top of page

٤ رجب ١٤٤٦ هـ

مصطلحات مرعيّة في السياسة الشرعية

بقلم الدكتور سعد الفقيه

تُستخدم كثير من المصطلحات الدينية المتعلقة بالحكم والسلطة باسترخاء وتَساهل فيه كثير من اللبس والتضليل. وقد بذل الباحثون جهداً متفاوتاً في تحرير هذه المصطلحات وأحَالوها إلى أصولها الشرعية ونقلوا أقوال العلماء عنها في كتب وبحوث طويلة.


لكن كثيراً من المهتمين يصعب عليهم قراءة الكتب والتحقيقات المطولة، وهم بحاجة لبيان موجز يتعرفون به على الحد الأدنى من معنى هذه المصطلحات بما يعصمهم من تضليل وتلبيس علماء السوء ودعاة الضلالة. وفي هذا المقال محاولة لمثل هذا الإيجاز في بيان بعضها على أن يتبعه مقالات أخرى فيها بيان لمصطلحات أخرى في ميادين قريبة من السياسة الشرعية.


الطاعة

كل الأنظمة في العالم بكافة توجهاتها تتوقع من الشعوب الالتزام بالنظام والقانون وتنفيذ الأحكام القضائية وتعاقب من يخالف ذلك، فما الذي يميز مفهوم الطاعة في الإسلام عنها؟


يميزها أنها طاعة تعبديّة يستحضر فيها المسلم أن الالتزام بها يؤجر عليه وأن مخالفتها أو عصيانها يأثم فيه. وبما أنها تعبديّة فإن أصل التزام المسلم بها لا ينطلق من إلزام أمني أو خوف من عقوبة بل ينطلق من التزام شرعي فيه رغبة في الأجر وسلامة من الإثم، والأدلة على ذلك واضحة في الكتاب والسنة.


فإذا كانت "الطاعة" بمثل هذا المعنى الروحي والعقدي والتعبدي العظيم فمن المنطقي أن لا يستحقها إلا النظام الذي يحقق مراد الله في الحكم والسلطة. والنظام الذي لا يحقق مراد الله في الحكم والسلطة أو يحكم بخلاف مراد الله كما هو حال معظم الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي يزول عنه سبب الطاعة التعبديّة ولا يبقى إلا الطاعة الجبريّة المبنية على الخوف من العقوبة. والذي يدّعي أن طاعة الأنظمة الحالية طاعة تعبّديّة لله والتقصير فيها إثم فهو مفتئت على الدين كاذب على الله ورسوله، ومُتجاهل كل شروط الحكم الشرعي الذي يتأهّل فيه النظام لهذه الطاعة.


الشورى

وجوب العمل بالشورى في الإسلام ثابت بالكتاب والسنة وممارسة الخلفاء الراشدين، ولا مجال للتشكيك في وجوبه. ومن أجل فهم الشورى لا بد من معرفة أنها على مستويين، الأول في اختيار الحاكم والذي يدل عليه قوله تعالى "وأمرهم شورى بينهم"، والثاني في استشارة الحاكم للأمة والذي يدل عليه قوله تعالى "وشاورهم في الأمر". ولم يرد في النصوص آلية محددة للشورى سواء للمستوى الأول أو الثاني، وإنما حدثت أحداث في السيرة النبوية وحكم الخلفاء الراشدين تدل على توسيع باب الاجتهاد في اختيار آلية الشورى.


وأهل السنة متفقون على وجوب الشورى لورود النصوص القطعية على وجوبها ، وبذلك فهم متفقون على أن تعطيلها إثم ومعصية، لكنهم اختلفوا في كون الشورى شرطاً لشرعية الحاكم المتغلب الذي لم يصل عن طريق الشورى أو شرعية الحاكم المستبد الذي لا يشاور. وخلافاً لما يدعي المضلّلون فإن العلماء الذي يرون شرعية الحاكم المتغلب المستبد يقرّون بأن تعطيل الشورى إثم وإن طاعة الحاكم تكون فقط في طاعة الله وأنه لا بد من الإنكار عليه في استبداده. هذا فضلا عن أنهم لا يقبلون بالحاكم المتغلب المستبد إلا إذا كان نظامه يحقق مراد الله في الحكم والسلطة.


وهنا تنبيه مهم وهو أن اتفاق العلماء على وجوب الشورى بمُستوييها المَذكورين لم يتبعه اتفاقهم على إلزام الحاكم برأي الأكثرية. وهذا الخلاف على إلزامية رأي الأكثرية ليس خاصاً بالمسلمين فهو موجود في بعض الدساتير الديموقراطية حيث يحق للرئيس الأمريكي مثلا أن ينقض قرار الكونغرس الذي صدر بتصويت الأكثرية.


