١١ شعبان ١٤٤٤ هـ
أسئلة صعبة حول السُّنن الكونية (2)
بقلم الدكتور سعد الفقيه
تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن مفهوم السنن الكونية، وكيف خُدم هذا الموضوع من قبل علماء المسلمين، وأن هناك مجموعة من الأسئلة حول موضوع السنن قد تبدو مُحيِّرة، وبحاجة إلى التوضيح والتبيين؛ لأنها مبنية على انطباع أوَّلي بمخالفة أحداث وظواهر ونصوص لهذه السنن. وتناولنا في الجزء الأول بعض هذه الأسئلة ونسوق في هذا الجزء مجموعة أخرى لاستكمال الصورة.
ما هي العلاقة بين القدَر وتقدير الأمور بالكيفية التي أرادها الله -سبحانه-، وبين موضوع السُّنن؟
القدر والسنن الكونية مترابطان بصورة تلازُمية؛ لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، فعِلمُ الله وكتابته ومشيئته وخلقه لا يُستثنى منها شيء من حوادث البشر ولا بقية المخلوقات، لكن لا بد من التفريق بين أمرين:
الأول: القدَر السببي "السُّنَني"؛ وهو السنن والنواميس ذاتها، سواء للإنسان أو بقية المخلوقات، وسواء للفرد أو المجتمع والدولة، فأي عمل أو تفاعل أو حدَث سينتهي الأمر به إلى تلك النتيجة المتوقَّعَة طِبقًا لهذه السنن، وهذا متحقِّق على كافة الأفراد والجماعات والدول والأُمَم والجن والإنس، ومتحقق في بقية المخلوقات من حيوانات وجمادات وكواكب ونجوم ومجَرَّات، فالنتيجة مرتبطة بأسبابها طِبقًا لهذه السنن.
الثاني: التقدير النهائي من عند الله سبحانه، الذي أوجدَ النواميس مثلما خلق الكون، فمَن هذا الذي يُلزِمه سبحانه بالناموس الذي أوجدَه هو؟ والله سبحانه قادر على أن يستثني في المعجِزات فلا تتحقق السنن بنفس السائد في الكون، ولذلك فإن الكتابة الإلهية النهائية للأقدار قد يكون فيها نتيجة مختلفة عن النتيجة المتوقَّعة من هذه النواميس. فحبْسُ الشمس لنبي من الأنبياء وفًلقُ البحر لموسى وإحياء الموتى لعيسى؛ كلها من الخوارق الخارجة عن نظام النواميس.
ومثلُها كذلك الكرامات واستجابة الدعاء؛ فمثلًا قد يكون أحدُهم مسافرًا بسيارته، وكان محتَّمًا عليه الوقوع في حادث بسبب بعض المعطيات المادية والمعايير الفنية، ولكن لحكمةٍ ورحمةٍ من الله قُدَّر لهذا المسافر غيرَ ذلك، وكُتب له السلامة لقُربةٍ أو لعملٍ صالح أو نحوهما فلم يحصُل له ما كان مُقرَّرًا عليه في السنن، أو حصل له الحادث على نحوٍ مُخفَّف بالرغم من أنه وَفقًا للمعطيات الكونية من المفترض أن يحصُل له الحادث على نحو جسيم.
ولعل هذا مصداقُ قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، ولعله كذلك ما يُقصَد من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» يعتلجان: أي يتصارعان، فقد يتغلَّبُ الدعاء على القدَر بمعنى النواميس الماضية في المخلوقات، لكن لا يتغلب على ما كُتب في اللوح المحفوظ ؛ فمثلًا: كُتِب في اللوح المحفوظ أنَّ فلانًا من المسلمين يُشفى من وباءٍ ما لكن القانون الساري بين الناس أن هذا الوباء مُميت، لكن بدعائه ورُقْيَته وصَدَقته وإحسانه عافاه الله تعالى من هذا القدَر.
فهذا هو الفرق بين السُّنن الكونية التي هي التقدير الإلهي لمُجريات الكون ووقائعه وأحداثه بأسبابه ونتائجه على الأفراد والمجتمعات، وبين الاستثناءات التي سَبَبُها معجزة أو دعاء أو كرامة أو غيرها، وما يترتب عليه من كتابة نهائية في اللوح المحفوظ.
