top of page

٢١ صفر ١٤٤٦ هـ

هل يمكن استشراف المستقبل؟

بقلم الدكتور سعد الفقيه

الحركة البشرية والأحداث الهامة في التاريخ ليست خبط عشواء بل هي خاضعة لسنن الله في المجتمعات والأمم، "فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا". قد لا تصدق التنبؤات بتفاصيل الأحداث القادمة، لكن يكاد العارف بالتاريخ وسنن الله في الأمم والمتأمل بعمق في الواقع المحلي والعالمي أن يرسم مشهداً عاماً للمستقبل فيه درجة عالية من الدقة. 


في هذا المقال محاولة لهذا الاستشراف العام مبنية على استحضار التاريخ وتصور الواقع الحالي وعرضه على القواعد السُنَنِيّة والتاريخية. واستشراف المستقبل بناء على معرفة السنن والتاريخ ليس من علم الغيب ولا التنجيم، بل هو شبيه بمعرفة نتائج التفاعلات الكيميائية وسير الكواكب وأوقات الخسوف والكسوف المبنية على قوانين ثابتة لا تتغير. 


الحكومات قبل وبعد الثورة المضادة وتأثير ذلك على المستقبل

رغم استبدادها و اهتمامها بأمن السلطة وقمعها للمخالفين كانت الحكومات العربية قبل الربيع العربي مسترخية لا تعيش هاجس الثورة والتمرد. ولهذا كانت الحكومات قادرة على إيهام الشعوب أنها تهتم بما يحتاجه المواطن من تسهيلات المعيشة والخدمات والأمن. 


وكانت الحكومات تسمح بهامش من الحرية تمتص به الغضب الجماهيري وقد نفعها ذلك فعلا وأطال مدة بقائها لعقود. وفي نفس السياق كانت الحكومات -ما عدا الحكومة التونسية- تتحاشى استفزاز الشعوب في ثوابتها الدينية والأخلاقية وتنفذ برامجها المعادية للدين والقيم بتدرج وتحايل يمنع هذا الاستفزاز. ولنفس السبب كانت الحكومات تمارس دورها الخياني في خدمة المشروع الصهيوني بطريقة لا تلفت الانتباه ولا تستثير الشعوب.


بعد الثورة المضادة صارت الحكومات متفرغة تماماً للقمع، واستحوذت حماية السلطة على حصة الأسد من جهد السلطات على حساب راحة الناس ومعاشهم وخدماتهم وأمنهم الجنائي والفكري والقومي. ولهذا صار إرهاب المواطنين وهاجس الخوف من القمع هو المسيطر على الشعوب بدلا من القناعة أنهم محكومون بسلطات تؤمن الحد الأدنى من واجبات السلطة.


من جهة أخرى لم تعد الحكومات بعد الثورة المضادة تبالي في خرق الثوابت الدينية والأخلاقية، وصار استفزاز الشعوب في هويتها وقيمها هو الأساس في برامج هذه الحكومات، بل أعلنت بعض الحكومات صراحة أن خصمها الأول هو من يرفع راية الدين. وفي نفس السياق لم تعد الحكومات تراعي شعوبها في التصريح بخدمتها للمشروع الصهيوني والسباق بينها فيمن يخدم إسرائيل. 


هذه الطريقة في الإمساك بالسلطة المعتمدة بالكامل على القمع المطلق وتحدي الشعب  في ثقافته وهويته والتصريح دون خجل بالتبعية للأعداء لا شك عمرها قصير وسوف تتسبب في سقوطٍ مدوٍّ لهذه الأنظمة مهما بدت متماسكة ومستقرة.


مستقبل النخب الإسلامية 

حين انطلق الربيع العربي ثم تلته الثورة المضادة فضح النخب المصطنعة والقيادات الاجتماعية التي تدور في فلك الحكام أو تجاملهم، ورفع رموزاً جديدة لم تكن عُرفت من قبل. شمل هذا التغيير كل أنواع النخب من علماء دين إلى مثقفين إلى أعيان وأكاديميين وغيرهم. ولذا تلوثت أسماء علماء ومثقفين وأعيان كان يشار إليهم بالبنان ويتصدرون الإعلام والمجالس، وارتفعت أسماء لم تكن عُرفت من قبل.