الخلافة

لعلماء المسلمين تعريفات كثيرة لمصطلح الخلافة ربما أفضلها توضيحا للمصطلح هو "رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا". ولِتسهيل المعنى فإن الخلافة يقصد بها السلطة التي تحكم الأمة المسلمة والتي تستكمل عدة أركان أهمها ١) أن تحكم بشرع الله و٢) تَحمي الثغور و٣) تقيم شعائر الدين و٤) توحّد كلمة المسلمين تحت مظلة حكم واحدة أو على الأقل تكون رمزا لوحدتهم وهويتهم. والخلافة لا تكون خلافةً راشدة إلا إذا تحقق فيها شرطان إضافيّان هما ٥) العدل و٦) الشورى. وإضافة لذلك لا بد أن يكون الحاكم نفسه مؤهلاً بأن يكون مسلماً رجلاً بالغاً عاقلاً .. الخ، مع أن هذا شرطٌ تلقائي لأن الأركان المذكورة إذا تحققت لن يمكن وصول حاكم غير مؤهل للسلطة.


والخلافة لا تحتاج إعلاناً بل إنها تتحقق من خلال استكمال الأركان المذكورة، والإعلان لا يجعل منها خلافة إذا لم تستكمل هذه الأركان. وبهذا فإن كثيراً من السلطات التي أطلق عليها إسم خلافة في التاريخ الإسلامي ليست خلافة، إما لأن ركناً أو أكثر من الأركان المذكورة غير متوفر، أو أنها لم تكن إلا سلطة من سلطات كثيرة في العالم الإسلامي ولم تكن رمزاً لوحدة المسلمين.


ويتمنى كثير من المسلمين عودة الخلافة ويتطلعون إلى مظلة واحدة تَحكمهم بشرع الله وترفع شأنهم في العالم، وهي أمنية تدل على قوة الانتماء والمسؤولية، لكن هل يمكن تحقيق الخلافة في هذا الزمن الذي استقر فيه نظام الدولة القطرية وتغلغل في النفوس والوجدان لعدة قرون؟ والإجابة على هذا السؤال هي أن ينشغل المسلم بتخليص الأمة من هذه الأنظمة المعادية للإسلام في بلاد المسلمين أولاً ويدرس مدى تماسك النظام العالمي وحمايته للدولة القطرية قبل أن يسعى للخلافة.


البيعة

البيعة لها معنى لفظي عام "بيعات صغرى" ومعنى اصطلاحي خاص "البيعة الكبرى"، فالمعنى العام يقصد به التعهد بالتزام معين لمهمة معينة، مثل بيعة الصحابة للنبي ﷺ في الحديبية والتي سميت بيعة الرضوان، وهي بيعة على أن لا يفروا لو قاتلوا قريشاً، ومثل بيعته ﷺ لبعض الصحابة أن لا يسألوا الناس شيئاً، ومثل بيعة الصحابة بينهم على الموت في معركة اليرموك. وهذا التبايع الذي بمعنى العهد هو أساس مشروعية البيعة عند بعض الجماعات الإسلامية التي تريد أن تنفذ عملا أقل من البيعة الكبرى. وقد ناقش ابن تيمية هذا النوع بشكل مستفيض في كتابه "العقود".


أما البيعة الخاصة "الكبرى" فهي مبايعة ولي أمر المسلمين، وهذه لا تكون ملزمة للمسلمين إلا إذا كان هذا الحاكم يحكم كياناً يجمع المسلمين ويرأس نظاماً محكّمًا للشرع رافعاً راية الدين وحاميا لحمى الإسلام مقيماً للشعائر. أما الحاكم الفرد نفسه فهناك رأيان في أهليته للبيعة، الأول أنه أهل للبيعة حتى لو تغلّب بالقوة، ما دامت أركان الخلافة الأخرى تحققت، والثاني يشترط أن يكون قد وصل إلى السلطة عن طريق الشورى وأن يكون عرف بالعدل والاستقامة وإلا فلا بيعة له وحتى لو بويع تنتقض بيعته إذا طرأ عليه ظلم وفسق. وكلا الرأيين معتبرين عند أهل السنة ويخطيء من يدعي الإجماع على أحدهما.


الخوارج

كلمة الخوارج لها معنيان، الأول اصطلاحي عقدي، والثاني لفظي وصفي، وبين المعنيين فرق كبير. ولا بد من التمييز بينهما تحصينا من تزوير العلماء الموالين للظلمة الذين يتعمّدون الخلط مستغلين تشابه اللفظين من أجل أن يخدموا الحكام في تنفير الناس من مخالفة الحكام وتقبيح صورة مَن ينكر عليهم أو يسعى لتغييرهِم.


والخوارج بالمعنى الأول هم الذين ورد وصفهم في أحاديث تحث على قتالهم والتحذير منهم، والمقصود به فرقة بدعية خارج إطار أهل السنة، وفكرها مبني على التقرب إلى الله بتكفير من لا يستحق التكفير من المسلمين واستحلال سفك دماء المعصومة دمائهم من المسلمين والمعاهدين. وهؤلاء يوصَفون بأنهم خوارج، وكانت أول فرقة منهم تتشكل الحرورية الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، وتنطبق عليهم هذه الأحاديث سواء خرجوا بالسلاح على الحكام أو لم يخرجوا. والأحاديث التي وردت في وصف هؤلاء الخوارج "بالمعنى العقدي" لم يرد فيها إشارة إلى منابذة الحكام، وإنما تدور معانيها حول الغلو في التكفير واستحلال سفك الدماء المعصومة والغرور الفكري والتعالي على علماء المسلمين وعقلائهم.