إذا كان النصر لا بُدَّ له من جِهاد؛ فكيف يكون المهديُّ سببًا مفاجئًا للنصر؟ وكيف تملأ الأرض جورًا وظلمًا ثم يُبعَث المهدي وكأنّ أثرَه سحرٌ يتغير بخروجه كلُّ شيء؟
هذا السؤال مُبَرَّر؛ لأن الأمة التي فشا فيها الظلم والفساد لا تستحق أن يُبعَث فيها قائدٌ يُصلِح أمرَها ويُحوّلها إلى أمة منصورة، فهذا خلاف ما نعرفه في سنن الله المذكورة في القرآن والسنة، والتي تمثَّلت في التاريخ كثيرا. لكن قبل الإجابة على السؤال لا بد من التأكيد على بضع نقاط عن النظرة للمهدي عند أهل السنة:
أولًا: ورد عن المهدي أحاديث كثيرة منها الصحيح ومنها الحسن والضعيف ومنها الموضوع، وكثير من المهتمين بقضية المهدي لا يُفرّقون بين هذه الأحاديث والروايات فيختلط عليهم الأمر. ولسْنا هنا في مقام استعراض كل الأحاديث، لكن بعد تتبع ما ثبت منها يتبين أنها تنسجم مع سنن الله وقوانينه في المجتمعات، وغالبًا ما يكون الذي يناقضُ السننَ والعقلَ هو ما كان ضعيفًا منها أو موضوعًا.
ثانيًا: كثرة الظلم والفساد في الأرض لا يمنع أن تكون هناك فئة صالحة مجاهدة ولو صغيرة بعدد يكفي لتحقيق السنة الربانية، ويكتُب الله لهم النصر وتمكين الدين وتستحق مثل هذه القيادة الموفقة، وإنما الذي لا يتفق مع السنن الكونية هو أن تكون أمة قد عمَّهَا الظلمُ والفساد ثم يُكتَب لها التمكين، فحتى مع وجود موسى عليه السلام وهو من أولي العزم ولديه كل صفات القيادة لم يُكتَب لبني إسرائيل في زمانه نصرٌ ولا تمكين لِما فيهم من الذل والعصيان.
والمهدي -أو أي قائد موهوب- لو ظهر للأُمَّة وهي على حالها اليوم من التردِّي والتراجُع والانحطاط والتخاذُل والعجز عن إزالة الظلم ودفعه ومقاوَمة الفساد والاستبداد؛ فلا فائدةَ من خروجه؛ لأن أُمَّةً بهذا الحال غيرُ جديرة بأن تُمكَّنَ وتقود البشرية، لكن إذا سعى المسلمون بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغيير فسيستحقون أن يخرج لهم مثلُ هذا القائد الفذّ، والدليل على ذلك أن الأمةَ ظهر فيها شخصياتٌ مؤهَّلة للقيادة وانتهى بهم المطاف إلى السجن والتنكيل والقتل والمطاردة.
وإشارة أخرى مهمة، وهي أن المهدي ليس المقصود به شخصيةً خياليةً أسطورية خرافية غامضة، أو أن خروجَه من العدم سيكون بصورة فُجائية ليقتحمَ الأغوار والمَفازات، وإنما هو إنسان طبيعي بقدرات قيادية، عَرَكَه الزمنُ وصقَلَتْه الأحداث حتى يتبيَّن أنه أهلٌ لقيادة المسلمين وجمعهم على كلمة واحدة.
ومَن أسهبَ في الحديث بالكلام المتكلَّف تَعلُّقًا بخرافة الخروج من الأزمة بخارقةٍ أو بمعجزةٍ من غير تناوُلٍ صادقٍ للأسباب الموجِبة للنصر والتمكين؛ فيُرَد عليه بمثل هذا الرد؛ لأنه لا يُمكِن لشخصية قيادية مهما كانت عظيمةً أن تكسِر نواميسَ الله تعالى وسُننَه.
وملاحظة ثالثة، وهي أن هذه الإجابة خاصةٌ بأهل السنة، الذين تنسجِمُ رواياتُهم مع السنن الكونية، أما الشيعة فهم مدرستان:
1- المدرسة التقليدية، التي تبالغ في اشتراط انتشار الظلم والجور والفساد لخروج المهدي إلى حد الاعتقاد أن زيادةَ الظلم والفساد مطلوبة للتعجيل بخروجه، وأن المساهمة في ذلك قُربة إلى الله.
