top of page

١٠ صفر ١٤٤٥ هـ

هل يكون سنّيّا من لا يلتزم بثوابت أهل السنة؟ (٣): ماذا قالوا في المرأة؟

بقلم الدكتور سعد الفقيه

في الجزء الأول من هذا المقال عُرِضَت منهجيةُ تيارٍ يزعم الانتماء لأهل السنة وهو يخالفهم في بعض أو كل منهجهم في التلقي والفهم والتطبيق والاختلاف .. إلخ. وفي الجزء الثاني عرضنا عددا من المظاهر التي يشترك فيها معظم مَن يسلكون هذه المسالك. وفي هذا الجزء نفرد الحديث عن آثار هذه المنهجية على النظرة لقضية المرأة وحقوقها وعلاقتها بالرجل ودورها في الأسرة والمجتمع.


وبما أن مبعثهم في "تزوير" منهج أهل السنة هو الانكسار الحضاري أمام الغرب، فربما يكون من المفيد استعراض ما آل إليه الفكر الغربي في قضية المرأة، والذي يحاول كثير من هؤلاء ترويض الفكر السني من أجل أن يتفق معه.


التدرج الغربي في قضية المرأة:

انطلق الفكر الغربي من استبدال المنظومة المسيحية المبنية على مفهوم محدد للأُسرة والرجل والمرأة بالمنظومة العلمانية الخالية من كل الثوابت. هذا التمرد على نظام أسري عريق لم يكن ليحصل بقفزة واحدة، وكان له لا بد له من تدرّج.


بدأ هذا التدرج في أوائل عصر النهضة بمحاولة تعريفٍ جديد للمرأة في كينونتها البشرية بعد أن كانت مخلوقاً بمرتبة أدنى من الرجل تابعا له. بعد ذلك بدأت حملة في القرن التاسع عشر لتمكينها من بعض الحقوق المالية والحياتية التي لا تتعارض مع تماسك الأسرة. ثم انطلقت حملة أخرى في النصف الأول من القرن العشرين لإتمام مساواتها بالرجل من خلال الحقوق الثقافية والسياسية.


في ستينيات القرن العشرين اندلع ما يسمى بالثورة الاجتماعية والتي كانت أول تمرد على كيان الأسرة، وذلك باعتبار الرجل والمرأة كائنين منفصلين و علاقتهما الزوجية علاقة عقدية مبنية على المتعة والمنفعة المادية والنفسية. وصاحب ذلك ما يسمى بالثورة الجنسية المبنية على تجاهل كل الموانع والمحظورات الدينية والثقافية والاجتماعية في تصرفات المرأة والرجل. وهذا يسري على اللباس والمظهر والحركة والعلاقات والعمل وغيرها مما يقوّض مفهوم الأسرة من أساسه.


وفي الثمانينات تطور الحال إلى النسوية الحديثة التي تمثلت في السعي إلى مساواة بين الرجل والمرأة، ليس فقط في الحقوق والواجبات، بل في اعتبار المرأة ندّاً كاملا للرجل. ثم في بدايات هذا القرن تطرف الطرح النسوي "الأنثوية" إلى المطالبة بتغيير البنى الاجتماعية والثقافية والعلمية واللغوية والتاريخية باعتبارها متحيزة للرجل أو الذكر. وبعد أن كان هذا الفكر هامشيا صار هو الفكر السائد، وصاحبه الصعود السريع المتغول لظاهرة ما يسمى بـ"مجتمع الميم".


