٢٣ ربيع الأول ١٤٤٥ هـ
مستقبل إسرائيل
بقلم الدكتور سعد الفقيه
إذا كانت دولة إسرائيل مختلفة في نشأتها وعوامل بقائها عن بقية دول العالم فمن الطبيعي أن تكون مختلفة في مستقبلها. وإذا كانت الدراسات عن مستقبل الدول تستشرف ما سيؤول له وضعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي فإن الحديث عن مستقبل إسرائيل دائما يتوجه إلى مدى قدرة الكيان كله على البقاء.
وهذا النهج، الذي يميل فيه معظم الباحثين لترجيح زوال إسرائيل قريبا، ليس مقتصرا على المعادين لإسرائيل أو المعارضين للمشروع الصهيوني بل يشارك فيه كثير من الصهاينة أنفسهم. كما إنه لا يقتصر على الأكاديميين والمفكرين والمختصين بل هو هاجس معظم المهتمين بوضع فلسطين وإسرائيل وفي مقدمتهم الشعب الإسرائيلي نفسه.
ويمكن بدرجة عالية من الثقة استقراء مستقبل إسرائيل من خلال فهم الجوانب التاريخية والدينية والسياسية والاجتماعية والديموغرافية المرتبطة بإسرائيل والشعب الإسرائيلي. وذلك لأن إسرائيل في مسيرتها دولة وشعبا تكاد تكون في وضوح مستقبلها أقرب لمعادلة رياضية قابلة لحساب نتائجها بدرجة تقارب دقة المعادلات الرياضية.
نشأة إسرائيل والاستعمار
لم يكتب للمشروع الصهيوني التمكين إلا بعد أن تبنته القوى الاستعمارية الأوروبية في بداية القرن العشرين الميلادي، وذلك لتحقيق عدة أهداف استعمارية. كان أول الأهداف التخلص من الفائض اليهودي المزعج في أوروبا، وثاني الأهداف تصدير هذا الفائض ليكون كتلة بشرية في وجه العرب. وهذا لا يمكن إلا بتأسيس دولة لليهود في قلب العالم العربي يوفر على الاستعمار مواجهة روح النضال العربية التي كانت أقوى أشكال الإزعاج للاستعمار الغربي. بعد انحسار الاستعمار ظهرت الحرب الباردة فصار لإسرائيل دورٌ ليس بعيدا عن الدور السابق وهو المساهمة في تحييد الاتحاد السوفيتي من خلال مواجهة الدول العربية المتحالفة معه.
بعد نهاية الحرب الباردة كانت معظم الدول العربية إما تحولت للمعسكر الغربي أو ضعيفة مشغولة بشأنها الداخلي فلم يبق لإسرائيل أهمية تذكر في هذا الجانب إلا في حلفها مع الغرب ضد إيران ولذلك تسعى من خلال سيطرتها الإعلامية في الغرب تضخيم الخطر الإيراني وأهمية دورها في مواجهته حتى تقنع الرأي العام الغربي بأنها لا تزال مفيدة عسكريا وأمنيا للغرب. لكن لا يمكن أن يقارن هذا الدور بما نشأت إسرائيل من أجله أو بدورها خلال الحرب الباردة.
في العقود الأخيرة وبعد تنامي الظاهرة الجهادية أدركت كثير من المؤسسات الغربية أن الإصرار على دعم الغرب للكيان الصهيوني المستفز للمسلمين في إهانة مقدساتهم وأهلهم في فلسطين له دور كبير في صعود هذه الظاهرة وتجنيد الشباب لها. حاولت إسرائيل إقناع الغرب أنها حليف له في محاربة "الإرهاب" لكنها لم تستطع كبح جماح توجه جديد يرى أن إسرائيل صارت عبئا على الغرب بدلاً من أن تكون خط دفاع أول.
