٧ ذو القعدة ١٤٤٤ هـ
مفاهيم أخلاقيّة مغلوطة
بقلم الدكتور سعد الفقيه
إذا كان المواظب على حُسن الخلق يبلغ درجة الصائم القائم، وإذا كان أقرب الناس مجلسًا من النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أحاسنُهم أخلاقًا كما ثبت في الحديث؛ فلا بد أن يكون للأخلاق شأن عظيم. وإذا كان لها هذا الشأن فمن الواجب معرفة الأخلاق المقصودة التي توصل لهذا الشأن العظيم.
وفي المقابل: فإن من الواجب معرفة المفاهيم المغلوطة، حتى لا يضيع الجهد في عمل ليس عليه مثوبة بل ربما تسبب بذنب. ولتحقيق ذلك نورد هنا تفنيدًا لمجموعة من الأساطير المنتشرة بين الناس في مفهوم الأخلاق.
المفهوم الضيّق للأخلاق
يكاد يكون ثابتا عند كثير من الناس أن المقصود بالأخلاق هو المعاملة المباشرة مع الآخرين في الشارع وفي البيع والشراء، ومع المراجعين والموظفين، ومع زملاء الدراسة والعمل.. الخ، أو ما يسمى بالإتيكيت. وهذا تضييق لِواسع وتصغير لمفهوم كبير.
والحقيقة أن الأخلاق منظومة ضخمة مرتبطة بالتعامل مع جميع البشر، من الوالدين والزوجة والأبناء والأسرة، وبقية الرحم والجيران والأصدقاء، إلى التعامل في البيع والشراء، إلى التعامل مع الواقع بما فيه من ظلم وفساد، إلى التعامل مع غير المسلمين. أما الإتيكيت فرغم أهميته فإنه يأتي في آخر درجات سُلّم الأخلاق الفضيلة، ليس تقليلاً من أهميته وفائدته في الحياة، لكن لا يجوز حصرُ مفهوم الأخلاق فيه.
هل تُعرف الأخلاق بالذوق؟
المرجع في معرفة الأخلاق وأهميتها وكم تُحقِّق مما وعد به النبي صلى الله عليه من المنزلة لا يُعرف بالذوق البشري ولا برؤية العقلاء والفلاسفة بل يحدده الشرع، والشرع يُعرف بالكتاب والسنة. والرقي في الأخلاق وعلو درجَتِها وأهمية كل خُلُق كذلك، لا يعرف بالذوق، بل قد بيّنت نصوص الكتاب والسنة أهمية كل خُلُق ودرجته عند الله ومدى علاقته بالإيمان والإسلام والفسوق والنفاق والكفر.
الأمانة والصدق والوفاء مقدمة على كل الأخلاق، لماذا؟
المحافظة على الأخلاق المتفرعة عن الأمانة وهي الصدق والوفاء وحفظ السر هو أعلى درجات حسن الخُلُق لأنها صفات مرتبطة بالإيمان نفسه، وكلما اجتهد المسلم في الحرص عليها كلما اقترب من صفات الأنبياء. والعكس صحيح، فالكذب وخرق العهد والغدر والخيانة وفضح الأسرار من صفات المنافقين، ومن اكتملت فيه هذه الصفات صار منافقًا خالصًا كما ثبت في الحديث. ومعظم الناس لا يدركون أن هذه الصفات القبيحة أخطر من غيرها من المعاصي المعروفة لأنها من صفات المنافقين، والنفاق أسوأ من العصيان عند الله.
لا ينفع حسن الخلق مع الأباعد دون بر الوالدين وصلة الرحم
يغيب عن الكثيرين أن بر الوالدين، وأداء حق الزوجين، وصلة الرحم، وحسن الخلق مع الجيران، أهم بكثير من معاملة أي جهة أخرى في المجتمع والعالم. وإذا كان المسلم مقصّرًا مع هؤلاء الأقربين فلن ينفعه "الإتيكيت" مع الأباعد مهما قابلهم بوجه طليق. بل إن التقصير في حق الأباعد حتى لو وصل حد الأذى أهون من عقوق الوالدين وقطيعة الرحم وأذى الجار والظلم بين الزوجين.
مستويات الأخلاق في تجنب المحرمات
الذي يبتعد عن المحرمات المرتبطة بالناس، كالغشّ، والسرقة، والغيبة والنميمة والعلاقات المحرّمة مثل: الزنا واللواط، بلا شك أفضل بكثيرٍ ممن يتعامل بالاتيكيت وهو لا يأنف من فعل المحرمات. ويزداد الفضل عند الله إذا كانت الدافع لهذه المعاصي يلاحق الإنسان بإغراء وفتنة. فمن يعيش في جو يدفعه للغِش أو السرقة أو الفواحش ويمتنع عنها أعظم درجة عند الله ممن لا يعيش مثل هذا الجو. والعكس صحيح فمن يسعى بنفسه للحرام وهو لم يفتن به أعظم إثما عند الله ممن فتن به واستُدرج إليه.
