١٨ جمادى الأولى ١٤٤٥ هـ
متى تتخلى أمريكا عن إسرائيل؟
بقلم الدكتور سعد الفقيه
مفارقة: الدعم الأمريكي لإسرائيل بدأ متأخراً
لم تكن أمريكا مهتمة كثيرا بدعم إسرائيل قبل تأسيسها عام ١٩٤٨، وكانت مشغولة بشؤونها الداخلية ومضاعفات الكساد العظيم ثم آثار الحرب العالمية الثانية. وقبل ذلك كان هناك تيار داعم لموقف العرب تمثل في تقرير "كينغ-كراين" الذي أعدّ سنة ١٩١٩ ولم ينشر إلا ١٩٢٢ ، والذي أبدى تحفظا على المشروع الصهيوني والاعتراض على دعم بريطانيا لليهود على حساب العرب. ولكن التيار الآخر الداعم لوعد بلفور كان أقوى في التبني رسميا كما جاء في قرار مجلسي الكونغرس في ١٩٢٢.
ورغم قرار الكونغرس ١٩٢٢ المؤيد لليهود فإن الدعم الأمريكي الحقيقي لإسرائيل لم يبدأ إلا بعد إعلان تأسيس الكيان في ١٩٤٨ وتمثل ذلك في أن أمريكا أول دولة اعترفت بالكيان. وحتى بعد هذا الموقف المؤيد لم تتحمس أمريكا لدعم إسرائيل إلا بعد الستينات. والدليل على ذلك أن موقفها في حرب السويس كان ضد العدوان الثلاثي، ولها الدور الأهم في إيقاف العدوان.
بدأ الدعم الأمريكي الحقيقي يتنامى في الستينات، ثم قفز قفزة كبيرة في حرب حزيران ١٩٦٧وبعدها، ثم منذئذ تحولت إسرائيل إلى الطفل المدلل لأمريكا. وكان للتيار الإنجيلي دور في تصاعد الدعم بعد حرب حزيران لأنهم اعتبروا نجاح إسرائيل في هزيمة الدول العربية مجتمعة واحتلال سيناء والضفة والقطاع والجولان دفعة واحدة في ستة أيام معجزة إلهية أكدت صدق عقيدتهم في إسرائيل.
الدعم الأمريكي الحكومي
تمثل الدعم الأمريكي في كل شيء، ماليا وعسكريا وسياسيا، وكان دعما شاملا على المستوى الشعبي والحكومي، وإعفاءات من كل شيء. بدأ الدعم متواضعا في الخمسينات الميلادية ومنتصف الستينات ثم قفز قفزة كبيرة في النصف الثاني من الستينات الميلادية.
على المستوى المادي حصلت إسرائيل على مئات المليارات من أمريكا بما يزيد عن ٣ مليار سنويا. هذا على مستوى الدعم الحكومي، أما المؤسسات المالية والبنوك والمصانع والشركات فمن الطبيعي أن تعطي إسرائيل أولوية لأن معظم كبار المالكين صهاينة مولعون بدعم إسرائيل.
على المستوى العسكري تعطي أمريكا إسرائيل أولوية كاملة في السلاح المتطور، كمّاً ونوعا. ولا تكاد طائرة أو مدرعة أو صاروخ أو أي نوع آخر من السلاح يدخل في الخدمة إلا وتكون إسرائيل أول من يحصل عليه بكامل تسهيلاتِها وبدون شروط في طريقة الاستخدام والتقنية وإعادة البيع لجهات أخرى. هذا السلاح في معظمه مجاني مما يعني لو حول لثَمنه نقدا لبَلغت قيمته مئات المليارات.
وإضافة إلى تزويد السلاح فقد سمحت أمريكا لإسرائيل الاطلاع على معظم تقنياتها العسكرية من خلال برامج التصنيع والتطوير المشتركة مع وزارة الدفاع ومن خلال تمويل برامج في إسرائيل لتطوير قطع خاصة بالسلاح الأمريكي.
