٢٦ شعبان ١٤٤٤ هـ
هل تعود الظاهرة الجهادية وكيف تكون عودتها؟
بقلم الدكتور سعد الفقيه
هل انتهت الظاهرة الجهادية؟
يعتقد الكثير إن الظاهرة الجهادية قد أفَلَت، وأن الجماعات الجهادية قد اختفت من الساحة ولم يبق منها إلا فلول بعد أن تآمر العالم على إنهائها. وهذا الانطباع صحيح بالمقياس السياسي والعسكري والأمني، فقد قُضي على الجزء الأكبر من كوادر الحركات الجهادية "العالمية" وقتل معظم قياداتها واستغنى كثير من الدول عن الاحتياطات الأمنية التي وضعتها بسبب نشاط هذه الجماعات وخلت وسائل الإعلام والتواصل من أحداث مرتبطة بها.
هذا الانطباع المباشر -بالمقياس السياسي العسكري والأمني- لا تتفق معه الرؤية التاريخية والتحليل الاجتماعي، وذلك لوجود مجموعة شواهد تشير إلى ما يكاد يثبت حتمية عودة هذه الظاهرة، بغض النظر عن شكلية هذه العودة. من هذه الشواهد والأدلة:
١) لم يكن هذا الأفول للظاهرة جديدا، فقد اختفت الظاهرة تقريبا في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات بعد انسحاب السوفييت من أفغانستان ثم عادت في منتصف التسعينيات ضد الوجود الأمريكي في الخليج وأفريقيا، ثم انحسرت لبضع سنين ثم عادت لتضرب في أفريقيا وقلب أمريكا وتنتشر في العالم العربي وآسيا وأوربا، ثم انحسرت لبضع سنين لتعود على شكل كيان حقيقي وتحارب العالم كله كسلطة على الأرض، ثم ضُربت بقوة وتلاشت. فإذا كان الأفول والعودة قد حصل سابقا فمن الوارد أن يتكرر.
٢) بعد تنامي القمع والاضطهاد والقتل والتعذيب غير المسبوق الذي تمارسه السلطات العربية في الثورة المضادة ترسخ لدى شرائح كبيرة من المجتمعات العربية أن التغيير السلمي أضحوكة وأن هذه السلطات لا ينفع معها إلا القوة. وهذا، وإن لم ينتج عنه تكوين جماعات جهادية بشكل مباشر فإنه يصنع الحاضنة الاجتماعية لتنامي ثقافة العنف وتقبّل مبدأ استخدام القوة تجاه الأنظمة، لأنها لم تدخر وسعا في استخدام كل وسائل العنف والدم ضد المعارضين السلميين.
٣) اعترف العالم بشرقه وغربه بالأنظمة التي قتلت المعارضين السلميين بدم بارد في مصر وسوريا، ووقف مع المرتزقة في ليبيا واليمن، ومع عودة الاستبداد في تونس، ومع إجهاض الثورة في الجزائر، وتعاون بشكل وثيق مع الأنظمة المموّلة للثورة المضادة وهي السعودية والإمارات، مما أدى إلى أن تقتنع الشعوب أن الدول الداعمة -زعما- للحرية والعدالة لن تساعدها في التخلص من الطغيان بل ستقف معه، وأن الحق لن ينتزع إلا بجهد مباشر من شعوب هذه البلاد.
٤) تعيش منطقتنا وجزء كبير من العالم حالة من القلق والترقب لأحداث كبيرة بسبب التوترات التي وصلت إلى حد المواجهة المسلحة الشاملة في أوكرانيا، وتقترب بقوة من مواجهة أو مواجهات مسلحة في منطقتنا. هذا يعني خلخلة التوازن الذي أدى إلى تمكّن الأنظمة المحلية بدعم من النظام الدولي من قمع الشعوب وانحسار مظاهر المعارضة سواء كانت سلمية أو مسلحة. وإذا سقط هذا التوازن سوف ينبعث العمل المسلح ويجد له مؤيدين كثير.