هل يمكن أن تكون الأخلاق حالة قلبية فقط؟
الأخلاق المرتبطة بالوجدان، كالعفة والقناعة والرضا والتواضع وحسن الظن مشاعر خفية توجد كحالة نفسية عند الإنسان لا تظهر إلا عند الاختبار. وقد ورد في كل منها نصوص كثيرة تدل على أجر عظيم ومنزلة عالية. والأجر عند الله مكتوب ما دام المسلم مخلصًا فيها لله سواء ظهرت في الاختبار أو لم تظهر.
المفهوم الشرعي للكرم
يختزل الكثير النظرة للكرم بما له علاقة بالضيف، وهذا تضييق شديد لمفهوم الكرم الواسع الذي يشمل الكرم في كل شيء. الكرم الحقيقي هو بذل المال والعلم والجاه والوقت والنفس وكل شيء في سبيل الله. بل إن إنفاق المال وخاصة ما يحبه الإنسان من ماله في سبيل الله وتبليغ العلم والسعي في حاجات الناس باستخدام الجاه وبذل النفس في سبيل الله، وإغاثة الملهوف عظيمًا كان أو وضيعًا، هو الكرم الذي اتصف به الأنبياء والرسل.
ولا تنطبق سجية الكرم إلا على من لا يمنّ على الناس ولا يتطلع إلى جزاء أو شكر أو أي سبب للعطاء. والكريم الحقيقي لا يتحسر على كرمه حتى لو كان إحسانُه إلى لئيم، بل حتى لو أساء إليه بعد أن تفضَّل عليه بمالٍ أو طعام أو علم أو وقت أو فزعةٍ أو جاه.
وعودة إلى مفهوم إكرام الضيف؛ فإن غالب الناس يعتقدون أنه هو المبالغة في إكثار الطعام وتحسينه مع أننا نُهينا عن التكلف كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والكرم الحقيقي مع الضيف هو، أولا: أن يكرم أي ضيف وليس فقط من له شأن، وثانيا: أن ينشرح الصدرُ للضيف ويتبسَّط له المُضيف، وثالثا: ألا يُشعِرَ الضيف بالتكلف. والنبي صلى الله عليه وسلم قال لضيفه لقيط بن صبرة: "لا تحسبن أنّا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مئة لا نريد أن تزيد فإذا ولد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة".
المفهوم الحقيقي للشجاعة
يظن الكثير أن الشجاعة هي مواجهة المخاطر، مثل المبادرة في الدخول في شجار في الشارع أو القيادة المتهورة للسيارة أو مواجهة الثعابين والحيوانات المفترسة أو الاندفاع في القتال بلا خوف من الموت. وهذه أقرب لمعنى الجرأة من الشجاعة، وربما تصل للحد السيئ منها وهو التهور.
والخوف من الحيوانات المفترسة والقتل والمخاطر الجسدية لا يتعارض مع الشجاعة المحمودة؛ فقد ثبت أن نبي الله موسى عليه السلام فرّ من الحيّة، وخاف حين لاحقوه بتهمة القتل ومع ذلك فقد كان من أشجع الناس في مواجهة فرعون.
الشجاعة الحقيقية هي الاستعداد لمواجهة الأزمات والتحديات المادية والمعنوية بثبات وثقة، والشجاعة المحمودة هي تلك التي يتأهب فيها المسلم للدفاع عن دينه ونفسه وعرضه وماله. ومن أفضل صور الشجاعة قول كلمة الحق وتحمُّل التبعات في ذلك. وهذه تبلغ ذروتها في الوقوف في وجه الطاغية، ونهيه عن المنكر والظلم والفساد وأمره بالمعروف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
صورة أخرى من الشجاعة تكون في السيطرة على المشاعر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب". وقد فاضت حكايات العرب والمسلمين بقصص الحِلم والصبر من رجال عُرف أنهم من أشجع الناس.
الغيرة الصادقة والغيرة الكاذبة
من الدارج بين الناس أن الغيرة إنما تكون على المحارم كالزوجة والبنت والوالدة والأخت فقط، أو بقية النساء من الأقارب. والغيرة في الحقيقة أوسع سواء كانت بمفهوم الغيرة على المرأة أو بالمفهوم الشامل.
