top of page

١٦ ربيع الآخر ١٤٤٦ هـ

من أحمد ياسين إلى السنوار
لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم

بقلم الدكتور سعد الفقيه

درس تاريخي ثقيل 

الهزة النفسيّة الهائلة التي صنعتها أحداث غزة خلخلت كثيراً من المسلّمات، بما جعلها دورة مكثفة ومتواصلة في يقظة جماعية للشعوب العربية. هذه القفزة النفسية لشعوبٍ كاملة لم تكن لتحصل لولا صِدق الرجال الذين صنعوا ويصنعون الأحداث، ممن يصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم".


تجربة غزة أزاحت المفاهيم البائسة التي تهوي بالإنسان إلى حضيض الذل والمهانة، وثبّـتت بدلاً منها المفاهيم التي ترفعه إلى العزة والكرامة. هذه المفاهيم لا يمكن إدراكها بقرائتها نصوصاً، لأنها تفاعلٌ وتجربةٌ حياتية، وخليطٌ من الوجدان والفكر والمعايشة مع الأحداث. ومَسيرة غزة بمساحتها الصغيرة ووضعها المواجه لمؤامرة عالمية غير مسبوقة، هي الأمثل لأن تغرس في النفوس مثل هذا التغيير في المفاهيم، وتشرح معنى "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم".


شعب يسكن في نصف مساحة البحرين، يُدَكُّ بأحدث ما أنتجه البشر من صواريخ وطائرات وقذائف ومدافع ودبابات ومُسيّرات على مدى عام كامل، وتشتغل مصانع السلاح المتطور في أمريكا وأوربا بأعلى طاقتها لتزوّد العدوّ بوَسائل الدمار وتعوضه بسخاء عن كل ما يحرقه من ذخائر. ورغم هذا فهو شعب يقاوم، بل ينال من العدوّ ويتسبب في خسارته بما لم يخسر في كلّ معاركه السابقة. هذه المؤامرة العالمية وخيانة العرب وعمالة السلطة ربما تجعل أهل غزة عموماً والمقاومة خصوصاً أكثر من يتجلى فيهم "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم".


رغم الحصانة العالمية

توفّر أمريكا وأوربا للعدوّ حصانة عالميّة لأن يحرق النّاس أحياء، ويدمّر المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء، ويعتقل المدنيين ويعذبهم كما يريد، ويغتصب الرجال والنّساء، ويقتل عشرات الألوف، وينشر  التسجيلات التي توثّق جرائم الحرب، ومع ذلك يصمد المقاومون بكل عزيمتهم، ويقف معهم شعبهم راضياً بالثمن الذي يدفع من أجل هزيمة الاحتلال، أفلا يستحقون وصف "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم"؟


رغم الخيانة العربية 

يقف الخونة العرب في صفّ العدوّ ويَدعمونه عسكريَاً وإعلاميَاً وأمنيّاً وثقافيّاً وسياسيّاً، ويجعلون مقدّرات دُولهم في خدمته، وكأنهم يقولون للعدوّ "لك العتبى حتى ترضى". مُخابراتهم تحت تصرف العدوّ في معلوماتها وأسرارها، وإعلامهم يمجّد العدوّ ويشوّه صورة المقاومة، وأجهزة الأمن تُنكّل بمن يتعاطف مع المقاومة وينتقد العدوّ، وأموالهم تُنفق في دعم العدوّ وهزيمَة المقاومة، ومواقفهم السياسيّة اصطفاف مع العدوّ وضد المقاومة.  ورغم كل هذه الخيانة والغدر فالمقاومة "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم". 


