top of page

١٣ جمادى الآخرة ١٤٤٦ هـ

كيف تضمن الثورة التمكين؟

بقلم الدكتور سعد الفقيه

نجحت الثورة في سوريا في إزالة الطاغية ونظامه، وهذا الإنجاز العظيم لا بد أن يتبعه نجاح في التمكين والقدرة على تحقيق الأهداف الاستراتيجية للثورة. وبعد دراسة كثير من الثورات (1) على مدى التاريخ تبين أن هناك محاذير حساسة وخطيرة ينبغي أن توضع بعين الاعتبار لأجل تحقيق التمكين بمهارة وجدارة.


الحبل الرفيع بين الثوابت والمرونة

تواجه أي سلطة جديدة تحمل الراية الإسلامية حصاراً عالمياً غير معلن لمنع تطبيق الطرح الإسلامي الشامل، ومؤامرة لمنع تمكين المسلمين الصادقين من سلطة سياسية حقيقية خاصة إذا كان البلد قريباً من الكيان الصهيوني. هذا الحصار يشارك فيه الشرق والغرب، بل كثير من الدول التي تسمى إسلامية، وأثره فاعل وخطير، وقد نجح في إفشال محاولات كثيرة أو جعلها محدودة التأثير.


والسعي لدرء هذا الخطر بالاستخدام الأقصى للهوامش التي يسمح بها الإسلام أمر مشروع بل واجب، وفي نفس الوقت ينبغي أن لا يتجاوز هذه الهوامش فيقوّض الثوابت والمسلّمات. هذا المسار الحذر على الحبل الرفيع في توازن حساس بين الهوامش والثوابت ينبغي أن يُتقن إتقاناً كاملاً ولا يترك فيه مجال للخطأ. والاستغناء عن هذه الهوامش سيدخل التجربة في مواجهة حتمية مع النظام العالمي والإقليمي، والتساهل في الثوابت إزالة للبركة وتضييع للهدف وخيانة للتضحيات التي كان لها الدور بعد الله في هذا التمكين.


وضمان السير بأمان على هذا الحبل الرفيع يتحقق بثلاث شروط،  الأول إخلاص النية لله والاستعانة به بتوكل صادق، والثاني الاستحضار الدائم للخريطة الشرعية التي فيها مسار هذا الحبل الرفيع، والثالث الاستفادة القصوى من أهل العلم والرأي والمشورة والخبرة والتجربة من الذين يعرفون حيل السير على هذا الحبل الرفيع. (2)


الحبل الرفيع بين كبح المتحمسين وإرضاء المتساهلين

بعض المتحمسين يعتبر التوقف لأجل التمكين تقصيراً وجبناً وركوناً إلى الدنيا ويصرّون على الانتقام والتطهير وتجاوز الحدود لفتح الفتوح. ومسايرة هؤلاء في رغباتهم تهوّر وإلقاء بالنفس في التهلكة، لكن السيطرة على مشاعرهم ينبغي أن لا تكون بالإجبار والقهر لأنهم يعتقدون أن مساهمتهم في تحقيق النصر تعطيهم شرعية في فرض رأيهم وتحقيق رغبتهم، ومن ثم فإن إلزامهم بالقوة ربما يبعث روح التمرّد في صفوف كثير منهم مما يشق الصف ويحدث الفتنة. ولذلك لا بد من اللجوء إلى حيل نفسية فعّالة في كبح جماحهم بدلاً من الاكتفاء بالأمر والنهي.


في المقابل يريد الكثير من الناس أن يعيشوا رغداً ونعيماً غير مدركين أن استكمال أركان التمكين أصعب من إزالة الظالم. ولهذا لا بد في كل مراحل التمكين من إبقاء روح الثورة وجذوة النضال مستمرة وإشعار الشعب كله أن الخطر مستمر وأن التساهل مع التحديات سيعطي شرعية لإلقاء الوطن في حضن طاغية آخر. (3)


درء خطر القوى العالمية

يعيش العالم حالياً تحت نظام عالمي فعّال وقادر على خنق من يصطدم معه. ورغم تعدد الأقطاب في العالم ألا أنّ الجميع متفق على حصار أي تجربة سياسية إسلامية صادقة. وكان سوء تدبير تيارات سابقة في الغلو والتساهل في سفك الدماء والغباء السياسي قد أعطى النظام العالمي ذريعة لتصنيف أي تجربة إسلامية امتداداً لتلك التيارات، ومن ثم تبرير حصارها أو الحرب عليها.