أما المستوى السياسي فالتَأييد الأمريكي لإسرائيل تأييد جنوني لا مداراة فيه لأي قوانين دولية أو ظروف أو إحراجات. وكما هو معلوم فقد تجاوزت حالات الفيتو التي استخدمتها أمريكا في منع قرارات مجلس الأمن المُدينة لإسرائيل ٤٠ فيتو مع أن بعضها قرارات شجب فقط لا ينبني عليها إجراء. هذا فضلا عن اعتراف أمريكا باحتلال القدس والجولان ورفضها معاملة إسرائيل كدولة احتلال للضفّة وغزة. والطريقة التي دافعت فيها أمريكا عن إسرائيل بعد طوفان الأقصى دليل واضح على الدعم غير المحدود ودون اعتبار لأي قوانين دولية أو حقوق إنسان أو قيم إنسانية.
الدعم الأمريكي الشعبي
الدعم الحكومي في أمريكا الهائل لإسرائيل إنما هو مرآة للدعم الشعبي حيث يتفوق تأييد إسرائيل في أمريكا شعبيا على تأييد أي حزب أو رئيس أو أي نشاط آخر. وقد بقي التأييد الشعبي لإسرائيل لعدة عقود أكثر من ٦٥٪ ولم يبدأ يتزعزع إلا بعد أحداث طوفان الأقصى.
ورغم جهل الشعب الأمريكي بالسياسة الخارجية إلا أنه قد فُرض عليه من خلال الدين والإعلام واللوبيات أن يجعل دعم إسرائيل جزءا من ثقافته إلى درجة تشبه الالتزام الذاتي والمسؤولية الشخصية.
أسباب الدعم الأمريكي
أولا: الإنجيليون
الإنجيليون تيار متفرع عن المسيحية البروتستانتية ظهر في منتصف القرن التاسع عشر في أوربا وأمريكا وجعل جزءا من عقيدته تبني عودة اليهود إلى أرض الميعاد توطئة لعودة المسيح. ورغم تعدد طوائفهم فإنهم مجمعون على الموقف تجاه هذه القضية ويعتبرونَه جزءا من المسؤولية الفردية.
وينتمي كثير من المسيحيين الملتزمين في أمريكا لهذا التيار الذي يشكل ٣٠٪ من الشعب الأمريكي. وبسبب هذه النسبة الكبيرة يضطر السياسيون الذين يرشحون أنفسهم للرئاسة والكونغرس أن يُجاملوا هذا التيار في موقفهم تجاه إسرائيل. ومما يقوي شوكتهم أن التزامهم الديني يفرض عليهم التصويت في الانتخابات مما يجعل مساهمتهم في التصويت أعلى من نسبتهم الحقيقية. ورغم التناقص البطيء في التيار الإنجيلي في العقود الأخيرة لصالح الإلحاد والعقائد الأخرى إلا أنه لا يزال له دور كبير في حسابات التصويت في الولايات المتحدة.
ثانيا: اللوبي الصهيوني
بدأ نشاط اللوبي الصهيوني منذ العشرينات الميلادية على شكل مؤسسات حقوقية وقانونية وجمعيات تعاونية في البداية ثم تحول إلى جماعات ضغط رسمية بعد أن صدرت القوانين بمَشروعيتها. ولا يجادل أحد في أن اللوبي الصهيوني من أقوى اللوبيات في أمريكا بل إنه يستخدم اللوبيات الأخرى بدهاء لتحقيق أهدافه.
وتراكمت عند اللوبي الصهيوني الخبرة بحيل التلاعب بآليات الديمقراطية في أمريكا حتى صارت كل المؤسسات السياسية تحت سيطرته بالمعنى الحرفي. فقد سيطر اللوبي على مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس سواء على مستوى الدولة أو مستوى الولايات، كما ضمن معظم المناصب الحساسة في الدولة، وخاصة الخارجية ومجلس الأمن القومي والمخابرات فضلا عن الرئاسة.
ولا يشترط اللوبي الصهيوني تعيين الصهاينة اليهود ما دام المرشح صهيونيا حتى لو كان ملحدا. وتنامي تأثير اللوبي الصهيوني إلى أن وصل حداً جعل تأييد إسرائيل شرطا في أي منصب سياسي أو تشريعي، ولم يتزحزح عن هذا التغول إلا قبل سنين قليلة حين وصل الكونغرس بضع شخصيات ضد سياسة إسرائيل.
ثالثا: الإعلام
الدرجة التي يسيطر فيها الصهاينة على الإعلام تكاد تتفوق على سيطرتهم على السياسة، فلا توجد وسيلة إعلامية إلا ولهم فيها اليد الطولى حتى تمكنوا من احتكار الإعلام كله. وإضافة للصُحف والإذاعات فقد ركز الصهاينة على الفضائيات ثم انتقلوا لاحتكار الإعلام الإلكتروني.