والتحديات التي صنعتها الأحداث بعد الربيع العربي والثورة المضادة والتي آخرها أحداث غزة ساهمت في مزيد من التمحيص لبيان المعادن التي تنجح في الاختبار وتستحق الترميز أمام الشعوب. ومن صفاقة السلطات الحاكمة أنها لم تعد كما كانت من قبل حريصة على إيجاد شخصيات تتظاهر أنها مستقلة تخدع بها الشعوب وصارت تصر على رموز مكشوفين في خدمة السلطة على حساب الدين والمبادئ مما ساهم في حالة الاستقطاب بين الشعوب والسلطات.


مستقبل الجماعات الإسلامية

هيمن على المجتمعات خلال الفترة الرتيبة قبل الربيع العربي عدد من الجماعات والتيارات الإسلامية، واستحوذت على النشاط الاجتماعي، وبقيت تتنافس فيما بينها ردحا من الزمن. وانحصرت كل محاولات الاستشراف السابقة لحركة المجتمعات داخل حسابات تفوّق جماعة أو تيار على جماعة أو تيار آخر. وكان واضحاً أن هذا التنافس والصراع بين التيارات خاضع لنفس قواعد اللعبة السابقة تحت مظلة الحكومات والنظام الدولي القائم.


جاء الربيع العربي ليخلط الأوراق ويذيب تيارات كاملة وينشئ تيارات أخرى، ويفكك جماعات ويجمع شذرات بؤر اجتماعية في جماعة جديدة ويضعف توجهات ويقوي توجهات بدلا منها. ومن المعلوم أن شدة القمع حالياً تمنع ظهور النشاطات الجديدة على شكل تجمعات واضحة لكن الرصد الدقيق للوضع العام يعكس تشكل تيارات خلف الأفق سوف تظهر واضحة ومؤثرة في لحظة التغيير.


مستقبل الدول الغربية المهيمنة على المنطقة 

بقي الغرب متحكماً  في المشهد العالمي لقرون وبقيت الدول العربية في إطار سلطته قبل وبعد الربيع العربي. ورغم تحدي روسيا والصين وإيران لا يزال الغرب هو الآمر الناهي في المنطقة وصاحب التأثير الأقوى ولا تزال الحكومات العربية المهمة تمارس العبودية المطلقة لهذا الغرب. 


كان الغرب يعيش انسجاماً داخلياً رغم تعدد الثقافات والمناهج والرؤى لأن الغالبية الكبرى فيه كانت تؤمن بمقومات الحكم الرشيد المتمثلة في تقديس القيم العليا "الحرية والعدالة والكرامة" وتؤمن باحترام أهل التخصص والمعرفة والخبرة. وكانت الخلافات بين الناس مبنية على خلاف في البرامج والخطط مع إحسان الظن بالمخالف واعتباره مجتهداً مخطئاً وفي نفس الوقت حريصاً على مصلحة البلد وأمنه.


يتعرض الغرب حاليا لانقسامٍ اجتماعي وثقافي هائل سواء اتجاه القضايا الأخلاقية والدينية أو اتجاه مفهوم الهوية والانتماء. وإضافة لذلك انحسرت القناعة بالقيم الكبرى واحترام أهل التخصص وسيطرت الشعبوية والإثارة على المشهد العام. ونتيجة لذلك لم يعد كل طرف ينظر للطرف الآخر نظرة اجتهاد وحسن ظن، بل صار التخوين والتجريم هو الأساس. وتوسعت الفجوة بين الطرفين حتى صار الوسط الذي يساهم في التوازن صغيراً لا يستطيع ضمان استقرار النظام السياسي.


من جهة أخرى تفشى في الغرب كثير من الممارسات المخالفة للفطرة وتحولت مع الزمن إلى جزء أساسي من حياتهم الاجتماعية حتى وصلوا إلى مرحلة "أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون". وأي أمة تسود فيها هذه الممارسات فهي أحرى أن يصيبها دمار وهلاك وأنواع مختلفة من العقوبة الإلهية.


