٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
هل خالف الغرب مبادئه بقمع النشاط المناهض للصهيونية؟
بقلم الدكتور سعد الفقيه
ظن الكثير من المبهورين بالنظم الغربية أن قمع المناهضين للصهيونية في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا مخالف لثقافة تلك البلدان ومناقض لقيَم الليبرالية والعلمانية. وتَفاجؤوا بدفاع المسؤولين الأمريكان من كلا الحزبين عن جرائم إسرائيل في الإبادة الجماعية والتجويع والحصار والاعتقال الإداري والتعذيب وقصف المستشفيات والمدارس ومخازن الغذاء، وتبريرهم لهذه الجرائم، وبعضهم لا يكتفي بالتبرير بل يؤيدها ويطالب بالمزيد.
أحدهم طالب بقصف شامل لغزّة على غرار قصف مدينة دريسدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية والذي يسمى "القصف السجادي"، وآخر طالب بتدمير غزة بقنبلة نووية. وهذه المواقف ليست نشازا ولا استثناء فقد صوت مجلسيّ الكونغرس، النواب والشيوخ، بأغلبية ساحقة على تزويد إسرائيل بما تحتاجه من مال وسلاح لارتكاب هذه الجرائم.
الذين يستغربون من هذه الممارسات يغيب عنهم أمران، الأول هو أن هذا الغرب، الذي يعيش فيه الناس حاليا تحت مظلة من حقوق الإنسان وحرية التعبير، كان إلى عهد قريب غارقاً في احتقار الكرامة الإنسانية والظلم والعبودية، والثاني أنه ليس في مرجعية المجتمعات الغربية ثوابت تمنع عودة هذه الممارسات، بل إن الثقافة الغربية أكثر انسجاما مع نفسها حين تسحق قيم الحرية والكرامة والعدالة.
في شأن الحديث عن الأمر الأول، وهو حال الشعوب الغربية إلى عهد قريب، كانت العنصرية في أمريكا حتى الستينات الميلادية محمية بالقانون، وكان من يخالف العنصرية يحاكم ويعاقب، ولم تنته مظاهر العنصرية "قانونيا" إلا في نهاية الستينات الميلادية بعد نجاح حركة الحقوق المدنية.
وفرنسا التي تدعي أنها أصل التنوير والحداثة كانت إلى منتصف القرن العشرين تمارس القتل الجماعي والتعذيب والاغتصاب وحرق القرى في الجزائر وغيرها من مستعمراتها. وكان الجنود الفرنسيون يستمتعون بقنص البشر في الشوارع ويصادرون ما يشاؤون من ممتلكات الناس. ومن أغرب جرائم فرنسا تقييد عدد من السجناء في محيط التجارب النووية في الصحراء الجزائرية لدراسة آثارها على البشر.
ويشبه ذلك ما فعله البريطانيون في سكان أستراليا الأصليين وفي شعوب أفريقيا والهند، وأسوأ منه ما فعله البلجيك في الكونغو من قتل وقطع الأطراف عقوبة لمن يقصر في جني المطاط من شعب الكونغو حتى وصل عدد المقتولين عشرة ملايين إنسان. بل إن البريطانيين والبلجيك والفرنسيين والأمريكان كانوا يوثقون ممارساتهم بالصور والأفلام لأنهم لم يكونوا يعتبروها جريمة.
وفي إطار الحديث عن الأمر الثاني، وهو غياب الثوابت فإن العلمانية لا تعتمد على نصوص، ولا ثوابت، بل تعتمد على فكرة غاية في البساطة، وهي مرجعية اللذة للفرد، ومرجعية المنفعة للجماعة. ومهما حاول المدافعون عن العلمانية، فلن يجدوا فيها ثوابت غير اللذة والمنفعة، ولن يتمكنوا من إضفاء أي نوع من أنواع الأخلاق والقيم والروحانيات عليها.
ويلخص الدكتور المسيري رحمه الله هذا المعنى بعبارات دقيقة تربط انعدام الأخلاق برموز الفكر العلماني، يقول المسيري في كتابه "اليهودية والصهيونية" تعليقا على كلام نيتشه: " بعد موت الإله، لا داعي للتمحّك في ظلاله كما يقول نيتشه، فلا داعي للقول بالأخلاق، أو المساواة بين البشر، أو القيم، أوالغائيّات، والتمحّك هو عمل جبان غير قادر على قبول وضع الإنسان في عالم بلا قيمة غائيّة، وفي وجود عرضِي زائل لاقيمةِ له، لذا رحب نيتشه أخيرا بالعدمية ".
