top of page

١١ محرم ١٤٤٥ هـ

مظاهر الإعجاز في التشريع الإسلامي

بقلم الدكتور سعد الفقيه

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.


ابتداء، ملاحظة مهمة، وهي أن هذا المقال لا يتحدث عن الإعجاز القرآني، بل يتحدث عن الإعجاز في الشريعة الإسلامية.


حقيقتان متضادتان

عند تأمل الشريعة الإسلامية تتجلى حقيقتان هي بالمنطق البسيط مستحيلة التزامن إلا بمعجزة:


الحقيقة الأولى: أن الشريعة الإسلامية نظام متكامل، للعبادة والسلوك والعلاقات الاجتماعية والبيع والشراء والسلطة والدولة والحرب والسلم وكل ما يحتاجه الإنسان في حياته بلا استثناء. هذا إضافة إلى أنها نظام  تفصيلي للقضاء وإجراءات التقاضي وأسس القوانين التي يعتمد عليها القضاة. وحقيقة اشتمال الشريعة على كل شؤون الحياة لا يجادل فيها مطّلع حتى الذين يحاربون الشريعة والذين لا تعجبهم تشريعاتها.


الحقيقة الثانية: أن هذه الشريعة تشكلت ونضجت في ظرف زماني ومكاني ضيق وكيان بشري صغير وبيئة محدودة؛ فمكانًا كان الميدان هو المدينة المنورة بعدد محدود من السكان وفي وسط الصحراء بعيدا عن الحواضر البشرية الكبرى، وزمانا كان المدى هو السنوات العشر التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة. صحيح أن التشريع بدأ عند البعثة لكن معظم الفترة المكية كان لترسيخ العقيدة والأخلاق، ولم يشتمل إلا على جزء قليل من التشريع القانوني. وحتى في الفترة المدنية كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولا بالجهاد ولم يَصفُ له استقرار في المدينة إلا أقل من نصف هذه المدة. ولهذا تكون مدة التشريع الحقيقية لا تزيد عن خمس سنوات.


كيف لبيئة بهذه المحدودية زمانا ومكانا وعددا صغيرا من البشر وبعدا عن الحواضر البشرية الكبرى أن ينتج منها تشريعٌ شامل لكل شؤون الحياة ومناسبٌ لكل أنواع البشر وصالح لكل زمان ومكان، فضلا عن ذلك هو تشريع عملي سهل التطبيق و خال من التناقض؟


التاريخ يثبت الأهلية والجدارة

والدليل على أهلية هذا التشريع وواقعيته أن المسلمين حين فتحوا فارس والروم لم يأخذوا من الحضارتين تشريعا ولا عقائد ولا سلوكا، مع أن غالبية سكان هذه المناطق بعد الفتح لم يكونوا مسلمين، بل إن النظام الإسلامي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقانوني والقضائي حَلَّ فورا محل أنظمة الدولتَين بجدارة وسهولة، وفُرضت الشريعة على الأراضي المفتوحة دون تكلف، وطُبّقت في كل شؤون الحياة. وهذا بالطبع لم يمنع أن يستفيد المسلمون من التقنية والتطور المدني فيما ليس له علاقة بالتشريع ولا بالعقيدة.


والعكس صحيح؛ فحين اجتاح المغول البلاد الإسلامية ما استطاعوا أن يفرضوا نظامهم على المسلمين ولم يصل جيلهم الثالث للسلطة إلا وقد تحولوا للإسلام عقيدة ونظاما. وكذلك حين اجتاح الصليبيون بلاد الشام لم يستطيعوا إزاحة النظام الإسلامي رغم طول بقائهم هناك. وفي الجهة الأخرى من العالم الإسلامي حين انتصر الأوروبيون عسكريا على المسلمين في الأندلس لم يستطيعوا إخراج الإسلام بالإقناع والفكر، بل أخرجوه بالقوة والتعذيب وغيرهما من أساليب الإكراه.


التشريع الإسلامي والتشريع الغربي

وحتى يمكن تقدير هذه المعجزة  لا بُدَّ من مقارنة قيام الشريعة الإسلامية بتطور التشريعات الغربية التي تعتبر في الوقت الحاضر نموذجًا عالميًا تستخدمه معظم الدول.