هذا التغيير الهائل في وضع الغرب سيدفعه لانشغاله بنفسه ويفقده القدرة على إقناع بقية العالم بتفوقه فضلاً على أن يحافظ على تحكمه بكثير من الدول وفي مقدمتها الدول العربية. هذا الانحسار في الهيمنة سوف يساهم مع عوامل أخرى في تغيير كبير في المنطقة ربما يجعلها هي القوة العظمى في المستقبل.


هل تحل الصين وروسيا محل الغرب؟

الحديث عن أن الصين وروسيا سوف تحل محل الغرب فيه اختزال وسذاجة لأنه يتجاهل المقومات التي استطاع فيها الغرب التفوق على مدى عقود بل قرون. قوة روسيا النووية و قوة الصين الاقتصادية لا تؤهلهُما لهيمنة مثل هيمنة الغرب ولا تجعلهما جاهزين لأن يحلها محله إذا ضعف نفوذه.


مستقبل إسرائيل والنفوذ الصهيوني

صحيح أن طوفان الأقصى كشف تهافتاً في المؤسسة الإسرائيلية وعجّل بتهاوي المشروع الصهيوني كله، لكن إرهاصات زوال إسرائيل كانت واضحة في السنوات الأخيرة يلاحظها كل متابع دقيق للشأن الإسرائيلي. أما بعد طوفان الأقصى فإن إسرائيل ليس لها خيار بعد حرب غزة إلا انتصار كامل أو هزيمة كاملة ويبدو أن الهزيمة الكاملة ليست بعيدة.


 إسرائيل الآن فيها انقسام لا مجال فيه للتصالح، وشعبها يعيش حالة رعب دائمة، وسمعتها في العالم دُمرت، واللوبي الصهيوني يفقد كل يوم مزيداً من نفوذه. ورغم الدعم المالي غير المحدود من الغرب والمؤسسات اليهودية في العالم فإن الشعب الإسرائيلي انشغل بالحرب إلى درجة عجزه عن  تسيير شؤونه اليومية من صناعة وزراعة وخدمات وهذا ما لا يتحمله شعب ظن أنه يعيش في جنّة. ولذلك يكاد يجمع المختصون بالسياسة الإسرائيلية والحركة الصهيونية بمن فيهم شخصيات إسرائيلية نافذة أن زوال إسرائيل قاب قوسين أو أدنى.


وزوال إسرائيل أو هزيمتها وانحسار نفوذ اللوبي الصهيوني يعني تغييراً هائلاً في المنطقة، والسبب هو أن كل التركيبة الإقليمية مبنية على أن إسرائيل قوية وأن الأنظمة العربية خادمة لها. وهذا يعني بالضرورة أن التغيير لن يكون في الوضع السياسي فحسب بل في عقلية وفكر وثقافة الشعوب التي تخلصت من الذل والتبعية الذي عشش فيها قرونا.


إيران والتطلع التوسعي

اجتهدت إيران بعد ثورة الخميني أن تكون قوة إقليمية كبرى ونجحت في ذلك بعد تنفيذ برنامج سياسي وعسكري واسع، وبعد أن أحسنت استغلال الأحداث مثل ١١ سبتمبر واحتلال العراق والربيع العربي. كما أتقنت إيران فنّ التعامل مع روسيا والصين لصالحها، وحققت نتائج كبيرة في استثمار الأقليات الشيعية في الخليج.


من جهة أخرى استغلت إيران خذلان العرب للمقاومة الفلسطينية ونجحت في استثمار ذلك لجعل المقاومة جزءاً من توازن قوتها مع النفوذ الإسرائيلي. هذا التوسع الذي سيطرت فيه إيران على العراق وسوريا ولبنان ونصف اليمن ودعم المقاومة الفلسطينية جعلها تلقائياً الوحيدة في مواجهة النفوذ الأمريكي الصهيوني في المنطقة.


هذه المواجهة أخذت طابعاً ساخناً في الفترة الأخيرة وكادت أن تتحول لحرب إقليمية أكثر من مرة وتم امتصاص الحدث. ويبدو أن التوتر أكبر من أن يتم امتصاصه في المستقبل والمواجهة لا مفر منها. 