النفوذ الصهيوني في الغرب
بعد انحسار النفوذ البريطاني في نهاية الحرب العالمية الثانية كانت إسرائيل قد ثبتت أركانها في أمريكا فتحول ضمان الحماية والدعم من بريطانيا إلى أمريكا. ثم تنامى اللوبي الصهيوني في المال والإعلام والنفوذ السياسي في الأجهزة الأمريكية حتى صارت إسرائيل الطفل المدلل لأمريكا. ولم يقتصر الصهاينة على استثمار الحرب البادرة في إقناع الرأي العام الأمريكي بأهمية وجودهم بل استثمروا قوة الأصولية البروتستانتية في أمريكا والتي تتبنى بذل كل جهد لظهور المخلص في الأرض الموعودة "فلسطين".
ومن خلال نفوذهم في أمريكا صار نفوذهم السياسي والإعلامي قويا في أوروبا وبقية الدول المحسوبة على الغرب مثل أستراليا ونيوزيلندا. وقد استثمر الصهاينة آليات الديموقراطية الرأسمالية الغربية التي يمكن اختراقها بأيّ قوة منظمة وقوية مالياً وبلغوا مستوى متقدما في التحكم بهذه الآليات لصالحهم يفوق أضعاف المرات قدراتهم العددية.
وصل النفوذ الصهيوني إلى ذروته في الستينات والسبعينات الميلادية حيث لم يقتصر تأييد إسرائيل واعتبارها امتدادا طبيعياً للثقافة الغربية على الحكومات بل كان الغالب على الرأي العام في الغرب كله. بعد اندلاع الانتفاضة وتنامي قوة المقاومة ثم توسع العولمة والقنوات الفضائية وتزايد المدافعين عن الحق الفلسطيني بدأ التأييد على مستوى الرأي العام يتناقص ولم يعد انتقاد إسرائيل أمرا محرما.
وفي العقود الأخيرة انكسرت كثير من الحواجز في هيبة إسرائيل في الوجدان الغربي وبدأ انتقاد إسرائيل ينتشر بداية في الجامعات والمؤسسات التعليمية والبحثية ثم توسع إلى الإعلام على خجل ثم وصل إلى هيئات حقوق الإنسان ثم المؤسسات البرلمانية والأحزاب حتى وصل إلى مرحلة مرشحين لرئاسة وزراء بريطانيا ورئاسة أمريكا. ويكاد يتساوى الآن مستوى التعامل مع المقاومة الفلسطينية وإسرائيل في كثير من وسائل الإعلام الغربية والمؤسسات السياسية في بعض الدول الغربية.
الحالة العربية
التعامل العربي مع المشروع الصهيوني مر بمراحل كثيرة يهمنا منها ما حصل بعد إنشاء إسرائيل في ٤٨. كان الرفض العربي لإسرائيل منطلقا (في الغالب) من دوافع يسارية وقومية تَشترك فيه الحكومات مع الشعوب بما في ذلك القوى الفلسطينية. ولم تكن إسرائيل تأبه لهذا التوجه لأنها تعلم أن درجة المسؤولية والروح القتالية فيه لا تكفي لبناء جهاز قادر على مواجهة المشروع الصهيوني. بل إن المحصلة النهائية لأداء الحكومات كانت ولا تزال لصالح إسرائيل وذلك لأنها حكومات مدمرة لشعوبها وهويته ودينه.
أما على المستوى الشعبي ففي نهاية السبعينات وبعد تنامي "الصحوة الإسلامية" تحوّل الشعور بالمسؤولية تجاه القضية الفلسطينية إلى قضية مركزية مصيرية. ثم انطلقت الانتفاضة وتأسست حماس وتَحولت المقاومة من الحجارة إلى السلاح بمنطلق جهادي فتعاطَف معها العالم الإسلامي كله.
كان الحل في التعامل مع هذا الوعي الشعبي هو خيانة الحكومات العربية وتسابُقها في التطبيع خاصة بعد حرب الخليج ١٩٩٠ وما تلاه من مؤتمر مدريد. ولأن الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع ليس محكوما بسلطة عربية كان الحل هو أن يُحكم بسلطة "عربية" على غرار الحكومات العربية الخادمة للكيان الصهيوني، وهذا الذي حصل بعد أوسلو حيث تأسست السلطة الفلسطينية التي كانت مهمتها الأولى القضاء على المقاومة.