استغرق هذا التشريع الغربي أكثر من ألفي سنة، ومرّ بأطوار كثيرة حتى وصل إلى ما وصل إليه وما يزال غير مستقر، بل يتغير ويتبدل وينقلب على نفسه. وحتى تتبين ضخامة التغييرات في أوروبا والتي انتهت إلى ما عليه القوانين الحالية فإن من المفيد تأمل المعالم الرئيسية في صيرورة أو مراحل أو تحولات هذا القانون:

  • كانت البداية في القوانين الرومانية التي عُمل بها إلى المائة الثالثة بعد الميلاد والتي كان يضعها الأباطرة الرومان وبعضها كان مستنبطا من بقايا النظام اليوناني.

  • اختلطت القوانين الرومانية في أواخر الدولة الرومانية بالتعاليم المسيحية بطريقة هجينة يشرعها الملوك ويُقرّها القساوسة.

  • بعد سقوط روما -وتحديدا في القرن الخامس الميلادي- ظهر أوغسطينوس، وطرح مفهوم التفريق بين مثالية العقيدة وواقعية التطبيق، لكن استمرت القوانين التي يضعها الملوك ويقرها القساوسة.

  • في القرن الثالث عشر الميلادي نشر توماس الأكويني مفهوم "عرض النصوص على المنطق" بعد أن تأثر بكتابات ابن رشد لكن لم تُغيِّر أفكارُه في القوانين الملكية الكنَسيّة إلا القليل.

  • في آخر القرن الثالث عشر ظهر روجر بيكون الذي طرح الفكرة العلمية الحديثة وهي اعتماد التَجربة لإثبات صحة الافتراضات. وكذلك لم تؤثر أفكاره في القوانين الملكية الكنيسة إلا القليل.

  • في بدايات القرن السادس عشر ظهر ايرازموس وفتح المجال لنقد نصوص القساوسة متحاشيًا انتقاد نصوص الكتاب المقدس، وكانت هذه أجرأ خطوة فتحت المجال لما حصل في النهضة الأوربية للتمرد على جمود الكنيسة.

  • وفي نفس الفترة ظهر ميكافيلي ونشر فكرة القوة فوق الأخلاق، والغاية تبرر الوسيلة، والمنفعة فوق القيم، والمصلحة العامة فوق المبادئ. وكسر هذا حاجزا مهما في تقديم المصالح والمنفعة على القِيَم المبنية على معاني الكنيسة.

  • تزامَن ذلك مع ظهور مارتن لوثر الذي قاد ثورة ضد البابوية وأعلن أن الإنسان مُحاسَبٌ أمام الله دون الحاجة إلى قسيس يتوسط بينه وبين الله، وأن الإنسان يستطيع تفسير التوراة والإنجيل بنفسه ولا يحتاج إلى تفسير الكنيسة. وكانت هذه إضافة مهمة لكسر حاجز عصمة الكنيسة وصلاحية المواطن العادي للمساهمة في سن القوانين.

  • وبعد ايرازموس وميكافيلي ومارتن لوثر فُتح الباب أمام الفلاسفة والمفكرين من أجل أن يطرحوا فكراً بديلا عن الكنيسة في تأصيل النظام الاجتماعي والسياسي وتشريع القوانين. وساهم في سلسلة التطور الفكري توماس هوبز وجون لوك ومونتسكيو وفولتير وجان جاك روسو وسبينوزا وغيرهم على المستوى التشريعي، و ديكارت وهيوم وكانط وغيرهم على المستوى الفكري والمنطقي والأخلاقي.

  • بعد الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية انتهت سيطرة الكنيسة وفُتح المجال أمام كتابة قوانينَ خالية من التأثير الديني، والتي لم تأخذ صورة متكاملة إلا في عهد نابليون. أما في بريطانيا وأمريكا فقد كانت القوانين تراكمات وسوابق قضائية تم تهذيبها على مدى الزمن.

  • ثم جاء بعدهم فلاسفة أتمّوا ما بدأه الأولون، ولم يصل المشروع الغربي إلى هذه الصورة من الديمقراطية حديثًا والمبنية على الحرية والمساواة والشفافية إلا بعد الحرب العالمية الثانية تقريبًا، مع العلم أنه خالٍ من المحتوى الروحي والأخلاقي.