2- ومدرسة ولاية الفقيه، التي تسير عليها إيران حاليًا، وهي قائمة على أنه لا بد من التوطئة لخروج المهدي بإنشاء الدولة الإسلامية التي يقودُها الوليُّ الفقيه الذي ينوب عن المهدي.
ومع اختلاف المدرستين في الظروف التي يخرج فيها المهدي؛ فإنهما متفقتان في وصفِهما لولادتِه قبل ألف عام تقريبًا وأنه على قيد الحياة، وعلى شخصيته الخارقة، والأحداث التي ستحصُل في زمانه، في تفاصيل يُقِرُّون أنها تتعارض مع السنن الكونية وثوابت التاريخ، لكنها من الخوارق والمعجزات.
كان جيل الصحابة أفضل الأُمَم بشهادة القرآن الكريم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، فكيف تسمح السُّنن الإلهية بالاقتتال بين مَن كانوا أفضل الأُمَم؟
مما يجب الانطلاق منه في الحديث هو أن الصحابة مع وصفهم بالعدالة فإنهم ليسوا معصومين، وقد صدر منهم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في معركة أُحُد ومعركة حُنين ما عاتبهم عليه القرآن.
قال سبحانه عمَّا جرى في أُحُد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، فهذا اللَّوم الرَّبَّاني كان حين ظهرتْ لديهم رغبةُ التعجُّل بالظفَر والغُنْم، وخالفوا التوجيهَ النبوي الصريح ونزلوا عن جبل الرُّماة.
فقد تكون مجموعة من الناس من خير الأُمَم، لكن التقصير والخطأ والزلل يظل قائمًا لطبيعةٍ بشريةٍ، وهي بالتأكيد مستحِقةٌ عقوبةً ربانية بقدْر التقصير والزلل.
وفي حُنين قال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}، فالصحابة بقيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أعجبتهم كثرتُهم ولم تُغْنِ عنهم هذه الكثرةُ شيئًا وَفَرُّوا كما قال سبحانه: {وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} ثم: {أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}، فبثبات النبي -صلى الله عليه وسلم- والقلة القليلة التي معه بارك اللهُ تعالى وقَلَبَ موازين المعركة إلى كِفَّة الفئة المؤمنة.
فحتى في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت هناك مخالفات استوجبَت النتائج المستحَقة، والصحابة -رضي الله عنهم- ليسوا منزهين عن الخطأ والزلل والتقصير، وليسوا خارج دائرة تحقُّق السُّنن الإلهية، بل تنطبق عليهم السُّنن كما تنطبق على غيرهم.
والذي منع اقتتالَهم وقت النبي صلى الله عليه وسلم هو وجودُه بينهم؛ لأنه معصوم يحسم الخلاف، فحينئذٍ لا مجالَ للاجتهاد أو لفهمَيْن متناقضين، نظرًا لتنزُّل الوحي المعصوم من السماء. لكن في غياب المعصوم فإن سائرَ البشر لديهم من القابلية للاجتهاد في المسألة على فهمَين أو أكثر، تبعًا لترجيح المصالح وطريقة تناول الأفكار والمواقف إلى الحد الذي قد يصل إلى رفع السيف!
وهكذا، فلعل الله أراد أن يَجري القتالُ بين الصحابة لسبب مرتبط بالتشريع لمَن خلفهم أحكامَ القتال بين المسلمين، وذلك لأنهم الرعيل الأول، والجيل الأقرب لمقام النبوة، والأكثر فهمًا للوحي حتى تستبين الأُمَّةُ من الأحكامِ الفقهيةِ والسياسيةِ ما لم تكن لتَعلَمَه لولا هذا الاقتتال، وهذا ما أشار إليه بعضُ علماء السلف الصالح بقولهم: "لو لم يخرُج ممَّا شَجَرَ بين الصحابة الكرام إلا أحكامَ البغي؛ لكَفَانَا".
وقد خرجت لنا أحكام البغي والاقتتال بين المسلمين وأحكام التعامل مع الخوارج والأحكام المبنية على كل ذلك، حيث لم يُكفِّر الصحابةُ بعضهم بعضًا ولم يَرمِ أحدُهم الآخرَ بالبدعة أو الخروج، مع أن كِلَا الفريقَيْن لم يختلف في الحكم على الخوارج.