ولولا سيطرة حماس على غزة في يوم "الحسم" لانتهت المقاومة بالكامل. هذه السيطرة فتحت نافذة كبيرة في جدار الخيانة العربي رغم إمكاناتها المحدودة جدا وهيأت الفرصة ثمّ لتغيير الموازين رغم الحصار العنيف المفروض عليها. مضى قرابة العقدين على غزة تحت الحصار فنشأ فيها جيل كامل تربى بالكامل منذ نعومة أظفاره تربية جهادية ولم يعرف إلا الاستعداد لقتال إسرائيل مقارنة بالضفة التي تحول فيها مقاتلو فتح إلى شرطة خادمة لإسرائيل.
المصيبة الأخطر على إسرائيل هو الاعتقاد أنه لا يمكن المراهنة على أن الشعوب العربية ستبقى محكومة بحكومات خائنة خاصة بعد تجربة الربيع العربي. وقدرة الحكومات العربية حاليا على قمع شعوبها يعتبره الإسرائيليون وضعا استثنائيا سينهار بطريقة دراماتيكية ومتتابعة كخيط المسبحة. ولهذا فهم يحرصون على إقناع أمريكا وأوروبا بدعم هذه الحكومات بأقصى ما يمكن والتخلي عن مبادئ حقوق الإنسان والحريات التي قد تفتح عليهم باب انهيار هذه الحكومات. والحقيقة أن قلقهم في محله والربيع العربي ليس إلا مقدمة لتغيير أكبر في الطريق ينسف كل هذه الحكومات ويضع إسرائيل في وجه مئات الملايين ممن يتمنى قتالهم.
الوجدان الإسرائيلي
هناك قناعة راسخة في الوجدان الإسرائيلي أن دولتهم كيان مصطنع في محيط يرفضه حُشر بطريقة معتسفة تخالف التاريخ والجغرافيا. الفرد الإسرائيلي يدرك أن عجز المحيط عن لفظ هذا الجسم المزروع هو وضع استثنائي وليس الأصل، وأن الوضع الأصلي سيعود ويُلفظ الشعب الإسرائيلي كله. لكن الجيل الأول من المؤسسين لإسرائيل كانوا يعيشون تحدي الإنشاء بدرجة جعلت هذا التحدي طاغيًا على الوساوس الأخرى فضلا عن الدعم غير المحدود من القوى الاستعمارية ثم أمريكا.
وحتى بعد التطبيع مع حكومات عربية فإن الشعب الاسرائيلي على يقين في عقله الباطن أن ضمير الشعوب العربية يرفض وجودهم وسيكون هذا التطبيع أمرًا مؤقتًا. وهذا ما حصل فعلًا مع السلطة الفلسطينية، فقد كانت غزة مركزا لقمع المقاومة بعد إنشاء السلطة الفلسطينية، ثم دارت الدائرة بعد طرد السلطة منها فأصبحت مركز الخطر على إسرائيل. لكن بقاء غزة محاصرة في مساحة صغيرة بتعاون كامل مع الحكومة المصرية خفف هذا الهاجس حتى بعد تكرار المحاولات في إطلاق الصواريخ.
ودفعا لهذه الوساوس لم يبق للشعب الإسرائيلي إلا أن يضع كل ثقته في جيش الدفاع الإسرائيلي معتمدا على تفوقه في السلاح والتقنية في مواجهة القطاع المحاصر الذي يفترض أن حصاره يحرمه من أي إمكانات. وهذا يعني أن أي تدمير لهيبة الجيش وكشف عجزه أمام المقاومة سيزيل هذه الثقة ويصنع رعبا عظيما في الشعب الإسرائيلي غير قابل للتعافي.
وفقدان الثقة بالجيش الإسرائيلي لن تأتي مستقلّة بل ستأتي مع استحضار كل الإسقاطات النفسية الأخرى، ومن ثم سوف يتضاعف الانهيار النفسي في الشعب الِإسرائيلي ويترتب عليه إنهيار حتى في أداء الجيش نفسه.