  • لعل هناك من يدّعي أن الوثيقة العظمى "الماجنا كارتا" في بريطانيا قد اعتُمدت قبل ٨٠٠ سنة وكانت مصدرا للقوانين بعد ذلك، والحقيقة لم يكن لهذه الوثيقة دور يُذكر في تغيير القوانين، ولم تمنع ملكا مثل هنري الثامن أن يُصدر فرمانات تتناقض معها كليا. وحتى بعد ثورة كرومويل في بداية القرن السابع عشر الميلادي التي نزعت السلطة من الملك لم يتجه القانون لحماية الحقوق إلا بعد ما سمّيَ بـ "الثورة المجيدة" في نهاية القرن السابع عشر. ولم تكن أسس قوانين هذه "الثورة المجيدة" إلا بدايات لسلسلة طويلة من التطورات التي أوصلت القانون البريطاني والأمريكي لِما هو عليه الآن.


مقارنة… ومن ثَمّ إعجاز

فالمقارنة هنا بين قانون غربي جافّ وخالٍ من المعاني الروحية والأخلاقية تكوَّن خلال ألفي عام عن طريق تراكمات ومشاركات من كل دول أوروبا في قارة واسعة وملايين البشر ومئات الفلاسفة والمفكرين والساسة ولا يزال يتغير وينقلب على نفسه؛ مقابل قانون ثابت ومستقر ومحاط بمنظومة روحية وأخلاقية وعقدية كاملة تشكَّل خلال عشر سنوات فقط في مدينة صغيرة وسط الصحراء في نصوص تنتهي عند رجل واحد. هل من شك بعد ذلك أن هذا إعجاز؟


صُدفة أم تقدير رباني؟

وهنا حقيقة أخرى تزيد من القناعة بالإعجاز، وهي أن كثيرا من التشريعات في الإسلام صدرت إثر حدثٍ أو سؤال، والقليل منها صدر إنشاءً هكذا دون حدث ولا سؤال، فكيف صار التشريع بهذا السعة والشمول والتكامل وصالحاً لكل زمان ومكان بمجرد استجابة حدَثَت في مدينة صغيرة لشعبٍ صغيرٍ خلال عشر سنوات؟ والإجابة على هذا السؤال تقودنا للدلالة الأولى على الإعجاز وهي أن الأحداث التي حصلت في هذه الفترة والأسئلة التي طرحت فيها إنما كانت بمثابة نماذج لكل ما يمكن أن يحصل في أي زمان ومكان. وبالمنطق البسيط لا يمكن لهذه الأحداث والأسئلة أن تغطي احتمالات الزمان والمكان إلا أن يكون الذي ساقها هو مُقدّر الأحداث ومدبر الأحوال، وهنا يتجلى أعظم إعجاز!


الأصل والاستنباط

من صفات الشريعة الإسلامية أنها تعتمد على أصل ثابت تتفرع عنه القوانين والتطبيقات وتنظيمات الحياة، وتتفرع منه كذلك تفاصيل العبادة والأخلاق والسلوك. هذا الأصل الثابت هو نصوص الكتاب والسنة والتي توفر فيها من الصفات المعجزة ما جعلها أهلًا لأن يُستَنبط منها ما يُحقق الشمول والتكامل والواقعية؛ فأصْلُ التشريع هنا هو الكتاب والسنة وليس أقوال الفقهاء والمفسرين وشارحي الحديث وتعليقاتهم التي ليس لها أي نصيب من القداسة عند المسلمين. وهذا التفريق مهم لإدراك عمق وقوة الإعجاز، لأن الإعجاز لا يكون في استنباطات البشر، بل فيما صدر عن الوحيين الكتاب والسنة.


اعجاز الشمول في معاني النصوص

الكتاب والسنة التي تفرع عنها كل تفاصيل الشريعة والعبادة والأخلاق ليست إلا نصوصًا مكتوبة ومقروءة فكيف حققت كل هذا الشمول؟


كان من أهم العوامل ما أسماه الحديث النبوي "جوامع الكلم"، فبِكلمات قليلة في الكتاب والسنة تجتمع المعانى الهائلة ويُفتح الباب لاستِنباطات واسعة. وهذا المعنى الواسع إما أن يظهر من خلال النص ذاته، أو يظهر من خلال الصورة الكاملة للحدث أو السياق، والنصوص الشرعية مليئة بهذه الأمثلة، بل تكاد كلها تكون نموذجًا لذلك.