٥) يشير بعض المؤرخين إلى أن العالم عموما ومنطقتنا خصوصا قد دخل في المرحلة الرابعة في الدورة التاريخية، والتي تتكرر ما بين ٨٠ عاما عند عالمي الاجتماع ستراوس وهاوي، و١٢٠ عاما عند ابن خلدون. هذه المرحلة - طبقا للمؤرخين- هي التي تحصل فيها المواجهات التاريخية التي ينتج عنها تغييرات كبرى في المنطقة والعالم.
٦) استُفزت الشعوب في عقيدتها ومبادئها بشكل غير مسبوق، فمن جهة تسابقت الأنظمة في احتضان الكيان الصهيوني، وتجاوزت التطبيع إلى التفاهم الأمني والعسكري والتجاري والثقافي مع إسرائيل. وفي نفس الوقت شنت الأنظمة حربا على الإسلام نفسه سواء في قمع العلماء والدعاة أو تغيير المناهج أو فرض برامج التدمير الأَخلاقي والقِيَمي والفكري أو تمكين الملحدين والمتطرفين علمانيا من المناصب. وهذا الاستفزاز بقدر ما تظن الأنظمة ومن يقف خلفها أنه يبعد الشعوب عن الإسلام فإنه يدفعها لردة فعل مبالغة، لأن فيه تحديا عنيفا لهوية الشعوب وانتمائها.
كيف سيكون انبعاث ورسوخ الخيار المسلح؟
هذه العوامل قد لا تكون سببا مباشرا في صناعة جماعات جهادية، لكنها تهيئ الأرضية لها حتى إذا حدث أي خلل في توازن الأوضاع تشكلت التيارات بسهولة على شكل جماعات منظمة من جديد. ولكن هذه المرة سيكون وضع هذه الجماعات والظروف التي ستظهر فيها مختلفا عن المرات السابقة للأسباب التالية:
١) لن يكون انبعاث العمل المسلح هذه المرة بمبادرة مباشرة من تنظيم جهادي بل غالبا سيكون استجابة لأحداث إقليمية كبيرة، وهذا يعني أن معطيات جديدة سوف يتشكل من خلالها منهج وبرنامج وخطة التيارات المسلحة وسيكون ذلك كله مرتبطا بالظروف الجديدة التي ستوفرها هذه الأحداث الإقليمية.
٢) طبقا لذلك ستكون الفرصة مواتية لهذه الجماعات أن تشتمل على شرائح أعرض من الشرائح التي أنتجت التيارات الجهادية سابقا، وذلك بسبب توسع دائرة المتعاطفين مع استخدام القوة كما أشير أعلاه. هذا التوسع يعني مساهمة شخصيات أكثر دهاء وحكمة وحسن تدبير وخبرة في التخطيط السياسي والإعلامي من الدوائر التي كانت تعتمد عليها الجماعات الجهادية سابقا.
٣) مهما كانت الجماعات الجهادية عنيدة يستحيل أن لا تستفيد من أخطائها السابقة التي أدت إلى تخلي الحاضنة الاجتماعية عنها وتأليب الرأي العام ضدها وإعطاء الخصوم ذخيرة في تسهيل حصارها وحرمانها من أي دعم جماهيري أو تعاطف عالمي.
٤) قد تصل الأحداث المتوقعة لمستوى يغير التحالفات، ويُخلخل الموازين، مما قد يضطر دولاً عظمى أن تجد نفسها داعمة للتيارات الجهادية رغم أنفها. وبقدر ما يبدو هذا غريبا فقد حصل في الماضي حين دعمت أمريكا الجهاد في أفغانستان، ولم تجد أفضل من ذلك في إنهاك الاتحاد السوفياتي وإخراجه من أفغانستان. ومعلوم أن العالم الغربي والشرقي لا تحكمه قيم ولا مبادئ، بل تحكمه المصالح، وعلى الأغلب سيجد مصلحته هذه المرة في دعم هذه التيارات.