وهنا ملاحظة وهي أن الصحابة رغم اقتتالهم لم يكن بينهم أحدٌ من الخوارج، ويؤكد هذا ما ثبت عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- حين قال للخوارج عندما بعثه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للحوار معهم: "أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَمِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصِهْرِهِ، وَعَلَيْهِمْ نُزِّلَ الْقُرْآنُ، فَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ"، وهذا من بركة تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- والتوفيق الرباني لهذا الجيل القرآني الفريد.
وبناءً عليه؛ فالقتال بين الصحابة لا يتعارض مع سُنن الله تعالى، بل أراد الله سبحانه للمسلمين أن يتعلموا ويستخرجوا من هؤلاء المُوفَّقِين الذين تربَّوْا على منهج النبوة كيفيةَ التعامل مع مَن رفع السيف على المسلمين وإن كان مسلمًا، وأن يُفرِّق المسلمون بين التكفير والتبديع والاختلاف السياسي، فالاختلاف السياسي شأن، والتكفير والتبديع شأن آخر.
ومن الأخبار الطريفة أن معاوية -رضي الله عنه- أحالَ بعضَ المستفتين إلى علي -رضي الله عنه- وقال لهم: هو أعلم مني، وورد كذلك أنه أخذ بقضاء عليّ في أحد المسائل، وقد أقر معاوية بفضل عليٍّ عليه، وبرّر موقفَه بأنه خلافٌ على قتَلة عثمان، وليس ادعاء أنه أفضل منه.
يقول الله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}؛ والسؤال هو: ألَا يتعارض هذا مع الشورى، ومع قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ»؟
والجواب هو أن المقصودَ بـ «أُمَّتِي» في الحديث أمة محمد، وهذا بالضرورة يعني ليس كل مَن في الأرض، بل العكس، فأُمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- قد تكون هي الأقلية في العالَم. وبهذا يتضح أنه لا يتعارض مع الشورى، إذ إنّ الشورى ليست لكل أُمَم الأرض، وإنما هي لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- سواءً كانت الاستشارة لكل شرائح المجتمع، أو لفئة مختارة منه في انتخاب الحاكم ونحوه، أو استشارة ممثِّلي الأُمَّة، أو النُّقَبَاء كما هو التعبير الشرعي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا"، وما يُماثِله اليوم من مجالس برلمان أو نواب.
والشورى -على كل حال- ليست لشعوب الأرض كافةً، وليست خارجَ دائرة الكيان الإسلامي. وهذه الأُمَّة لن تجتمع على ضلالة ما دام الكيان الإسلامي تحت سُلطة واحدة مستحقة للشورى.
وأمَّا قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} فهذا في أمر العقيدة عمومًا كالشرك والكفر ونحوهما، فمن سُنة الله -سبحانه- أن يكون الكافرون في معظم الأزمة أكثرَ من المسلمين عددًا، لكن هذا ليس ثابتًا في كل الأزمنة؛ فحين خلق الله نبيه آدم -عليه السلام- وتناسَلَ أبناؤه وأحفادُه وذريته استمرت البشرية حينًا من الدهر على الإسلام والتوحيد، وكان جميعُهم مسلمين، ولم يكن أكثر مَن في الأرض على الكفر ولا بعضُهم، بل كان جميعُ الخلائق مسلمين إلى أن بدأ الانحراف عن التوحيد بعد ذلك بعدة أجيال.
ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنبأنا بسيادة الإسلام في آخر الزمان سيادةً كاملةً مما يستحيل معه بقاءُ أكثر أهل الأرض في ذلك الزمان على الكفر، ثم يسودُ الكفر بعد ذلك "حتى لا يقال في الأرض: الله الله" كما في الحديث، فيكون المراد من الآية -والله أعلم- هو: إن تُطِع مَن مَرَّ في الأرض في غالب الأزمنة والعصور المتعاقبة منذ مَبعَثِ الخليقة وحتى قيام الساعة، فهنا يكون الكافرون أكثرَ عددًا من المسلمين. وننتهي بأنه لا تعارضَ البتَّة بين ما تقدَّم ومع خيرية الأُمَّة الإسلامية بمجموعها والشورى فيما بينها لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ».