والعلمانية ليست شكلا واحدا، لأن اجتهادات البشر في تحقيق اللذة والمنفعة واسعة وتتفاوت مع الثقافة العامة والتجربة التاريخية والإرث الديني وحجم وموقع الدولة أو المجتمع. ولهذا؛ فإن الطيف العلماني يمتد من النازية والشيوعية المتطرفة، إلى الديموقراطية الغربية الحالية بنسختها الليبرالية التي يفترض أنها "تحترم" حقوق الإنسان.
ويؤكد المسيري رحمه الله أنه بهذا الفهم للعلمانية، فإن النازية التي نجحت في تضخيم الكفاءة، والتخلص من العقبات التي تقلل الإنتاج، وتطهير المجتمع من العناصر عديمة الفائدة، تعتبر أكثر أنواع العلمانية صدقاً في تمثيل الفكر العلماني. والمدقّق في الفكر العلماني يكتشف أن تطور مفهوم حقوق الإنسان، واحترام الأقليات، إنما كان نتيجة قناعة بأنه جزء من مصلحة الجماعة، وليس انطلاقا من قيم وأخلاق وروحانيات. كما إنه ليس مفاجئا أن يتفق الفكر العلماني (الليبرالي) بشكل غير مباشر مع مفهوم الإبادة، والتطهير العرقي للشعوب الأخرى والاستيطان في أراضيها حتى مع زعم احترام حقوق الإنسان.
ولهذا فقد لاحظ المفكرون مفارقة ذكية وهي أن القوى الغربية التي اعتبرت إبادة اليـ هـ و د في ألمانيا جريمة، إنما تخلصت منهم بطريقة أكثر خبثاً هي إنشاء دولة في فلسطين، وتعريض شعب آخر للتشريد والقتل والمعاناة من أجلهم، وهو الشعب الفلسطيني. وكما قال المسيري في كتابه (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة): "العلمانية زوّدت الإمبريالية الغربية بإطار نظري، لإبادة الملايين باسم العرقية المادية، والبيولوجية الداروينية. فظهرت اليد الخفية عند آدم سميث، و المنفعة عند بنتام ووسائل الإنتاج عند ماركس، و الجنس عند فرويد، وإرادة القوة عند نيتشه، و قانون البقاء عند داروين، و الطفرة الحيوية عند برجسون، والروح المطلقة عند هيجل".
وكلما تعمّق الباحث في تحليل الظاهرة النازية كلما لاحظ مدى اتساقها في الإطار العلماني وانسجامها مع مفاهيمه وجرأتها في إظهار كل أفكارها وتصرفاتها دون محاذير ولا مداراة محلية وعالمية. وهنا نقل آخر من الدكتور المسيري في كتاب (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) يتحدث فيه عن نماذج من الكفاءة الخارقة في العهد النازي:
"في عام ١٩٣٣ أصدر النظام النازي قانون التعقيم لمنع المرضى من التكاثر وطُلب من كل طبيب أن يبلّغ عن كل مولود جديد معوق، وبدأت عمليات "القتل الرحيم" طبقا لمشروع T4 وقُتل بالفعل ٧٠ ألف معاق وعاجز لأنهم (يأكلون ولا ينتجون)، وحسب الإحصاءات الألمانية فإن قتل هؤلاء أدى إلى توفير ٢٣٩ طن من المربى في عام واحد فقط!!
قام الأطباء النازيون في معسكر الاعتقال الشهير "بوخنفالد" وغيره من المعسكرات بعمل تجارب طبية على المعتقلين في الدولة النازية، مثل تَعريضهم لغرف تفريغ الهواء لمعرفة كم يستطيع الإنسان أن يمكث حتى يموت، وتعريضهم لغازات سامة لمعرفة مدى فاعليتها والتركيز المطلوب لإحداث الوفاة، وقاموا بعمليات جراحية بدون تخدير لمعرفة درجات الألم ومسارات الأعصاب.