هل تتفوق التيارات الجهادية على النضال القومي والوطني العلماني؟
أثبتت تجارب التاريخ أن المناضلين ضد الاحتلال والاستبداد والطغيان في العالم العربي خصوصا هم من التيارات الإسلامية السلمية والمسلحة وأن دور المناضلين قوميا ووطنيا هامشي ومحدود. أضف إلى ذلك أن المحسوبين على التيارات القومية والوطنية واليسارية و"الإنسانيّة" اصطفت مع الأنظمة بعد الربيع العربي، وباركت قمعها وطغيانها واستبدادها. أما المخلصون منهم والصادقون فقد تعاطفوا مع الإسلاميين وبعضهم تحول إلى صفهم فعلا.
هل تتكرر غفلة الإسلاميين وتُخطف الراية منهم بعد انتصارهم؟
كان خطف الراية من المناضلين الإسلاميين ضد الاستعمار، ومن نشطاء الثورات الإسلاميين ضد المستبدين ظاهرة متكررة على مدى أكثر من قرن. والآن، لو سارت الأحداث باتجاه التغيير الشامل فهل ستُخطف الراية منهم مرة أخرى؟ يفترض أن لا يحدث ذلك للأسباب التالية:
١) مساهمة التيار السلمي الذي تحول إلى الخيار الجهادي سيكون في المرحلة القادمة أكبر من مساهمة التيارات السلمية وهذه المجموعات الجهادية الجديدة أكثر رغبة في احتكار النتيجة من التيارات السلمية مما يعني عدم استعدادها للتخلي عن التمكين.
٢) ثقافة الزهد في السلطة لدى الإسلاميين والتي تمثلت في معظم الحركات الإسلامية السلمية بزعم الإخلاص والتجرد لله والخوف من تحمل المسؤولية سوف تتلاشى و تترسخ ثقافة السعي للسلطة قصدا. ولن يكون السبب تغيّر قناعة الأفراد في حب السلطة بل سيكون إدراك أن الإسلام يأمر أتباعه بالسعي للتمكين والسلطة وأن هذا ليس له علاقة بحب فرد بذاته للسلطة.
٣) من المرجّح أن يكون العمل المسلح أكثر توافقا مع العمل السلمي في المرحلة القادمة بل ربما يصل لمرحلة التنسيق والتكامل، وهذا ما يجعل الحاضنة الاجتماعية السلمية داعمة لتوجه التيارات المسلحة والتي لن تقبل بخطف الراية وتسليمها لغير الإسلاميين.
٤) دعم الشرائح العريضة يعني وجود عدد من دهاة السياسة في خدمة التيارات المسلحة والذين يتقنون المحافظة على المبادرة والسيطرة على الراية وبقاء الزخم لصالح الإسلاميين.
٥) اختلال التوازن العالمي يجعل القوى العظمى أقل قدرة من السابق في التدخل بطريقة استخباراتية لتغيير نتيجة الصراع الداخلي لصالح عملائها والقوى الخادمة لمصالحها.
ما هي نسبة الاحتمال لهذه التوقعات؟
يبدو من خلال دراسة التاريخ وفهم طبيعة المجتمعات واستحضار أثر التقنية الحديثة ووسائل التواصل وتوفر المعلومات، أن نسبة هذه الاحتمالات عالية. ومما يكاد يجزم به أن تطورات إقليمية وعالمية ستحصل وسيكون هناك دور كبير قادم للعمل المسلح. أما تفاصيل السيناريوهات وقطف الثمرة وقدرة الإسلاميين عموما والجهاديين خصوصا على التعامل مع التطورات بدهاء وإتقان فهو الأغلب لكنه ليس حتمي
نصيحة للجيل القادم من الجهاديين
سبق أن نشرنا مقالا على شكل ملاحظات على التيارات الجهادية، وإن سارت الأمور بنفس ما ذكر أعلاه فلا بد من التذكير بالمقال السابق (ملاحhttps://www.islah.co/items/%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%B8%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9ظات على التيارات الجهادية)