أما الخوارج بالمعنى الثاني فيقصد به السعي لإزالة الحكام ومُنابذتهم بالسلاح دون تبني تكفير أو استحلال سفك الدماء المعصومة. وهذا المعنى ليس له علاقة بالخروج العقدي الاصطلاحي سواء كان اجتهاداً ضد الاستبداد والظلم والفساد أو كان طَلَباً للسلطة.


والذين يتعمّدون الخلط بين المعنيين يتجاهلون أن صحابة مشهود لهم بالجنة وفضلاء التابعين قد مارسوا هذا النوع من الخروج، فقد خرج الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على يزيد، وخرج مروان بن الحكم وابنه عبد الملك على عبد الله بن الزبير، وخرج أبناء الصحابة في المدينة على يزيد، وخرج قراء البصرة وفقهاء التابعين الذين أيدهم أنس بن مالك رضي الله عنه على الحجاج، وخرج زيد بن علي بن الحسين على الأمويين، وخَرج محمد النفس الزكية على العباسيين.


وكل هؤلاء لم يكونوا خوارج بالمعنى العقدي، فمن ذا الذي يستطيع أن يصف الحسين رضي الله عنه أو عبد الله بن الزبير أو أنس بن مالك بأنهم خوارج تكفيريون؟ وتأكيدا على ذلك فإن العلماء في تلك الفترات لم يَعتبروا أحداً من هؤلاء خوارج بل حتى الحكام الذين خُرِج عليهم لم يَعتبروهم خوارج بالمعنى العقدي الاصطلاحي.


والعلماء المضللون ذهبوا إلى أبعد من ذلك وهو اعتبار أي إنكار على الحكام من عمل الخوارج بالمعنى الأول، بل ذهب بعضهم إلى وصف من لا يحب الحاكم بقلبه ويدعو له بالخارجي. وهذا مناقض للقطعيات الثابتة في الإسلام وهو وجوب الأخذ على يد الحكّام والإنكار عليهم إذا ظلموا أو فسقوا واعتبار ذلك من أعلى درجات الجهاد في سبيل الله.


أهل الحل والعقد

تكرر مفهوم "أهل الحل والعقد" قديما عند فقهاء المسلمين وحديثاً عند بعض المفكرين الإسلاميين، وكأنه عندهم وصف للجهة التي تقرر من يتولى تنصيب الحكام وتحديد الطريقة التي يحكمون بها. وعند تتبع هذا المصطلح ودوره في السياسة الشرعية يمكن بيان الحقائق التالية:


أولا: لم يرد هذا المصطلح في الكتاب والسنة، لا بلفظه ولا بمعناه، وإنما هو مصطلح وصفي بدأ استخدامه على لسان أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة ٣٢٤ هجرية، ثم شاع تداوله بعد ذلك على لسان الفقهاء الذين أصّلوا لشؤون الحكم في الإسلام أمثال الماوردي والفراء وابن تيمية، وحديثاً عند الباحثين في السياسة الشرعية.


ثانيا: لم يرد الحديث عن هذا المصطلح كآلية عملية محددة لاختيار الحاكم وطريقة الحكم وإنما ورد كوصف لأحداث سابقة تمخض عنها اختيار الحاكم أو تفضيل حاكم على آخر عند الصراع بينهما.


ثالثا: لم يرد وصف متفق عليه في تعريف أهل الحل والعقد، ومحاولات التعريف المطروحة ليست جامعة ولا مانعة، ومعظم من يحاول لتعريف يصل إلى حصيلة بأن المقصود هم الذين يساهمون في تمكين الحاكم من السلطة.


رابعاً: يستبدل بعض الفقهاء هذا المصطلح بمصطلح آخر هو "أهل الشوكة" الذي يقصد به أهل القوة والقدرة وهو أقرب للمقصود لأن معناه أدق في مفهوم تمكين الحاكم.


خامسا: لم يتمخض عن مفهوم أهل الحل والعقد أو المصطلح الآخر "أهل الشوكة" أي تنظير عملي في آلية اختيار الحاكم أو طريقة الحكم، وبقي المصطلح وصفياً رغم محاولات كثيرة من قبل بعض المفكرين الإسلاميين استخلاص هذه الآلية منه.


ولكل هذه الأسباب يبدو أن استخدام هذا المصطلح لا يتعدى النقاش الوصفي ولا يمكن الاعتماد عليه في تحديد آليات الحكم والسلطة، وليس من المفيد الاحتجاج به في الحديث عن آليات الحكم في الإسلام.

bottom of page