الدورة التاريخية الطبيعية والانشقاق المجتمعي
إضافة للمعطيات الجيوسياسية التي ساهمت في إضعاف إسرائيل فإن هناك قاعدة تاريخية ذكرها المؤرخون أن الدول تمر بعدة مراحل تبدأ بالحماس والتضحية والإخلاص للدولة وتنتهي بالغرور والترف والعجز عن إدراك المخاطر. وهذا ما حصل مع الشعب الإسرائيلي الذي كان مخلصاً للصهيونية متفقا على مصلحة الدولة راضيا بجعل كل شؤون البلد قائمة على أسس أمنية مقابل العيش بطمأنينة.
كان الشعب الإسرائيلي بكافة شرائحه المتدينة وغير المتدينة متفقا على تسيير البلد سياسيا واقتصاديا وعسكريا وخدماتيا، وقادرا على امتصاص الخلافات رغم ضخامتها. ثم تتابعت الأجيال فتغيرت تركيبة الشعب الإسرائيلي وتكاثر الصهاينة المتدينون الذين يضعون مصالحهم الحزبية أو الفئوية فوق مصلحة إسرائيل ويتصرفون بطريقة أشبه بالبلطجية فحصل انقسام في الكيان الإسرائيلي لا يمكن إصلاحه. وساهم في ذلك طبيعة النظام السياسي الإسرائيلي القائم على الأغلبية البرلمانية دون دستور الذي استغلته بعض الشرائح لمصلحتها فتعاظم الشرخ في المجتمع.
هذا التغيير الديموغرافي أدى إلى هز قناعة الشعب الإسرائيلي بمستقبل إسرائيل وشكهم في حقيقة ديموقراطيتها وتفوقها حضاريا على الدول المحيطة بها. وفقدان الثقة بالدولة بهذه الطريقة ينزع روح الانتماء والإخلاص وهو ما حصل في حديث عدد كبير من الطيارين وقوات الاحتياط عن التخلي عن واجباتهم العسكرية.
النتيجة
الخلاصة في هذا الاستعراض أن العوامل التي تساهم في بقاء إسرائيل تتحول تدريجيا إلى عوامل تساهم في فنائها بدرجات متفاوتة. بعض هذه العوامل حقق نتائج خطيرة في تقويض إسرائيل وبعضها في الطريق إلى ذلك.
من العوامل التي وصلت مرحلة متقدمة في إعلان بداية النهاية لإسرائيل تفكك المجتمع الإسرائيلي والاستقطاب الذي أدى لتمزيق حقيقي فيه، ومنها كذلك نجاح حماس في اختراق جدار الخيانة العربي، ومنها ضرب ثقة الشعب الإسرائيلي بجيشه والانهيار النفسي والمعنوي الذي أصابه.
أما العوامل التي في الطريق إلى التحقق فتشمل تخلي الغرب عن دعم إسرائيل بعد أن تدرك أن مصالحها ليست معها، وتشمل كذلك التغييرات المتوقعة في الأنظمة العربية حيث تكون الكلمة للشعوب المتوقدة لمواجهة الكيان الصهيوني.
ومن الطريف أن الصهاينة يتحدثون عن نهايتهم القريبة حتى في استقراء تاريخ بني إسرائيل أو في نبوءات الكتاب المقدس ومعظم تأويلاتهم تتحدث عن هذا العقد الميلادي. و الطريف كذلك أن تنبؤاتهم تتفق مع تنبؤات الإسلاميين مثل الشيخ أحمد ياسين رحمه الله وآخرين.
أحداث ٧ أكتوبر ٢٠٢٣
هذا المقال كتب قبل أحداث ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ في غزة ولم ينشر، وجاءت الأحداث لتؤكد ما فيه، حيث إن اختراق حماس للحصار الإسرائيلي بهذه الطريقة لن يقتصر على نتائج القتل والأسر بل سيحقق تفوقا استراتيجيا على إسرائيل من خلال تعميق الانهيار النفسي الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي وتضخيم كل الهواجس الأمنية وإزالة الثقة بمستقبل إسرائيل في نفوس أهلها.