٢٩ رجب ١٤٤٥ هـ
هل يستعيد "الإخوان المسلمون" شبابهم؟
بقلم الدكتور سعد الفقيه
بين الماضي والحاضر
انطلقت حركة الإخوان قبل تسعين عاما بزخم كبير، ثم انتشرت في معظم العالم العربي وصار لها امتداد خارج العالم العربي، ونجحت في إنشاء مظلات ومؤسسات دعوية وخيرية مختلفة. وتمكنت الحركة خلال هذه الفترة من تربية الملايين من الكوادر وصناعة آلاف النخب والمختصين في علوم مختلفة ساهموا في إثراء الفكر الإسلامي وصدّ موجة التغريب وتوعية الشعوب بهويتها ومسؤولياتها.
وتفاوت نشاط الحركة في معظم الدول العربية بين الازدهار والانكماش تبعا للوضع السياسي والهامِش المسموح لها، وتماشيا مع تعامل الأنظمة الحاكمة مع نشاطها. وفي حين نجحت الحركة في تربية هذا العدد الضخم من الكوادر والنخب وصدّ الموجة التغريبية فإن أدائها على المستوى السياسي المتمثل في تمكين الإسلام كان محدودا أو لا يكاد يوجد.
وكان المتوقع أن تنتعش الحركة بعد الربيع العربي وبعد وسائل التواصل الحديثة لكن ما حدث هو العكس فقد انحسَر نشاط الجماعة وانكشف أنها مصابة بالشيخوخة وقد نخرت فيها المشاكل الداخلية وشعر الكثير من أتباعها أن مستقبلها مشكوك فيه مما أثر في ولائهم وهمتهم.
هذه النهاية للحركة لم تكن غريبة بعد ما ثبت من سهولة قمعها من قبل الأنظمة وعجزها عن تقديم إنجاز سياسي معتبر. والآن بعد هذا التآكل في كيان الحركة وذبول همتها وضَخامة المؤامرة ضدها، هل هناك من وسائل تعينُها على النهوض وتجاوز الصعوبات واستثمار الكوادر والنخب من أجل تحقيق إنجاز سياسي كبير؟
الإجابة نعم إذا عُرفت أسباب العجز والشيخوخة وتوفرت الجدية عند أصحاب القرار أو المؤثرين فيها على تنفيذ برنامج إصلاحي يخلصها من هذه الأسباب. ولا يمكن أن ينجح مثل هذا البرنامج إلا إذا جعل الحركة قادرة على استثمار كوادرها ونُخبها وتحصينها من أن تكون رهينة موقف الأنظمة الحاكمة، ولا يمكن أن ينجح مثل هذا البرنامج إلا باستثمار الحركة لكوادرها ونُخبها.
التنظيم والهوية والحزبية
الطريقة التي يسير فيها تنظيم الجماعة تعزلها عن بقية المجتمع حركيا وتجعل الخط الفاصل بين المنتمي للحركة وغير المنتمي خطاً واضحا، وكأنَ الحركة معزولة عن المجتمع وعن بقية الأفراد والجماعات الدعوية.
ولهذا فرغم احترام المجتمع لأشخاص الإخوان كأفراد بسبب خُلقهم وكفاءتهم إلا أن المجتمع ينظر لهم ككيان منفصل وكأن المجتمع قبيلة والإخوان قبيلة أخرى. والسبب الرئيسي في ذلك أن حركة الإخوان تعتبر النشاط الخارجي والدعوة (العمل العام) خادما للتنظيم (العمل الخاص) وليس العكس!، بمعنى أن الحركة تتحرك في نشاطها العام من أجل اقتناص الناس وإدخالهم التنظيم بدلا من أن يكون التنظيم نفسه خادما للدعوة وبقية النشاطات النافعة للمسلمين.
ولا يمكن التخلص من هذه الحزبية التي تعزل الحركة عن المجتمع إلا بقلب هذه المنهجية وجعل التنظيم (العمل الخاص) خادماً للنشاط الخارجي (العمل العام) أيا كان ميدانه. وهذا ما يسمى اصطلاحا بالعمل على طريقة "تيار" بدلا من "حزب".