إعجاز الشمول في القواعد العامة ومقاصد الشريعة

من المعلوم أن نصوص الكتاب والسنة لا تتحدث عن كلّ شيء بشكل حرفيّ، فكيف إذن صارت شاملة؟ الإجابة في إعجاز آخر في هذه النصوص وهو أنها لم تقتصر على التشريع التفصيلي بل وَضعَت قواعد شاملة لا يخرج عنها شيء من شؤون الحياة. وقد تتبع العلماء هذه القواعد وأصول الاستنباط و معظم التناول لهذه القواعد والأصول كان على شكل قوائم وأبواب، لكن الإمام الشاطبي تناولها بشكل كلي (بانورامي) واستنتج منظومة كاملة من مقاصد الشريعة في كتابه العظيم "الموافقات".

حاول البشر وضع قواعد عامة من خلال الدساتير والمبادئ القانونية لكنها لم تزد على أن تكون مظلة غامضة ومحدودة لا يمكن الاعتماد عليها، مع أنها في ذاتها غير مستقرة وتتعرض للمراجعة والإلغاء.


إعجاز الجمع بين مستحيلين

من وجوه الإعجاز في نصوص الكتاب والسنة أنها تجمع بين أمرين يبدو من المستحيل الجمع بينهما، وهما سعة المعنى ومرونته من جهة، والوضوح والدقة من جهة أخرى. ومن المعلوم أن النصوص البشرية لا يمكن أن تكون واضحة ودقيقة إلا إذا كانت ضيقة المعنى ولا يمكن أن تكون واسعة ومرنة إلا إذا كانت غامضة المعنى، وهذا ملاحَظ في كثير من النصوص القانونية في العالم.


إعجاز التكامل القانوني

لا تقتصر نصوص الكتاب والسنة على الشمول فقط، بل إن الأحكام يُتمم بعضُها بعضا،لارتباطها بأواصر قوية من جهة وحدة مصدرها وتنزهه عن الأغراض والأهواء،ومن جهة تطابقها عقليا وواقعيا مع الواقع  فما كان مشكِلا على الفهم في نصوص الزواج والطلاق قد يفسّره نصٌّ في البيع والشراء، وما كان نصا في الحرب والسلم قد يُستنبط منهُ أحكامٌ في الخلافات داخل المجتمع المسلم وهكذا.


إعجاز التكامل الشامل

تُتمّمُ النصوص الشرعية بعضَها ليس فقط في الميدان القانوني والأحكام، بل في كل شؤون الحياة، وخاصة القضايا العقدية والروحية والأخلاقية، والقرآن كثيرا ما يختم آيات الأحكام بقوله تعالى "لعلكم تتقون"، "لعلكم تذكرون". بل إن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تُطبق دون المنظومة العقدية والروحية والعبادية والأخلاقية الشاملة؛ لأن شؤون الحياة العامة كالزواج والطلاق والبيع والشراء والسياسة والحرب والسلم مرتبطة بمواقف عقدية و عبادية وأخلاقية تُستَحضر كلها عند الاستنباط وإصدار الأحكام.


إعجاز التناسق والانسجام

إضافة إلى الشمول والتكامل فإن النصوص الشرعية تنساب بشكل منسجم تماما ولا يوجد بينها أي تناقض. وحتى ما قد يبدو تناقضا يتبيّن عند التحقيق أنه غير متعارض في ذاته وإن بدا ذلك في عين من لم يرسخ في علوم الشريعة واللغة العربية، وأن كل نصوص الشرع وقواعده منسجمة متناسقة، ولا يمكن لهذا الانسجام الشامل أن يحصل إلا بمعجزة. هذا بخلاف القوانين الوضعية التي يضطر مشرّعوها لمراجعتها بشكل دائم بسبب التضارب والتناقض الذي لا مفر منه.