وحينما انتشرت وسائل التواصل تمكنوا من احتكار الفيسبوك لكنهم لم يتمكنوا من مسايرة بقية وسائل التواصل الاجتماعي. وكان خروج وسائل التواصل من أيديهم أول كسر لاحتِكار الصهاينة للإعلام. وقد أدى كسر هذا الاحتكار لاضطِرار وسائل الإعلام التقليدية أن تساير وسائل التواصل مما أجبر الصهاينة على خسارة جزء من الإعلام التقليدي كذلك.
رابعا: القوة المالية
ليس سرا أن الصهاينة يسيطرون على معظم المؤسسات المالية والبنوك ويملكون نصيب الأسد من الأسهم في الشركات الكبرى. وقد جعل الصهاينة قدراتهم المالية هذه تحت تصرف اللوبي الصهيوني مما يعني دعم أي نشاط صهيوني وحصار أي نشاط آخر ماليا.
وقد تراكمت هذه الممارسة حتى لم تعد مثارا للتساؤل أو الشّك ولا ينظر لها كرشوة أو فساد مالي. وكثير من أعضاء الكونغرس والسياسيين يتقاضون مبالغ صريحة من اللوبي الصهيوني والتي وفرتها لهم هذه المؤسسات الضخمة. والعكس صحيح فإن المؤسسات المالية تحارب من يقصر في حق إسرائيل فضلا على أنه يقف ضدها وتحرمه من التعاملات المالية والإعلانات كما فعلت مع إيلون ماسك مؤخرا.
أضف إلى ذلك أن تعامل المؤسسات المالية والبنوك الأمريكية مع المؤسسات المالية الإسرائيلية يتم بتفضيل هائل ودعم المشاريع الاستثمارية في إسرائيل واستثمار رؤوس الأموال الإسرائيلية في أمريكا.
خامسا: المصالح القومية!
يردد كثير من الساسة الأمريكان أن دعم إسرائيل إنما هو قناعة من صانعي القرار الأمريكي أنها تحقق مصالح أمريكية لا يمكن أن تنفذ دون وجوها. وهذا هو سبب تصريح بايدن أنه لو لم توجد إسرائيل لأوجدناها، وتصريح روبرت كينيدي (الإبن) أن إسرائيل عبارة عن ناقلة طائرات أمريكية ضخمة ولو أختفت لانتهى النفوذ الأمريكي في المنطقة. وهذا الكلام فيه نظر، لأن إسرائيل لم تقدم لأمريكا شيئا منذ أن بدأ الدعم الأمريكي، بل تسببت في استنزافها ماديا وعسكريا وإحراجها سياسيا وتعريضها للخطر الأمني، بينما استفادت أمريكا من بقية حلفائها في المنطقة دون أن تدفع تكاليف وجودها.
ما هي الثغرة التي سوف تخلخل الدعم الأمريكي لإسرائيل؟
يمكن معرفة مستقبل الدعم الأمريكي لإسرائيل من خلال استشراف مستقبل أسباب هذا الدعم ومدى بقائها سواء كانت حكومية أو شعبية.
اللوبي الصهيوني متجذر ومُتغلغل ومتمكن في المؤسسات السياسية ولا تزال آلاته فاعلة وهيبته كبيرة، ولذلك ليس عرضة للضعف من ذاته. والتيار الإنجيلي رغم انحساره وتحول جزء لا بأس به من المنتسبين له للإلحاد أو إلى اعتقاد آخر لا تزال نسبته كافية كرافد قوي للدعم الأمريكي لإسرائيل. أما القوة المالية فليست خاضعة للتوازنات الجديدة ولا تتأثر بوسائل التواصل بل إنها تحاول مقاومة أثر هذه الوسائل كما حصل في سحب الدعايات من منصة إكس.
وتبقى وسائل التواصل الثغرة الوحيدة التي ربما ستهزم النفوذ الصهيوني في أمريكا وتسحب معها وسائل الدعم الأخرى. ويبدو أن الصهاينة بكل قدراتهم الاستشرافية لم يتمكنوا من توقع هذا التأثير الهائل لوسائل التواصل ويدل على ذلك الارتباك الهائل الذي أصابهم بسببه.