والعمل بطريقة التيار يزيل الفواصل الواضحة بين الحركة والمجتمع فيصبح من المستحيل التفريق بين المنتمي وغير المنتمي سواء أمام المجتمع أَو أمام السلطة. هذا التغيير البسيط يؤدي إلى عدة نتائج تحدث تغييرا بنيويا في مسيرة الحركة نشير إلى بعضها:
أولا: يشعر بقية النشطاء في خدمة الإسلام غير المنتمين للحركة أنهم جزء من هذا التيار العريض مما يضاعف عدد المحسوبين على هذه الحركة في عين المجتمع.
ثانيا: من خلال هذا الذوبان في المجتمع تتشكّل حماية استراتيجية للحركة، لأن الأجهزة القمعية لا تدري أين ينتهي التنظيم وأين يبدأ العمل العام، فإذا توسعت في القمع حاربت كل النشاط الإسلامي في البلد، وإذا اقتصرت على من تظنهم من التنظيم نجا عدد كبير من المنتمين من الاعتقال.
ثالثا: تتمكن الحركة من اختراق كل ميادين المجتمع والدولة بهدوء ودون إثارة بما في ذلك الأجهزة الأمنية والعسكرية.
منهج الإخوان ومنهج الإسلام
طرحت حركة الإخوان من خلال أدبياتها الأولى منهجا مؤطّرا بكتابات وتوجيهات حسن البنا مثل الأصول العشرين والرسائل العشر وبيانات المؤتمر الخامس وغيرها. والإخوان لا يقدمون أنفسهم كجماعة خاصة ببلد واحد مثل مصر، ولا خاصة بزمن واحد مثل العشرينات الميلادية ولا خاصة بميدان واحد مثل التربية الروحية والسلوكية، بل يقدمون أنفسهم بصفتهم حاملين لراية الإسلام الشامل وساعين لتجديد رسالته بشمولها وعالميتها. وبذلك فإن المنهج الذي يرتَضونه يسري على من هم في مصر أو أي بلد آخر، ويسري على العشرينيات الميلادية والثلاثينيات وعلى القرن الحادي والعشرين، ويسري على قضايا العبادة والعقيدة والسلوك والسياسة والعلاقات الاجتماعية وغيرها.
إذا تصورنا الحركة بهذا الشمول وهذه العالمية فلا يمكن الحديث عن منهج غير الإسلام نفسه. لو قال الإخوان إن هذه الأصول ما هي إلا اجتهادات في شرح المعالم العامة في الكتاب والسنة وأنها مجرد كلام نكتبه اليوم ونعيد صياغته غدا لما كان هناك تعارض مع المنهج الإسلامي، لكن أن تصبح كتابات حسن البنا رحمه الله مقدسة على مدى أكثر من تسعين عاما فهذا يتعارض مع ادعاء أنها اجتهادات مؤقتة لمعرفة ثوابت الإسلام.
هذه الإشكالية في مسألة المنهجية أضافت لإشكالية الهوية المطروحة أعلاه وساهمت في ترسيخ الحزبية، كما انعكس تداخل المنهجية الإخوانية مع المرجعية الإسلامية على مواقف الجماعة تجاه التحديات السياسية والحركية وأدى إلى خلخلة واضطراب وربما تناقض في بعض الأحيان. وتجلى ذلك في موقف الجماعة من الأنظمة السياسية وموقفها من البرلمانات والانتخابات وموقفها من الجماعات الإسلامية والتيارات الجهادية وموقفها من الأحداث العالمية مثل حرب الخليج وأزمة أفغانستان والعراق وقضية فلسطين وثورات الربيع العربي.