رغم العمالة من الداخل

وأحطّ من الخيانة العربية عمالةٌ من الداخل، وغدرٌ من المقربين، تتولى كِبره سلطةٌ مَرَدَت على الجاسوسية، وتحولت إلى جهاز أمن صهيوني أكثر كفاءة من الصهاينة أنفسهم. سلطةٌ أُنشئت من أجل الخيانة، وتشكّلت أجهزتها من أجل إنهاء المقاومة، وبُرمجت مناهجها على تربية الأجيال الجديدة على الرضى بالاحتلال ومبايعة الصهاينة. سلطة فيها من المرتزقة أضعاف أعداد المقاومين، مُتعتهم في التنسيق مع الصهاينة والتنكيل بالمقاومين واعتقالهم وتعذيبهم وتسليمهم للصهاينة، نبت لَحمهم من سُحتِ النفط، وبُرمجت نفوسهم على الركوع للصهاينة، ومع هذا كله صمدت المقاومة وتبين فعلا أنهم "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم".


ميتة الربح وحياة الخسارة

فقدنا في غزة شهداءَ كثير (نحسبهم والله حسيبهم)، والمسلمون يعظّمون ويقدّسون مفهوم الشهادة، لكن غزة علّمتنا كيف أن الشهادة ليست حدثاً معزولاً يعظّم ويقدّس هكذا مجرداً. فرضت علينا الأحداث مقارنة إجبارية بين غزة بمقاييسها، وعالمنا العربي بمَقاييسه، ففهمنا معنى قوله تعالى "ويتخذ منكم شهداء". هذه المقارنة لا نستطيع تحاشيها، ليس لأن أحداث غزة تملأ الإعلام، لكن لأن واقعنا العربي السّيء فيه ما يُخجلنا أمام هذا التفوق الغزاوي العظيم. ومن أراد أن يتعلم فليتعلم من هؤلاء الذين صاروا رمزاً لمن "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم".


قتيلهم الحي وأحيائُنا الموتى

تعلّمنا من غزة أننا نفقد القتيل فيرتقي شهيداً في الجنة (نحسبه كذلك)، فيكون الآلاف الذين ارتقوا نجحوا بدرجة كاملة في امتحان التاريخ والحياة. وتعلّمنا من تَثاقلنا وتخاذلنا إننا نفقد الناس من الاستقامة إلى الانحراف، ومن السلامة والانضباط إلى الخمر والمخدرات، فيُران على القلب فيفشل قبل نهاية الامتحان. 


ثم يتراكم الرّان فينتقل من الإيمان إلى لامبالاة بالدين ثم العلمنة ثم الإلحاد الصريح، فنفقد الآلاف والملايين في امتحان الحياة إلى حضيض التاريخ ثم قعر جهنم والعياذ بالله. وإذا أردنا أن نطهّر أنفسنا من هذا الواقع القبيح والانحدار التاريخي فليس لنا إلا أن نقتدي بهؤلاء الذين "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم".


الشهادة نعمة لهم وكذلك نعمة لنا

تعلّمنا في غزة أن الشهداء يرتقون، وقد مهّدوا السبيل لإنجاح الكثير من أقرانهم في هذه الدورة الحياتية العظيمة، لأنهم بجهادهم فرضوا واقعاً إيمانياً وعقديّاً ومنهجياً وحضارياً يرفع شأن الأمة كلها. في المقابل يَتراكم عندنا الانحراف فيُستمرأ المنكر ويُطبّع الفساد وتُمقت الاستقامة، أما التضحية والتحدي والمسؤوليّة الجماعيّة، فهذه مطموسة من القاموس، ولا يملك المتردّي في الرزالة أن يدركها فضلا عن أن يفهمها.  


من هنا كان فقدان الشهداء نعمة لهم ونعمة لمجتمعهم، وكذلك نعمة لنا، لأنه تنبيهٌ متواصلٌ أننا نخسر بحياتنا وهم يربحون بموتهم. ومن هنا كانت خسارتنا للأحياء إلى درك السفالة كارثة نخجل بها أمام أساتذتنا الشهداء. والفرصة الوحيدة لأن نتوقف عن خسارة الأحياء إلى الذل والفجور هي أن نتبع خطى من "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم".