كيف شكك هذا التيار بنظرة أهل السنة للمرأة؟

التسلسل الغربي ليس له علاقة بنظرة الإسلام للمرأة طبقا لقواعد أهل السنة، ولم يكن المسلمون عموما وأهل السنة خصوصا بحاجة لإحداث ثورة ثقافية اجتماعية تتمرد على ثوابتهم حتى يصلحوا وضع المرأة. وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي أدى بهذا التيار لأن يلجأ للتزوير الفقهي من أجل مماهاة الطرح الغربي؟


السبب الأول هو ما أشير إليه في الجزئين السابقين من هذا المقال حول سبب نشأة هذا التيار، وهو الهزيمة الحضارية أمام الغرب، والانطلاق شعوريا أو لا شعوريا من مرجعية غربية في التعامل مع تحديات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هذا الانطلاق اشتمل عند هذا التيار ليس في الأسس الفلسفية فحسب بل حتى بعض التفاصيل التي شملت قضية الأسرة والمرأة.


السبب الثاني هو التراكمات الاجتماعية والعادات والتقاليد في المجتمعات الإسلامية التي ليس لها أصل ديني والتي تجرد المرأة من حقوق فرضها لها الشرع وتفرض عليها واجبات لا أساس لها. والمنظّرون لهذا التيار الذي نحن بصدده يبالغون في تَجريد الدين من هذه التراكمات فيَتجاوزون الخط الفاصل بينها وبين الثابت من الدين ويزيلون ما هو حقيقة من الدين نفسه. وتجاوزهم هذا ليس ناشئا من جهل لحدود هذا الخط بل هو ناشئ من حماسهم لمجاملة المشروع الغربي الذي انهزموا أمامه.


السبب الثالث هو الهيمنة الغربية سياسيا وفكريا وإعلاميا وثقافيا في العالم كله سواء في موضوع المرأة أو غيره، ولم يكن لأمثال هؤلاء المهزومين فكريا أن يصمدوا أمام هذه الهيمنة. والدليل على هذه الهيمنة أن شعوبا معروفة بعراقة نظامها الاجتماعي انغمست في المشروع الغربي بالانحلال الأخلاقي وانهيار الأسرة مثل روسيا واليابان والصين وأمريكا الجنوبية، حتى صارت المرجعية عندهم في دور المرأة في الحياة ووظيفتها الاجتماعية والحياتية في هذه البلدان لا تختلف عن وضع المرأة في الغرب.


هذه الأسباب أدت إلى عدة نتائج بدرجات مختلفة من تجاوزهم لمنهج أهل السنة في النظر لقضية المرأة سواء في قضية الحجاب واللباس وعلاقة المرأة بالرجل والعمل والحركة وتبوء مناصب قيادية أو غيرها.


الحجاب

في قضية الحجاب يتفق أهل السنة على حد أدنى من الحجاب ويختلفون في قضايا مثل تغطية الوجه واليدين ونوعية اللباس… الخ . والتزوير الأول لهذا التيار هو في نفي وجود رأي شرعي معتبر ورد ما يدل عليه من آيات وأحاديث وتبناه عدد كبير من الصحابة والتابعين وكبار العلماء في التاريخ الإسلامي مثل تغطية الوجه. ويبالغ هؤلاء في النفي إلى درجة إزدراء هذا الرأي والبراءة منه وادعاء أنه عادة بدوية صحراوية رغم أنه رأي معتبر وكان هو الراجح والمعمول به قبل التغول الغربي. والتزوير الأشد هو في السماح بالتخلي عن الحجاب كله لأسباب لا تصل ولا تقترب لمرحلة الضرورة. والعجيب أن كثيرا من هؤلاء لا يشك بأنه ينسب رأيه "بفخر" لأهل السنة.


المناصب القيادية

في قضية المناصب القيادية يخالف هؤلاء اتفاق أهل السنة على عدم تولي المرأة منصب الإمامة العظمى وينكرون بجرأة سافرة حديث ثابت في البخاري متفق على صحته. ومن أجل إنكار الحديث يغوصون في سنده ومتنه ظنّاً منهم أنهم تفوقوا على البخاري في تخريج الأحاديث. نعم يمكن أن يقول قائل أن هذا رأيه لأسباب تخصه أو لاستنتاج مال إليه، لكن لا يجوز أن ينسف رأيا اتفق عليه علماء أهل السنة ثم ينسب موقِفَه لأهل السنة.