وهذه الإشكالية يمكن تجاوزها بسهولة بالغة وهي عن طريق استبدال مصطلح منهج الإخوان بمصطلح الكتاب والسنة. وعليه فإن المرجعية النهائية لقرارات الحركة ومواقفها يجب أن تكون مبنية على ثوابت الكتاب والسنة، وأي تربية داخلية لكوادر الإخوان ينبغي أن تكون على مصادر متفق على مرجعيتها عند أهل السنة.
وفي هذا السياق لا بد من التفريق بين المنهج والسياسة، فالمَنهج يقصد به المرجعية في تحديد الصواب والخطأ في التلقي والفهم والتطبيق والاختلاف وهذا لا يُعرف إلا بالكتاب والسنة، أما السياسة فهي أن تلزم الحركة نفسها بحدود معينة مراعاة لظروف معينة أو تحاشيا لإشكالات وهذا اجتهاد بشري لا بد منه حماية لمسيرة الحركة. وعادة ما يلحق مفهوم السياسة بالاستراتيجية لأنه نابع من أركانها الثلاث التي ستذكر في النقطة التالية.
الاستراتيجية الغائبة
يفترض في أي جماعة أو مؤسسة أو شركة أن ترسم لنفسها استراتيجية تشتمل على أركانها الثلاث، الأول هدف شامل واضح يتم الوصول إليه بسلسلة من الأهداف المرحلية، والثاني معرفة القدرات والإمكانات سواء ما كان تحت السيطرة أو ما يمكن استثماره بشكل غير مباشر، والثالث معرفة المحيط والبيئة بما في ذلك المجتمع والنظام الحاكم والوضع العالمي. ثم من أجل تحقيق الهدف الكبير توضع خطة عامة بعد استحضار القدرات الذاتية والبيئة المحيطة تتضمن خُطوات مرحلية تستطيع بعدها الوصول لهذا الهدف.
وحركة الإخوان مر عليها أكثر من تسعين عاما، ولم تعلن لها أي استراتيجية، وكذلك لا يمكن أن يدعي أحد أن لها استراتيجية سرية لأن ملفاتها وأسرارها كُشفت على مدى تلك السنين. لكن هل كان هناك رؤية وتخطيط استراتيجي تلقائي يستطيع المراقب أو الباحث أن يستنبطه استقراءاً من خلال رصد تصرفات الإخوان وقراراتهم ومواقفهم؟
بعد مراجعة كل هذه التجربة لا يوجد في أطروحات الإخوان ولا ملفاتهم القديمة والحديثة ولا استقراءا ما يدل على مشروع تغيير مرسوم سلفا مبني على تخطيط تفصيلي بعيد المدى وفهم للذات والأحوال والبيئة والعالم. قد يقول قائل إن الإخوان طرحو إصلاح الفرد والأسرة والمجتمع والدولة وأن هذه هي استراتيجيتهم. ومثل هذه الإجابة تدل على جهل قائلها بمفهوم الاستراتيجية بأركانها الثلاث المعروفة، معرفة الهدف ومعرفة الذات ومعرفة البيئة. والنشاط الذي تقوم به الحركة وهو نشاط كبير في تفاصيله لكنه في الحقيقة ليس إلا دولاب مكرر لأساليب محددة معظمها قد وُضع أيام نشأة الحركة.
والحركة بما لديها من كوادر ونخب وانتشار عالمي وقدرات وإمكانات مادية ومعنوية وعلاقات متميزة تستطيع أن تحدث قفزة تاريخية هائلة لو أعطت هذه القضية ما تستحقه من اهتمام وبذلت جهدا في رسم استراتيجية علمية شاملة. وبالمناسبة فإن الإخوان لا ينقصهم خبراء في علم الاستراتيجية لكن نظامهم الداخلي -كما سيتبين في النقطة التالية- لا يسمح بحسن استثمار الكوادر أو وضعهم في المكان المناسب.
الإدارة العتيقة
خلال نشأتهم الأولى وضع الإخوان لوائح إدارية لتنظيم عملهم واختيار قياداتهم وضبط أدائهم، وكان وقتها نظاما يناسب الحال والمقام والظروف، بل كان في زمانه يعتبر أكثر تطورا من معظم التنظيمات الإدارية في المؤسسات والجماعات والأحزاب الأخرى.
