاصة أمريكا وبريطانيا تعتبر الجهاد السني أخطر من حزب الله وإيران حتى لو كانت قيادته حذرة في تحاشي استفزاز الغرب بالخطاب الجهادي العالمي. وهذه الحكومات يبدو أنها مثل غيرها مصدومة بسرعة تهاوي النظام والميليشيات ويبدو أن تطور الأوضاع أسرع من قدرتها على تحديد موقف.
أما تركيا فيؤكد المسؤولون في جماعة إدلب أنه لا مفر من التنسيق الجزئي معها وذلك لأن فصائل من الجيش الحر في المناطق التي تسيطر عليها ستشارك ولو جزئياً في هذه الحملة. كما أن التنسيق مع تركيا ينفع في إقناع روسيا أنها تراهن على حصان خاسر إذا استمرت في الدفاع عن الأسد.
هل تستطيع القيادة المحافظة على ما تم السيطرة عليه؟
من العوامل التي تساعد على المحافظة على كل ما تم السيطرة عليها أن التحرك مدروس ومبني على خطط عسكرية استراتيجية بتوجيه من ضباط ذوي خبرة كبيرة، وأن القيادة لا تزال واحدة والبرنامج واحد، وأن النظام والميليشيات في حالة ارتباك مستمرة وليس من المتوقع استعادة تماسكهم.
في المقابل ليس معروفاً مدى حماس الروس للقصف الجوي، فرغم محاولتهم إيقاف هذه الحملة فإن قصفهم ليس بنفس المستوى المتوقع. ورغم أن الحملة أخذت في حسبانها أثر القصف الجوي لكن اشتداد القصف لا شك سيؤثر في سرعة التقدم أو انقطاع خطوط الإمداد أو عزل بعض القطاعات. لكن يبدو أن الانتشار الواسع لكوادر الحملة سيجعل القصف غير قادر على إخراج المناطق التي تم السيطرة عليها من قبضة الثوار.
أين يصل التقدم
إذا استمر التقدم بنفس الوتيرة الحالية فليس من المستبعد أن تكون كل سوريا في قبضة الثوار خلال مدة قصيرة، لكن على الأرجح سوف يواجه الثوار عقبتان في هذه الحملة. العقبة الأولى مناطق النظام والميليشيات في دمشق والساحل حيث استعداد النظام هناك أقوى من المناطق التي انسحب منها، والعقبة الثانية مناطق الأكراد في الشرق التي يدعمها الأمريكان بأسلحة متطورة.
وإذا تمت إدارة المعركة بنفس الانضباط وفهم المعطيات والتحرك العسكري المدروس فعلى الأرجح سوف يتم تجاوز هاتين العقبتين وستكون سوريا كلها في قبضة الثوار وتحت قيادة جماعة إدلب بكفاءة.
ما هي المحاذير التي قد تؤثر التقدم
مهما حاول النظام والميليشيات معه من استجماع قوته ومهما دعمه الروس فلا يخشى على الثوار من ذلك. الذي يخشى منه هو نفس الأسباب التي أدت لتراجع الثورة في الماضي والتي يجب الحذر منها بكل جهد ممكن. قد لا تأخذ هذه المحاذير نفس السياق الذي حصل في الماضي بالضبط لكن ربما تؤثر على التقدم بطرق أخرى منها:
فصائل ما تبقى مما يسمى الجيش الحر قد لا تلتزم التزاماً صارماً بالقيادة الموحدة وهذا يفتح المجال لشيء من الفوضى وقد يسهل اختراقها من جهات كثيرة لإفساد المشروع.
حماس بعض المشاركين في تصوير مشاهد مستفزة للغرب سوف يجعل من السهل إعادة تجييش العالم ضد الثوار واتهامهم بالإرهاب والدموية.
حماس بعض المشاركين في تجاوز الحدود دون إذن من القيادة وهذا يعطي ذريعة للأعداء بأن هذا مشروع أممي متجاوز للحدود مما يجيش العالم ضد الثوار.
إذا تأخرت السيطرة على دمشق فسوف يبذل النظام العالمي كل جهد لإبقاء النظام واستنزاف الثوار، ولذلك فإن التعجيل بالسيطرة على العاصمة هو الرادع الوحيد لهذا التدخل العالمي.
أثر انتصار الثوار في سوريا على العالم العربي
إذا كتب الله للثوار نصراً وتمكيناً في هذه الحملة فلا يستبعد أن يكون سبباً في عودة الربيع العربي أو نسخة مسلحة منه وذلك لسببين. السبب الأول هو العدوى النفسية الطبيعية التي ترفع المعنويات عند الشعوب الأخرى تماما مثلما انتشرت العدوى من تونس إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن في الربيع العربي الأول. والسبب الثاني هو تحول سوريا إلى مناطق آمنة لكل الثوار من العالم العربي يوجهون فيه خطابهم لأهلهم وشعوبهم.
ومثلما تعاونت الأنظمة العربية ضد الربيع العربي فعلى الأرجح سوف تتعاون ضد هذه الحملة لو نجحت في هزيمة النظام السوري. وربما لن تنتظر هذه الأنظمة سقوط النظام السوري بل سوف تتحرك منذ اللحظة التي تعتقد فيها أن هذه الحملة قادرة على إسقاط النظام.
هل يستفيد الفلسطينيون من هذه الحملة؟
أي تمكين للمسلمين الصادقين المخلصين في بلد عربي يعتبر خادماً للقضية الفلسطينية وخطراً على الكيان الصهيوني. وإذا كان هذا التمكين بقوة عسكرية وروح جهادية وتخطيط وتدبير جيد فلا شك أن قدرته على خدمة القضية والخطر على إسرائيل أكبر بكثير.
ولهذا السبب فإنه رغم عداء إسرائيل للنظام السوري وإيران فإنها سوف تعتبر سقوط النظام لصالح الثوار خطراً استراتيجياً عليها ومن ثم تتعاون مع أمريكا لعمل شيء لمنع سقوط النظام السوري أو ضعضعة وضع سلطة الثوار لو أسقطوا النظام.
هل في هذه التوقعات مبالغة
لا أحد يستطيع الجزم بالغيب وهذه التوقعات وغيرها مبنية على تقدير الأوضاع وحساب المعطيات وقد تصْدق أو لا تصدق لكن التفاؤل كبير بالنصر والتمكين. وأهم من التفاؤل بالنصر هو الأمل ببقاء الحكمة وحسن التدبير والانضباط الكامل ووحدة الصف واجتماع الكلمة وتجنب الاختراق والتعامل مع التحديات بجدارة ومسؤولية.