والدول المتربصة بالمشروع الإسلامي قوية في قدراتها العسكرية والمالية والإعلامية، وأخطر من ذلك قدراتها السياسية التي تمثلت في تحكمها بالدول التي تسمى إسلامية، بل وتحويلها إلى قوى معادية لأي مشروع سياسي إسلامي. وبما أن التمكين الحقيقي والقدرة على الدفاع عن البلد لا يمكن إلا بتحييد هذه القوى العالمية فإن هذا التحييد أمرٌ مشروعٌ حتى لو استدعى تقديم بعض التنازلات التي لا تخرق الثوابت. والتحدي في هذه القضية ليس فقط في اتخاذ القرار السليم بل في إقناع الشعب عموماً والعصبة الثائرة خصوصاً أن المصلحة في هذا القرار كي لا يكون القرار سبباً في فتنة وخلاف.


المجاملة في الكلام والحذر في التطبيق

تستدعي قواعد السياسة الحالية في العالم درجة عالية من المجاملات السياسية التي تعارف العالم على أنها كلام استهلاكي ليس له من الحقيقة إلا القليل. وهذا في الحقيقة من الهوامش النافعة شرط أن يكون التطبيق العملي محاطاً بأقصى درجات الحذر ويدور داخل حدود الثوابت.


والحقيقة أن كثيراً من الدول التي تكيد وتجند المخابرات وتخطط المؤامرات ضد دول أخرى لا تتوقف عن الحديث المليء بالمجاملة وكأنّ العلاقات بين الدولتين على أفضل ما يرام. بل أن بعض الدول التي دخلت في أحلاف دفاعية تتجسس على بعضها وتَخترق مؤسسات وتساهم في توجيه جمهور الدولة الأخرى. (4)


التشبث بالقُوى الصلبة

مستويان من القوى المؤثرة في السلطة ينبغي استحضار دورهما بعد زوال الطاغية. المستوى الأول هو القُوى الصلبة الُمتمثّلة في الجيش والأمن والمال والإعلام، والمستوى الثاني هو مؤسسات المجتمع المدني سواء التقليدية منها أو الحديثة، والقيادات الاجتماعية المُتمثّلة في الأعيان والمثقفين والتجار.


أما القوى التي في المستوى الأول فينبغي التشبّث بها من قبل العصبة التي حققت النصر والعضّ عليها بالنواجذ. وهذه المهمة أهون إذا كانت الثورة مسلحة لأنها أزالت بالضرورة ما يسمى بالدولة العميقة وهزمت قوى الجيش والأمن التابعة للطاغية ومن ثم تستطيع أن تسيطر على المال والإعلام بسهولة (5). وكل المطلوب أن لا تتبرع القيادة الجديدة بتمكين غيرها في مرحلة التمكين من المساهمة في هذه القوى الصلبة. أما إذا كانت الثورة سلمية فلا نجاح لها إلا بإزالة الدولة العميقة واستغلال أعلى درجات التفويض الشعبي في ذروة لحظات النصر لسحق الدولة العميقة والسيطرة على هذه القوى. (6)


وأما القوى التي في المستوى الثاني فإن تشكيلها يعتمد على نوعية الثورة. فإذا كانت الثورة ببرنامج تغييري شامل مُنطلق من عقيدة ومبادئ مناقضة لما كان عليه حال البلد فسوف تتشكل هذه القوى بشكل مساير للوَضع الجديد تلقائياً شرط التشبث بالقُوى الصلبة. وأما إذا كان برنامج الثورة هو التخلص من المستبد فقط دون تغيير مبدئي شامل فليس من المتوقع أن يحصل تغييراً في هذه القوى وستبقى على شاكلة النظام السابق.