لكن الإخوان بعد ذلك مرت بهم أحداث كثيرة وتغيرت أحوال العالم وتوسعت حركتهم وامتد نشاطهم مساحة ونوعاً وطبيعة. ورغم هذا التوسع والتغيير الهائل أصروا على نفس اللائحة القديمة ولم يوافقوا على تغييرها فيما عدا تعديل بسيط في بداية الخمسينات.
حصلت بعض التعديلات في أفرع الإخوان في الأقطار المختلفة لكن بقي الأساس الإداري واحداً ولذلك لم يتمكن الإخوان من عزل نشاطهم عن أفكار إدارية مر عليها تسعة عقود !!. هذا الارتباط بفكر إداري عتيق أدى بالضرورة إلى أن تحاصر الحركة نفسها بجدار من التخلف الإداري المرتبط باللوائح القديمة التي يرفض القائمون على الحركة تغييرها أو تغيير روحها.
وأخطر ما في تلك اللوائح هو أن النظام يمنع تجاوز الشخصيات القديمة في الحركة ويوفر الفرصة لسيطرة الحرس القديم بالكامل على الجهاز الإداري الأعلى للحركة. وهذا يعني أن النظام الإداري المصاب بالشيخوخة في جانبه الإداري التنظيمي سوف يصاب حتما بالشيخوخة في جانبه البشري، وقد حصل.
هذا الواقع الإداري أدى إلى إقفال الطريق أمام الإبداع الإداري والحيلولة دون وصول شخصيات حيوية مؤهلة إلى موقع صنع القرار ومنع تغيير اللوائح وتغيير أساليب القيادة وتوزيع الأدوار. وهذا بدوره أدى إلى ترسيخ الدولابية التي أشير إليها في نقاش الاستراتيجية مما أدى إلى تحول الحركة إلى ماكنة كبيرة متخمة بالقدرات غير قادرة على استثمارها أو التفاعل مع الأحداث بطريقة منتجة، وبهذا صار غياب الاستراتيجية نتيجة طبيعية لهذا التخلف الإداري.
قد يبدو الحل تجاه هذا الإشكال بسيط وهو مراجعة اللوائح وإعادة الهيكلة ووضع نظام جديد يستفيد من التطور العالمي الكبير في علم الإدارة وتوزيع القدرات واختيار القادة … الخ، لكن الواقع الإداري الحالي للحركة المصاب بالشيخوخة سيكون عائقا قويا أمام التغيير. وإذا لم يتغير النظام الإداري فلا أمل في وضع استراتيجية تستثمر القدرات والإمكانات، ولا أمل بتغيير في مفهوم المنهج والموازنة بين العمل العام والعمل الخاص، ومن ثم لا أمل بأي إصلاح في الحركة.
ما هو الحل إذن؟
ما دام تغيير النظام الإداري واللوائح هو المفتاح لتغيير شامل يبعث الحياة في جسد الحركة وما دام المتربعون على قيادة الحركة من الحرس القديم لا يدركون أهمية التغيير الإداري فلا مفر من تحرك خارج دائرة القيادة، يأطُر القيادة أطرا على التغيير أو يغيرها. ولن يكون مثل هذا التحرك سهلا بل ربما سيتحول إلى ما يشبه ثورة داخلية تتعرض لمقاومة شديدة من كل المحسوبين على الحرس القديم أو العاجزين عن إدراك أهمية التجديد.
ملاحظة
هذا المقال لم يناقش نشاطات الإخوان التفصيلية وإنجازاتِهم وإخفاقاتِهم وصَوابهم وخَطأهم سواء في مصر أو بقية الدول العربية، لأن هذه التفاصيل إنما هي نتاج ما تمّ طرحه من أساسيات في بناء حركة الإخوان ومنهجهم والتقويم الإداري والاستراتيجي.