هل ما ينطبق على الأُمَم ينطبق مِثله على الأفراد؟
الجواب له مستويان:
المستوى الأول وهو ما يصيب الفردَ بسبب ناموسٍ يجري على المجتمع، أو ما يصيب المجتمع بسبب ما يصدُر عن فرد، وهذا له أربع حالات:
١) أن يكون الفردُ مصلِحًا بجهده ودعوته والتأثير على الآخرين متعاونًا مع أمثاله من المصلحين قادرًا على منع الظلم والفساد ونشر المعروف، وتكون نتيجة ذلك أن كلَّ المجتمع يُحصَّن من العقوبة ويعيشُ عيشَ رغْدٍ وتمكين. {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}.
٢) أن يكون الفرُد ساعيًا إلى الإصلاح مجتهدًا في إزالة الظلم والفساد، لكنه رغم اجتهاده يبقى الفساد والظلم والبطَر فتحِلَّ العقوبة؛ ففي مثل هذه الحالة ينجو المصلح من العقوبة الشاملة؛ لأنه نهى عن السوء كما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}.
٣) أن يكون الفردُ صالحًا في ذاته وكارِهًا للظلم والفساد ويتحاشى أن يشارك فيه، لكنه لا يُسهِم في إزالته ولا يحاول؛ فهذا يشمله العذاب في الدنيا، لكن لعله يسلم من عذاب الآخرة؛ لأنه أدى مهمةَ الإنكار بالقلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "فمن كره فقد بريء، ومن أنكر فقد سلِم".
٤) أن يكون راضيًا عن الظلم والفساد أو مسهِمًا فيه بشكل أو آخر، فهذا والعياذ بالله يشمله عذاب الدنيا والآخرة، وهو من المقصودين بقوله تعالى: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}. وقوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}.
المستوى الثاني وهو ما يصيب الفردَ ذاته بسبب نواميس خاصة بفعلٍ ونتيجة مرتبطة به، وهذا له نَماذج يمكن استنتاجها من آيات وأحاديث كثيرة:
فمَن يُحقِّق التقوى بالمعنى الصحيح يُسخِّر له الله مخرجًا من أزمته ويسوقُ له رزقًا من حيث لا يتوقع. {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}.
ومَن يُحقِّق التقوى يُعطِه الله قدرةً على التفريق بين الحق والباطل: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم}.
والذي يبذل جهده في خدمة هذا الدين والدفاع عنه بصدق وأمانة ومسؤولية يهديه الله للطريق الصحيح ويثبته عند الفتن {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
ومَن يخالط الإيمانُ الصادقُ شِغافَ قلبه يرزقه الله اليقين والرضا والتسليم بقضاء الله {ما أصاب من مصيبة
إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم}
وفي الحديث نماذج أخرى من السنن منها:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقصتْ صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله"
وقوله: " إنك لن تدعَ شيئا لله عز و جل إلا بدَّلك الله به ما هو خيرٌ لك منه".
وقوله: "ثلاثةٌ أُقسِم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مالُ عبدٍ من صدقة، ولا ظُلِم عبدٌ مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزًا، ولا فتح عبدٌ بابَ مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر -أو كلمة نحوها-".
وقوله: "مَن سرَّه أن يُبسَط له في رزقه أو يُنسَأ له في أثره فليصل رحِمَه".
وقوله: "يُبتلى الرجلُ على حسبِ دِينِه، فإن كان في دِينِه صلابةٌ زِيدَ في بلائِه، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ خُفِّفَ عنه، ولا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ حتى يمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ".
وقوله: "مَن نفَّسَ عن مؤمن كُربة من كُرَب الدنيا نفَّسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّرَ على مُعسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة."
وقوله: "مَنْ لَزِم الاسْتِغْفَار جَعَلَ اللَّه لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مخْرجًا، ومنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ". رواه أبو داود.
وما جاء في الحديث: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكُّلِه لرزقكم كما يرزق الطيرَ تغدو خِماصًا وتروحُ بِطانًا".
وهذه ليست إلا نماذجَ من السنن، ومثلها كثير في الكتاب والسنة، وكلما ازدادتْ معرفةُ المسلم بها وحرص على استخدامها في ضبط دينه؛ كلما انسجمَ مع تعاليم هذا الدين، وأحس بالأمن والطمأنينة، وأنه هو وكل بني آدم وكل المخلوقات وكل الأكوان في ميدانٍ واحدٍ تحت سلطان الله ومشيئته وتقديره.
راجع كذلك: أسئلة صعبة حول السنن الكونية (١)