٢٢ ديسمبر ٢٠٢٤
مدرسة الثورة السورية:
تأمل تاريخي في الثورات عموما والثورة السورية خصوصاً
بقلم الدكتور سعد الفقيه
الثورات على الطغاة لا تخرج عن سنن الله في الأمم، ولذلك تجمعها في العادة مجموعة شواهد يمكن استنباطها من استقراء تفاصيل هذه الثورات. في هذه الثورات عموما وفي الثورة السورية خصوصاً مجموعة شواهد تاريخية لا بد للمهتم بأمر الأمة أن يتأملها ويتشرب تفاصيلها. في هذا المقال محاولة لاستقراء هذه الشواهد التي تجسّدت في الثورة السورية فصارت بها من المعالم البارزة في السجل البشري والتي سوف تدرجها في مصادف الأحداث التاريخية الكبرى.
تنطلق الثورات مهما كان النظام قوياً ومتماسكاً
معظم الثورات في التاريخ انطلقت ضد سلطات متماسكة ومسيطرة على الوضع بيد من حديد. وهذا كان حال الثورة الصينية والإيرانية والأمريكية والتونسية والمصرية والليبية والثورة التي نحن بصددها وهي الثورة السورية. كان لدى السلطات قوة قمعية جبارة وهيبة وقناعة لدى الشعب أن السلطة تستطيع فعل ما تشاء وأنها قدر البلاد ومع ذلك انطلقت الثورات واخترقت الهيبة وكسرت كل الحواجز.
وفي بعض الحالات انطلقت الثورة ضد سلطات لها شرعية دينية راسخة لم يخطر في البال أن تتصدع فضلا عن أن تنهزم مثل الثورة الانجليزية والفرنسية ضد الملكية والثورة الروسية ضد القيصر والثورة اليمنيّة ضد الإمامية. كانت طاعة الشعب لهذه السلطات جزءاً من دين الشعوب والتمرد على الحاكم خطيئة وجريمة شرعية ومع ذلك انطلقت الثورات وألغت هذه الشرعية الدينية.
تنتصر الثورات مهما كان النظام قمعياً
ما حصل من قمع شديد في الثورة السورية ليس نشازاً في الثورات لأن معظم الثورات تعرضت لقمع شديد سواء كانت سلمية أو مسلحة. أدى هذا القمع إلى اعتقالات وتعذيب وقتل وتشريد وتدمير مدن كاملة.
الثورة العباسية ١٠٠ ألف قتيل
الثورة الإنجليزية ٢٠٠ ألف قتيل
الثورة الأمريكية٥٠ ألف قتيل
الثورة الروسية١٠ ملايين قتيل
الثورة الصينية١٠ ملايين قتيل ولم تستقر إلا بعد ٣٠ مليون قتيل
الثورة اليمنية ٢٠٠ ألف قتيل
هذا القمع العنيف يؤخر الانتصار لكن النصر شبه حتمي حتى لو تأخر. والمفارقة العجيبة أن الشعوب قد تتململ خلال مراحل الثورة المضادة لكنها بعد النصر لا تلتفت للوراء ولا تندم على تقديم هذا العدد من الضحايا وتفرح بالنتيجة النهائية.
الزمن شرط لنجاح الثورات وانتشار اليأس لا يمنع الانتصار
إذا استبعدنا الانقلابات التي ليست مقصودة في هذا المقال فلم تسجل ثورة في التاريخ نصراً سريعاً سواء كانت سلمية أو مسلحة. استغرقت الثورة الإنجليزية أربع سنوات حتى تحسم المرحلة الأولى وثلاثين سنة أخرى حتى تؤتي أكلها النهائي في الثورة المجيدة. واستغرقت الثورة الأمريكية في مرحلتها الأولى أربع سنوات ولم تؤت أكلها النهائي في إعلان الاتحاد وإقرار الدستور إلا بعد ثمان سنوات. واستغرقت المرحلة الدعوية من الثورة العباسية ثلاثين عاماً والمرحلة العسكرية أربع سنوات، وأما الثورة اليمنية فقد استغرقت ثمانِ سنوات عصيبة.
وطول المدة والانتكاسات التي تمر بها الثورات تؤدي إلى انتشار اليأس سواء بين عامة الشعب أو عند كثير من الثّوار. وقد يؤدي هذا اليأس إلى انتكاس وتراجع وهزيمة نفسية عند بعض الثّوار لكنه لا يمنع ثَبات آخرين وقَطفهم الثمرة في النهاية. ولهذا لا يصلح الحكم على ثورة قُمعت في بداياتها إلى أن تنتهي آثارها تماماً.
الثّوار فيهم مشاكل كثيرة تؤخر النّصر لكن لا تمنعه
تواجه أي ثورة مشكلة كبيرة في تنقية الصّف لأن الأنظمة المستبدة التي يجري التمرد عليها تنشر الجهل وتزرع في النفوس الأنانية والنفاق والخوف والطمع والشعور بالعجز. ومن جهة أخرى يكثر التنافس على الزعامة ويظهر الغلوّ والتفريط وينتشر النزاع الفكري. هذه الأمراض تعطي ذخيرة للسلطات أن تخترق الثورات وتشتتها وتخلق النزاعات داخلها وتشتري بعض قياداتها وفصائلها.
وهذا عادة يعطل نجاح الثورات أكثر من قمع السلطات الحاكمة كما حصل في الثورة السورية وغيرها. وتنقية الصّف تستغرق وقتاً وجهداً ويدفع من أجلها أثمان باهظة، وغالباً لا يمكن التعامل مع هذه الأمراض إلا بشيء من القسوة التي يسيء فهمها كثير من الناس.