أما الغيرة على المرأة فإنما هي غيرة على كل المسلمات، بل ربما على كل امرأة يُعتدَى عليها. وقد فزع المسلمون للمرأة التي أهانها اليهود في الحادثة التي تسببت بتحريك جيش المسلمين لإخراج بني قينقاع من المدينة. وكان المسلمون يفهمون الغيرة بهذا المعنى، ولهذا كثر الثناء على المعتصم في تحريكه جيشًا جرارًا من أجل المرأة التي قالت: وامُعتصماه، رغم ما أُخذ عليه من قوله بخلق القرآن وما فعله في أحمد بن حنبل.
ولن يَصدُق مَن يدّعي الغيرة مهما كان شديدا في حماية أهله القريبين إذا كان لا يبالي بما يصيب المسلمات من الابتزاز وبيع الأعراض، أو إفسادِهن ببرامج الفساد أو سجن السلطة لهن وتعرضهنّ للتحرش والاغتصاب.
لكن مفهوم الغيرة الحقيقي أشمل من تحديده في الغيرة على المرأة إلى مفهوم الغيرة الشاملة على الدين وشعائر الدين ومقدسات المسلمين وعلماء المسلمين وفُضلائهم وعامّتهم ودولتهم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أحلم الناس إلا إذا انتُهِكت حرمات الله، وهكذا كان دأب الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين.
ولا يصدُق الإنسان بادّعاء الغيرة إذا لم يظهر عليه الاغتِمام من تمكين أعداء الإسلام وولايتهم على المسلمين، والغيرة على المسلمين من البرامج التي تنشر الفساد في المجتمع وتؤدي لتخريب أبناء وبنات المسلمين، وعلى سجن العلماء وتعذيبهم …إلخ.
بين الحذر وسوء الظن
يشيع بين بعض الناس أن الإنسان لا يمكن أن يحمي نفسه من اللئام والغادرين والماكرين إلا بتقديم سوء الظن. وهناك مَن يعتبر سوء الظن من الفطنة والدهاء حتى تداول بعضُهم عبارة "سوء الظن من حسن الفطن" كمبدأ للتعامل مع الناس. وهذا لاشك مخالف للشريعة، فإن حسن الظن يبقى هو الأصل ما لم تأت قرينة تثبت عكسه.
وهنا تأتي موازنة الأخلاق الإسلامية في حماية المسلم دون أن يقع في معصية سوء الظن وهو من خلال مبدأ الحذر. فالحذر لا يعني سوء الظن، ولا يتعارض مع حسن الظن، وفي نفس الوقت يُحقق المطلوب وهو الحماية من الغدر والخديعة. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "لست بالخِب ولا الخِب يخدعني"، والخِب هو المُخادِع.
فالمسلم مأمور بالحذر دون أن يصل إلى حد حُسن الظن و مأمور بحسن الظن دون أن يصل إلى حد الغفلة والانخداع. وهذا يأخذنا إلى نماذج أخرى من الموازنات في الأخلاق الإسلامية؛ فالمسلم مأمور بالتواضع ومنهي عن الذل، ومأمور بالعزة ومنهي عن الكبر، ومأمور بالكرم ومنهي عن التبذير، ومأمور بالاقتصاد ومنهي عن البخل، ومأمور بالشجاعة ومنهي عن التهور، ومأمور بالحيطة ومنهي عن الجبن.. الخ.
الشدة والقسوة والغلظة قد تكون أخلاقاً محمودة
الأخلاق الإسلامية ليست دائما في اتجاه الرقة واللطف، بل هناك استثناءات تكون فيها الشدة والقسوة هي السنة والعمل بها إنما هو تنفيذ لأمر الله واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين آذوه في مكة بصوت مرتفع، وفي يوم بدر حصبهم بقبضة من تراب وقال "شاهت الوجوه"، وخاطب بن صياد بقوله "إخسأ فلن تعدو قدرك"، وحين رفض بسر الأشجعي الأكل بيمنيه قال له "لا استطعت" فشلت يمينه"، وحين شتم أبو بكر عروة بن مسعود بقوله "امصص بظر اللات" تبسم النبي صلى الله عليه وسلم إقرارا لما قام به أبو بكر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي دجانة في غزوة أحد "إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن"
أما على المستوى الفعل فقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في الشدة تجاه من يستحقها، كما فعل مع العرنيين بعد أن قابلوا الإحسان بالإساءة. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه رفض استرحام أبي عزة الجمحي ورد عليه بقوله "والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمدا مرتين" وأمر به فضربت عنقه. ومع أن هذه المواقف هي الاستثناء وليست الأصل لكنها تبقى شرعا ثابتا والقسوة عند حصول الداعي لها تعتبر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
هذه بعض المفاهيم الأخلاقيّة التي يجب أن تُصحّح؛ ولا بد للإنسان أن ينطلق من مفهوم شرعي ومنطقي للأخلاق، ويجب ألّا تحرّكه تراكمات اجتماعية مضللة.