إعجاز النظام القضائي والإجراءات القضائية

لم تقتصر النصوص الشرعية على قائمة من القوانين والأحكام، ولا على سلسلة من قواعد الاستنباط، بل اشتملت بشكل واضح على تنظيم شامل لمفهوم القضاء وصفات القضاة وإجراءات التقاضي وتحديد شكلية العلاقة الحساسة بين القضاء والأجهزة التنفيذية. كما فرّقت الشريعة بشكل مُعجِز بين النصوص الشرعية في الكتاب والسنة وبين أحكام القضاة كما فرقت بين الحكم القضائي وبين الفتيا العامة. ومع أن هذا التفصيل حظي بنفس الثبات الذي حظيت به الشريعة عموما؛ فقد وفرت الشريعة نوافذ واسعة في تفاصيل النظام القضائي وإجراءات التقاضي تسمح بالاستفادة من كل التجارب البشرية بما لا يتعارض مع أسس القضاء الإسلامي.


المحكوم له والمحكوم عليه متساويان في الرضا

من حق المتقاضي في الإسلام أن يشكّك في نزاهة القضاة أو بطلان الحكم القضائي، لكن لا يجوز أن يعترض على أصل الحكم الشرعي في المسالة، ولا خيار له إلا أن يَقبَل ويُسلِّم من أعماق قلبه بلا أي اعتراض، كما قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}. هذا بخلاف التشريعات البشرية التي فيها يُجبر المحكوم عليهم  على تنفيذ الحكم بحقهم، لكنهم غالبا ما يرفضون الرضا والتسليم من داخل قلوبهم.


القانون الجاف والشريعة العاطفية

لا يشتمل القانون الغربي إلا على الواجب والممنوع، ويتدخل القانون لفرض الواجب أو معاقبة من لا يؤديه وردع الممنوع أو معاقبة من يقترفه. كما إن القانون ليس فيه أي ثواب أو عقاب غير الثواب والعقاب الدنيوي الذي يُصدره القاضي. أما الشريعة فإنها أولًا: يتداخل فيها الثواب والعقاب الدنيوي والأخروي ويستطيع القاضي حل المشاكل بمجرد التخويف بالله والتشجيع على كسب الحسنات وتجنب السيئات، وثانيا: تشتمل الأحكام المندوبات والمُستحسنات والفضائل التي لا تصل حد الوجوب قانونا، وتشتمل على المكروه والمستقبح والمعيب الذي لا يصل حد الممنوع قانونا.


العولمة ومصير الشريعة والقانون

ظن البعض أن العولمة التي حصلت بسبب الإنترنت والفضائيات ووسائل الاتصال ووسائل الحركة والتنقل ستُضْعِف القناعة بالشريعة، لأن المسلمين سيطَّلعون على ثقافات كثيرة ولا سيَّما مع ضَعفهم السياسي والعسكري والتقني، وأنهم سينهزمون أمام هذه الثقافات الخطيرة والشهوات، لكن ما حَدَثَ هو العكس؛ لسببَين:


السبب الأول: أن النصوص الشرعية الإلهية (الكتاب والسُّنة) أصبحت في متناول الناس فكيف يمكن لنصوص بشرية أن تهزم نصوصًا إلهية أصبحت في متناول الجميع من خلال هذه العولمة؟


السبب الثاني: أن العولمة مَكَّنَت المغمورين من العلماء المؤهلين -الذين لم تمكِّنهم الحكومات ولا وسائل الإعلام الطاغية- من الوصول للجمهور فخدموا هذه النصوص وسهَّلوا إيصالها لأذهان الناس من خلال منصات العولمة، وبذلك تكون العولمة قد دعَمَت التشريع وأثبتَت أن النص الشرعي أقوى من غيره.


السبب الثالث: أن العولمة ساهمت في إظهار الجوانب المظلمة والسلبية في التشريعات والقوانين الغربية، وكثير من هذه لم تكن تظهر سابقا إلا للمغتربين والمهاجرين من المسلمين وفضحتها العولمة.


ورغم الهجمات العسكرية والأمنية والسياسية والتقنية ومحاولات الإفساد والتخريب الفكري والشهواني للمسلمين؛ ما يزال النص الشرعي هو الذي يتغلّب، وما يزال إقبال الناس عليه يتنامى بشكل مخيفٍ لأعداء هذا الدين.

bottom of page