الاجتياح الكاسح للمتعاطفين مع فلسطين لوسائل التواصل أجبر وسائل الإعلام التي كانت تتكلم بلغة صهيونية صِرفة على أن تتصنع شيئا من الحياد وتنشر ما كانت تتفادى نشره خوفا من خسارة جمهورها بالكامل. وقد أبلت وسائل التواصل بلاء عظيما في كشف تحيز هذه الوسائل وكذبها الصريح وتبنيها الرواية الصهيونية.
النتيجة الأخرى التي حققتها وسائل التواصل هي صناعة لوبي شعبي تلقائي ضد اللوبي الصهيوني كان وراء نجاح كثير من النشاطات الشعبية والمظاهرات والاعتصامات. بل إن هذا اللوبي الشعبي التلقائي نظّم نفسه أكثر في فضح اللوبي الصهيوني وتوعية الشعب الأمريكي بحقيقة اللوبي الصهيوني، ليس فقط من ناحية ظلم الفلسطينيين بل من ناحية استحواذ الصهاينة على أموال الأمريكان وإجبارهم على دفع الضرائب من أجل قمع الفلسطينيين.
وساهم في نجاح برامج التواصل أن حكام إسرائيل الحاليين يتصرفون بغرور وكبرياء ولا مبالاة بهذا التغيّر في الموازين، مما سبب استفزازا مضاعفا للشعب الأمريكي وهذا بدوره ضاعف الحرج على أصحاب القرار في أمريكا.
متى يبدأ التحول ضد إسرائيل؟
لا يزال الزخم العام في أمريكا خاصة في المؤسسات السياسية لصالح إسرائيل، ويصعب أن يتغير ما دام كثير من الشخصيات المؤثرة في القرار السياسي صهيونية بامتياز. لكن تأثير وسائل التواصل والنشاط المعارض للصهيونية يتنامى بسرعة وقد نجح في كسر الهيبة الصهيونية بجدارة وهو في طريقة لمزيد من المكاسب.
ويفترض مع الوقت أن تنكشف حقيقة خدمة إسرائيل للمصلحة القومية الأمريكية، حيث سيتضح أن إسرائيل عالة على أمريكا تستنزف مواردها وتزيد من تعريض أمنها القومي للخطر وخسارة مصالحها الأخرى في المنطقة بدلا من أن تكون نافعة لأمنها القومي.
أما الانجيليون فسوف تنحسر قناعتهم بإسرائيل تدريجيا حين تتفاقم مشاكل المجتمع الإسرائيلي ويتنامى الخلاف الداخلي ويتقهقر الجيش أمام ضربات المقاومة وتتزايد الهجرة المعاكسة. ولا يستبعد أن ينتهي تعلقهم بإسرائيل كميدان لعودة المسيح، ويصلوا لقناعة أن النبوءة لا تنطبق على إسرائيل الحالية ولا بد أن ينتظروا ظروفاً أخرى لعودة المسيح.
وإذا تراكمت هذه الأسباب ونجح المعارضون للصهيونية من خلال وسائل التواصل في الوصول إلى النقطة الحرجة وهي قلب الهيبة ضد الصهاينة فحينئذ سينهار الدعم الأمريكي لإسرائيل بطريقة دراماتيكية. ويحصل ذلك إذا صنعوا حالة شعبية يُعتبر فيها كل من يدعم الصهاينة مجرما بحق أمريكا يسرق أموالها ويتسبب في كراهية العالم لها فضلا عن دعمه القتل والدمار والسادية.
هل نصل إلى مرحلة قلب الموازين؟
إذا مضى نشاط المعارضين للصهيونية بنفس الوتيرة الحالية مع غرور وكبرياء حكام إسرائيل فإن فرصة الوصول ألى المرحلة التي ينقلب فيها الوضع ضد الصهاينة ستكون أسرع من المتوقع، ولن ينفع إسرائيل وقتها القوى المالية ولا اللوبي الصهيوني ولا الإنجيليون.
الفضل -بعد الله- للمقاومة
الحقيقة المهمة بعد هذا كله أن الفاعل الأساسي في هذا التغيير والمسبب الأول في تغيير الموازين هو جهد المقاومة الفلسطينية الذي أقنع العالم كله بهشاشة المشروع الصهيوني وقابليته للانهيار وأنه لم ينتعش إلا بخيانات الحكومات العربية واستنزاف أمريكا. أما وسائل التواصل وغيرها فليس إلا منصات وأدوات لاستثمار هذا التغيير الذي صنعته المقاومة.