متعة التحدّي ولذّة النضال

في غزة هُدمت البيوت، وعُطّلت الحياة، وقُتل عشرات الآلاف، لكن بقي التنظيم متماسكاً على قلب رجل واحد وثبت المجتمع الغزّاوي مع المجاهدين وأصرّ أن يتغنى ببطولة المقاومين رغم الثمن الهائل الذي دفعه. نعم علّمتنا غزة أن الروح التي تسري في الناس هي روح التحدّي والنضال، وإصرار على الفوز في هذه المنازلة التاريخية. وعلّمتنا أننا بعيشنا المترهل والمُتثاقل إلى الأرض، في حالة العجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال، ولا علاج لنا إلا أن نقلد هؤلاء الذين "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم".


خسارة القادة جزء من البرنامج

قتل العدوّ الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وعياش وشحادة والجعبري وابو شنب وهنية وقائمة طويلة من القيادات الكبيرة في المقاومة، ولم يزد قتلهم المقاومة إلا قوة وانتشاراً وثباتاً وتعاظماً في الخطر على العدو. والآن يقتل العدوّ السنوار مقبلاً غير مدبر، في مشهد يجسّد الشّجاعة والتحدّي والبطولة، ويعكس التواضع والاستعداد للموت والحرص على لقاء الله. يقتل العدوّ السنوار فيحقّق له أمنيته، ويقدم له الهدية التي أرادها منهم، وهي أن يقتل على أيديهم في سبيل الله. 


لقد صار مشهد اللحظات الأخيرة إلهاماً، ليس للمقاومين فحسب، بل لكل من يكره الظلم والطغيان والخيانَة والخذلان في العالم كله، وإرغاماً للأنذال الراكعين للصهاينة من خونة العرب والسلطة العميلة. ولعل التحاقه بركب الشهداء "نحسبه كذلك" يؤدي إلى ما أدى إليه من سبقه من الشهداء من وقود مضاعف للمقاومة وتثبيتاً لحقيقة "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم".


لا عزاء للأنذال

استفاضت في الأمة لغة الاستعلاء، وأصبحت لا تستلذّ إلا بمن يحدثها بخطاب استنهاضيّ فيه بشائر التمكين والظهور لأهل الحق، ولا تقتنع إلا بلهجة التحدّي والمواجهة، سواء تجاه طغاة الباطل الجاثمين على صدور المسلمين، أو تجاه الصهاينة ومن خلفهم من أعداء الإسلام. ولم يعد بالوسع تجاهل التأييد العارم والكاسح لصمود أهل غزة وإبداعاتهم وهيام الناس بطريقتهم في تحدّي الصهاينة.


أما الدوابٌّ التي تُعلّف من أجل سب المقاومة، وتُكلّف بالشماتة باستشهاد قادتهم، وتُؤمر بالتحدث بلغة الصهاينة، فهؤلاء ليسوا إلا نجاسة عارضة سوف تتطهّر الأمة من رجسهم عاجلاً أو آجلاً بعز عزيز أو بذل ذليل. وهذه الدّركات السُّفلى من الخسّة والنّذالة والوضاعة التي هوى إليها هؤلاء لا ينحطّ إليها إلا من تشرب الارتزاق واجترع الذل وتربى على العبودية وقضى على قيمته البشرية وكرامته الإنسانية، فضلا عن أن يكون له علاقة بالإسلام والعروبة.


لم تأبه المقاومة بالدعم العالمي الهائل للعدو، ولا الخيانة العربية، ولا عمالة السلطة، فكيف لها أن تأبه بشرذمة من دوابّ المرتزقة! وليطمئنّ محبّو المقاومة أن النّصر حليفهم ما داموا (كما نَحسبهم) ممّن يشمله قوله صلى الله عليه وسلم  "لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم".

  • Whatsapp
  • Twitter

عبدالله الغامدي

د. سعد الفقيه

  • Whatsapp
  • Facebook
  • Twitter
  • Snapchat

للإتصال بنا عن طريق البريد الإلكتروني:

لدعم نشاط الحركة الإعلامي:

Digital-Patreon-Wordmark_FieryCoral.png
bottom of page