التآمر العالمي ضد الثورة كبير لكنه لا يوقف العزيمة ولا يمنع النصر
فيما عدا الثورة الأمريكية فإن كل الثورات في العصر الحديث واجهت دعماً خارجياً قوياً للسلطة التي ثارت عليها. وقفت كل ممالك أوربا مع الملكية الفرنسية ووقفت أمريكا وبريطانيا ودول أخرى ضد الثورة الروسية وضد الثورة الصينية والإيرانية. أما ثورات الربيع العربي فقد وقف ضدها حلف عالمي متمثل في أوربا وأمريكا و دول الخليج وإيران وغيرها.
السبب الأول لهذا التآمر العالمي مبعثه خوف السّلطات الأخرى من عدوى الثّورة كما حصل في ممالك أوربا ضد الثّورة الفرنسية وما يحصل من وقوف دول الخليج ضد ثورات الربيع العربي. والسبب الثاني هو خوف دول أخرى على خسارة مصالحها أو انبعاث خطر من السّلطة التي تنوي الثّورات إقامتها كما حصل في وقوف الغرب ضد الثورة الصّينية والروسية والإيرانية وثورات أمريكا اللاتينية وضد الثورات العربية كذلك.
ورغم ضخامة هذا التآمر العالمي لم تتوقف عزيمة الثّوار وانتصرت معظم هذه الثورات. ومن المفارقة أن بعض هذه الثورات تجاوزت الصمود إلى هزيمة الممالك التي وقفت ضدها كما حصل في الثورة الفرنسية حيث كانت سبباً في سقوط كل ممالك أوروبا التي ساهمت في محاربة الثورة.
المبادئ والإيمان والشجاعة لا تكفي بل لا بد من الرؤية والتخطيط والوحدة
سجل التاريخ ثورات شارك فيها عدد كبير من العقائديين والشجعان لكنّها فشلت لأسباب عملية لها علاقة بسوء التقدير أو سوء التخطيط أو غِياب الرؤية. ثورة الحسين رضي الله عنه وثورة ابن الأشعث ضد الحجاج، وثورة المجر ضد الاتحاد السوفيتي في الخمسينيات وثورة العمّال في إسبانيا في الثلاثينات وثورة البرازيل في العشرينات، وقبل ذلك ثورة "المصارعين" ضد الامبراطورية الرومانية وثورة الزنج ضد الدولة العباسية وثورة الفلاحين ضد المماليك.
وحتى الثورات الناجحة تمر بمرحلة فوضى إدارية وتنظيمية ونزاعات داخل الثورة قبل أن تنضج في راية واحدة ورؤية واضحة وقدرة على التعامل بشكل واقعي مع التحديات. حصل هذا مع الثورة الإنكليزية والروسية والصّينية وتجسد بشكل واضح في الثورة السورية.
النظام الذي يستخدم القوة لا ينفع معه إلا القوة
انطلقت كثير من الثورات انطلاقة سلمية و حاولت قيادات الثورات تحاشي العمل المسلح لكن في معظم الحالات اضطرت إليه بسبب دموية الحكام ولا مبالاتهم بإزهاق الأرواح ومستوى القمع. ولم تتمكن الثورات من الاستغناء عن العمل المسلح إلا في حالة انضمام القوات المسلحة للثورة كما حصل مع الثورة الإيرانية.
بدأت الثورة الانجليزية بتمرد سلمي في البرلمان والأمريكية بما يسمى حفلة الشاي والروسية بمُظاهرات واضطرابات في موسكو وبطرسبورغ والثورة السورية بمظاهرات في معظم المدن السورية. وكان قمع السلطات هو الذي دفع الثّوار لحمل السلاح في البداية للدفاع عن أنفسهم ثم تطور الأمر إلى ثورة شاملة.
عشرات السنين من تجفيف المنابع لم تنفع في إبعاد الناس عن دينهم
استلم حافظ الأسد السلطة في ١٩٧٠ ومكّن طائفته العلوية من المناصب الحساسة ونفذ برنامجاً شاملاً لإبعاد الناس عن دينهم عقيدةً وعبادةً وانتماءً وثقافةً وسلوكاً. واستمر هذا البرنامج بعد استلام ابنه بل وأضاف إليه الاختراق الطائفي الإيراني الذي تغلغل في معظم المدن السورية.
وبعد يوم واحد فقط من سقوط النظام تجلى شوق الناس لدينهم وامتلأت المساجد والجامعات بالمصّلين وظهر حماسهم للتعبير عن المنهج السّني ورفضهم للغزو الطائفي ورُفع الصوت عالياً بالانتماء للإسلام. ولم يكن هذا خاصاً بسوريا فقد رأيناه قبل الثورة المضادة في تونس ومصر وليبيا، و نجزم أننا سنراه ثانياً بعد القضاء على هذه الثورة المضادة. ولا تفسير لذلك إلا أن هوى الناس مع الدِّين مهما حاولت الأنظمة إبعادهم عنه.
ولمحة أخرى هي أنه لم يصمد ويصبر بنفس طويل وإصرار وعزيمة في مواجهة هذه الأنظمة القاسية في منطقتنا العربية إلا من تحرك بدوافع دينية. نعم شارك في الثورات العربية بعض المناضلين غير الإسلاميين لكن الكتلة الكبرى من الثّوار والصامدين هم الإسلاميون العقائديون. أما في الثورات العربية المسلحة فلم يثبت إلا التيارات الجهادية على مستويات مختلفة من تبني الفكر الجهادي.