العمل والاختلاط

في قضية العمل والحركة يتفق أهل السنة -بل ومذاهب أخرى- على تحريم الاختلاط بالمفهوم الحديث الذي غالبا ما يعني الاختلاط في العمل، وذلك لوجود عدد كاف من الأدلة الشرعية على تحريمه تحديدا حتى لو أُمنت الخلوة. أما أصحاب هذا التيار فلا يعتبرون الاختلاط مشكلة أصلا، ويعتبرون عمل المرأة مع الرجال في أي ظرف أمر طبيعي وأن المحرم هو الخلوة فقط. وينطلق هؤلاء في نظرتهم لعمل المرأة من نفس المنطلق الغربي الذي لا يرى فرقا بين دور الرجل ودور المرأة في مساهمتهم في التنمية والاقتصاد والسياسة وكل قضايا الشأن العام.


الشذوذ والظواهر الجديدة

كان لا بد لهذا التيار أن يتعامل مع الظواهر الجديدة المتفرعة عن النسوية المتطرفة والمُرتبطة بقضية المرأة مثل "مجتمع الميم" بعد أن كادت أن تسود كوضع أساسي في الفكر الغربي. صحيح أنهم لم يصلوا حد اعتبارها جائزة لكن بدأت أصوات داخل هذا التيار تتحدث عن أن مثل هذه التوجهات حرية شخصية لا دخل للقانون ولا للسلطة فيه وإثمها على صاحبها. ومتى كان أهل السنة يعتبرون ارتكاب الكبائر شأنا شخصيا لا دخل للسلطة فيه؟


أسس منهجية أهل السنة تجاه قضية المرأة:

وأمام هذه المظاهر من الانكسار أمام المشروع الغربي وتزوير مذهب أهل السنة لا بد من بيان أسس منهجية أهل السنة في التعامل مع قضية المرأة:


أولا: الأساس في معرفة كينونة ودور وحقوق وواجبات الرجل والمرأة لا يقرره الرجل ولا المرأة بل يقرره الشرع بالنص الثابت والاستدلال بمنهج قائم على قواعد أهل السنة.


ثانيا: تفسير النص الشرعي والاستدلال منه ليس حكرا على أحدهما بل هو حق للرجل والمرأة،

ولم يختلف العلماء في  جواز تصدي المرأة للفتيا والاستنباط والمناقشة الشرعية، وقد حصل ذلك من صحابيات ومحدثات وفقيهات في التاريخ الإسلامي.


ثالثا: لا يجوز للعالِم سواء كان رجلا أو امرأة أن يكون لجنسه ولا للتراكمات الاجتماعية والتاريخية دورٌ في الاستنباط والفتوى، بل يجب عليه التجرد الكامل حتى يكون استنباطه وفتواه نقيا من كل المؤثرات.


ومن هذا المنطلق يخرج أهل السنة بالنتائج التالية

١) للمرأة الشخصية الإنسانية الكاملة وتتحمل مسؤولية ذاتها وعقلها وعلمها وعملها أمام الله ثم أمام الناس.

٢) لها كل الحقوق الشرعية المفروضة للرجل إلا ما استثنُِيت منه بنص صحيح صريح.

٣) عليها كل الواجبات المفروضة على الرجل الا ما اُعفيت منه بنص صحيح صريح.

٤) لها حقوق مادية ومعنوية إضافية مقرّة شرعا تميزت بها عن الرجل.

٥) عليها واجبات مادية ومعنوية إضافية مقرّة شرعا تميزت بها وتتحمل مسؤوليتها.

وبعد


هذه ليست إلا نماذج من رؤية هذا التيار للمرأة مع بقاء زعمهم الانتماء لأهل السنة، بل ونسبة مواقفهم لأهل السنة. ولا شك بقي الكثير من الحديث عن كينونة المرأة وعلاقتها بالرجل ودورها في الأسرة والمجتمع ربما تتوفر الفرصة للتوسع فيه لاحقا.

bottom of page