ورغم هذا الدهاء الإيراني فإنّ إيران الثورة الخمينية ليس عندها مقومات البقاء لعدة أسباب. السبب الأول أن الثورة الإيرانية أقامت نظاماً سياسياً يعتبر في أصل الثقافة الشيعية غير شرعي، ولم يمكن إقامته إلا بتزوير حقيقي في الفكر الشيعي. السبب الثاني أن السلطة في إيران تحولت بسبب مشاكل بنيوية في المشروع الشيعي إلى عصبة معزولة عن الشعب الرافض لها، ولولا سيطرتها على كل المؤسسات الأمنية والعسكرية والإعلامية والمالية لما صمدت. لهذين السببين وربما غيرهما فإن النظام الإيراني لن يبقى سواء اندلعت مواجهة مع إسرائيل وأمريكا أو لم تندلع. 


البؤر الساخنة 

رغم الثورة المضادة لم يتمكن الحكام ولا سادتهم الغربيون من منع تكوين بؤرٍ خارجة عن سلطة الحكومات وفيها استقلالية في السلاح والتعليم والتربية والنظام الاجتماعي بل في بعضها حتى القانون والنظام. في اليمن وسوريا وليبيا مناطق كثيرة غير خاضعة للأنظمة وفيها طاقة كامنة لأن تتحول إلى قوة هائلة لو تعرّض النظام الإقليمي للتفكك أو انشغل الغرب بنفسه أو اندلعت حرب إقليمية.


هذه البؤر رغم مساحتها الصغيرة وإمكاناتها المحدودة ربما تصبح نواة يجتمع عليها كثير من المخلصين الصادقين من المناطق الأخرى فتتحول إلى قوة جبّارة في وقت قصير. بل إن التاريخ يؤكد أن مثل هذه البؤر هي التي تسبب قفزات في التغيير التاريخي وتنقل الأمة نقلة كبيرة من حال الضعف والاستكانة إلى حال القوة والعزة.


مستقبل الكيانات والدول 

رغم ما بُذِلَ لترسيخ مفاهيم الوطنية والقطرية لا يزال الانتماء المرتبط بها مفتعلاً شكلياً جاهزا للانحسار في لحظة سقوط الدول.  وحين انطلق الربيع العربي في تونس ثم مصر وليبيا وسوريا واليمن كانت قلوب العرب والمسلمين كلها معهم كما لو كان الحدث يجري في بلادهم.  والوجدان العربي مهيأ لتجاوز الحدود وظهور تكتلات أو اتحاد دول في دولة واحدة خاصة إذا جاء التغيير نتيجة حرب إقليمية كبرى.


هل نُكافأ بجهد المصلحين أو نعاقب بتَسلط الظلمة والفاسدين؟

سنة الله في الأمم تؤكد أن الأمة التي تتأخر في رفع الظلم وإزالة الفساد والطغيان سوف تتعرض حتما لعقوبة إلهية تطول أو تقصر بقدر سكوتها أو تأييدها للظلم والفساد. والسنن تؤكد كذلك أن وجود الساعين للإصلاح الحريصين على رفع الظلم وإزالة الفساد وتقديمهم التضحيات لأجل ذلك يمنع العقوبة الإلهية أو يقللها.


لا شك أن الظلم والفساد والطغيان وصل إلى مراحل متقدمة في منطقتنا، وفي نفس الوقت قدّم الكثير من المصلحين التضحيات وتعرضوا للسجن والقتل والتشريد وأشكال كثيرة من المعاناة، ولهذا فإن النتيجة ربما تكون مركبة من هذين العاملين. وهذا يعني أن الشعوب ربما تأخذ نصيبها من العقوبة الإلهية بسبب الظلم والفساد، ثم يؤول الأمر في نهاية المطاف لأهل الخير مكافأة على جهود المصلحين، لكن بعد دفع ثمن باهضٍ.


السيناريوهات

المهم في استشراف المستقبل في هذا الطرح هو النتائج، وهذه النتائج المتمثلة في سقوط الأنظمة العربية وصعود الشعوب وظهور نخب أكثر صدقاً وجماعات أكثر كفاءة وزوال إسرائيل والنظام الإيراني تكاد تكون محتومة أيا كانت آلية التغيير ومسار التحولات. هذا هو  الاستشراف العام أما تفاصيل الأحداث فهي عرضة لاحتمالات كثيرة لكن الحرب الإقليمية وتداعياتها هو الأرجح والله أعلم.

bottom of page