وكان أحد الأطباء يُعرّض مرضاه للتجميد، لمعرفة الفترة التي بعدها يموت الإنسان، ودرجة التجمد الكافية للموت، وبالفعل أكد الدكتور راشر العلم بطرق كثيرة لإطالة حياة الطيارين الذين يسقطون في المياه المتجمدة، وكان أُسلوب العمل هو تجميد السجناء تدريجيا مع متابعة النبض والتنفس والحرارة وضغط الدم بانتظام، وقد مات أغلب من جُرّب عليهم، والباقون أصيبوا بلَوثات عقلية و أُبيدوا بعد ذلك.
أُجريت في ألمانيا النازية تجارب زرع الغرغرينة في الجروح، كما حُقنت بالميكروبات لمعرفة الأسرع فتكا، وأشرف الدكتور "جوزيف منجل" على تجارب كثيرة أشهرها تجربة التوائم، وقد ذكر الكاتب والكيميائي المشهور"بريمو ليفي" وهو أحد الناجين من معسكرات الاعتقال أن ألمانيا النازية هي المكان الوحيد الذي كان بوسع العلماء أن يدرسوا فيه جثتي توأمين قُتلا في نفس اللحظة.
والنتائج التي توصل إليها العلماء النازيون هي نتائج فريدة، لم تتح لِغيرهم، وقد وفرت الفترة النازية كمية عملاقة من المعلومات الطبية في كافة المجالات، ودار جدل كبير بين العلماء بعد ذلك حول جواز استخدام تلك المعلومات أم لا، احتراما للذين ماتوا بسببها ."
هذه النماذج التي ذكرها المسيري والموثقة في تاريخ النازية لا تختلف كثيرا عن ربط الجزائريين في محيط تجارب القنابل النووية في صحراء الجزائر، لكن هتلر المهزوم سَهُلَ انتقاده وتجريمه والغرب المنتصر صار معصوماً.
والنماذج العلمانية في الديمقراطيات الحديثة إنما اضطرت لاحترام الأخلاق والقيم بسبب التوازن التدريجي الذي فرضته المنفعة العامة وليس بسبب تقديس الأخلاق والقيم. بمعنى أن التجربة البشرية التي كانت في فورة الثورة اللادينية، كانت بحاجة لتداعيات وردود أفعال بُني عليها تدريجيا بعد سلسلة من تجارب القانون والحكم مما أدى إلى تفادي الضرر، وتحقيق المنفعة المطلوبة. هذه التجربة هي التي قادت لاحترام الأخلاق والقيم في إطار معين، وليس لأنها ذاتها مقدسة وثابتة.
وحتى الجزء الأهم من الديمقراطية وهو تمثيل الشعب في اختيار الحاكم ومجالس البرلمان في طريقه إلى الفوضى بعد موجة الشعبوية التي اجتاحت أمريكا وأجزاء من أوروبا والعالم. وسيكون زوالها من خلال الديموقراطية نفسها، حيث ينتهي الاتفاق على تقديس الاختلاف في الرأي ويصل مقاعد البرلمان وكرسي الحكم من يصيغ قوانين جديدة تلغي قيم الحرية والكرامة والعدالة.
وأسوأ من ذلك يصل لمقاعد البرلمان فريقان من الأعداء فيتحول البرلمان إلى منصة للصدام والدم بعد أن كان منصة للتفاهم وامتصاص الخلاف. ثم بعد ذلك يسود أحد الفريقين وينصب قائده حاكما مستبدا من خلال هذه المسيرة الديمقراطية. ومرة أخرى فإن السبب هو غياب الثوابت التي تمنع الديمقراطية من أن تنزلق في هذا الاتجاه. والذين يستبعدون مثل هذا التطور نذكرهم أن هتلر وحزبه النازي وصلوا السلطة عن طريق الديموقراطية.
هذه الشواهد على غياب الثوابت عن العلمانية لعلها تثبت أن النازية التي كانت تصرح بلا مبالاتها بالقيم والأخلاق وتقدس المنفعة وتبرمج الحياة على أساسها هي أصدق في تمثيلها للعلمانية من النماذج الأخرى التي تدعي احترام الأخلاق والقيم، لكنها لا تنظر لها كَثوابت.
وعودة إلى بداية الحديث، فإذا استحضر المراقب هذه الحقائق لن يستغرب من ممارسات الدول الغربية في دعم الصهاينة وقمع أي نشاط ضدهم. والعكس صحيح كذلك، فلن يكون مستغربا أن يتخلى الغرب عن الصهاينة وينقلب على إسرائيل إذا أحس أن الدفاع عنها خطر عليه وعلى مصالحه.