الحصانة من خطر المرتزقة والخونة

حين يجثو الطاغية المفسد على الشعب نصف قرن يتكاثر المرتزقة والخونة الذين يمكن تجنيدهم من قبل المتربصين بالثورة. وتاريخ الثورات يؤكد سهولة وقوع هؤلاء المرتزقة في يد أعداء الثورة، ولذلك لا بد من التعامل مع هذا التحدي بيقظة دائمة وأقصى درجات الحذر. (7)


والتشبث بالقوى الصلبة يساهم في ردع هؤلاء المرتزقة وتجريدهم من القدرة على تحقيق مرادهم لكنه لا يكفي. لا بد من تنفيذ برنامج توعوي شامل يجعل هؤلاء الخونة مكشوفين في المجتمع وأنهم لا يواجهون الثورة فقط بل يواجهون الشعب كله. ثم يُستثمَر الوعي الشعبي في التعرف على كل من لديه نزعة ارتزاق أو خيانة، وبذلك يسهل الوصول إليهم والتخلص منهم.


استغلال الفرص

مقابل تآمر النظام العالمي يسوق الله فرصاً تضعف هيمنة هذا النظام العالمي وتفتح ثغرة يمكن من خلالها تحقيق ما لم يمكن تحقيقه قبلها. والقيادة الناجحة هي من تحسن استثمار هذه الفرص وتستغلها لآخر مجال فيها، لأن التريث في استغلالها قد يفوّت مكاسب هائلة تتحقق في وقت قصير لا يمكن تحقيقها بدونها. (8)


تأمين حاجات الناس ولكن!

يريد الناس بطبعهم حياة رغيدة فيها تحقيق حاجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن وسهولة في التنقل والتواصل، بل ويطمعون بالكماليات. وإذا تمكن القوي الأمين بعد زوال الطاغية ومعه فريق من أمثاله في الأمانة والمسؤولية فلا شك أن تحقيق ذلك ممكن، حيث إدارة ناجحة ورؤية واضحة وحسن تدبير في استخدام الموارد وإقفال كل أبواب الفساد.


لكن المتربصين سواء في النظام العالمي أو من الطابور الخامس قد لا يسمحون للثورة بتحقيق ذلك ويؤلّبون الشعب ضد هذه القيادة الجديدة مستغلين الإخفاق الذي كانوا هم سببا فيه. وحتى لو نجحت القيادة الجديدة في تأمين حاجات الناس فإن المتربصين يستطيعون من خلال المهارة في استخدام الإعلام الموجه جعل النجاح فشلاً وتحميل القيادة مسؤولية الفشل المزعوم. (9)


وحماية الشعب من هذا التأليب تتحقق في تنفيذ برنامج توعوي شامل يؤمّن قناعة الشعب بقيادته وثقته بالفريق العامل معه ويحصّنه ضد الحملات الإعلامية والنفسية. لكن الأهم من ذلك هو أن تبقى جذوة الثورة مشتعلة ويظلّ الشعب مدركاً أن ثبات الدولة أمام التحديات وتحقيق الكرامة والحرية والعدالة أولويات مقدمة على الحاجات الجسدية، وتستمر توعية الشعب أن المؤامرات تحاك عليه باستمرار.


هل يمكن تصدير الثورة؟

على غرار مبدأ أن "الهجوم أفضل وسيلة للدفاع" ، فإن الاجتهاد في نقل عدوى الثورة لبلدان أخرى ربما يكون أفضل وسيلة في حماية الثورة وقطع الطريق على الآخرين من التآمر عليها. ونقل هذه العدوى لا يحتاج حملة إعلامية أو استفزازاً لهذه الدول بل له حيل كثيرة خاصة مع تعاطف الغالبية العظمى من شعوب المنطقة مع أي ثورة تهدف لتحقيق العدالة والحرية والكرامة والعودة للإسلام الصحيح. (10)


كيف تكون الشورى في الفترة الانتقالية؟

حين تندلع الثورة للقضاء على الاستبداد فمن المنطقي أن القيادة الجديدة تتحاشى الاستبداد وتعمل بالشورى. لكن توسيع الشورى في الفترة الانتقالية بعد زوال الطاغية لكل المكونات الاجتماعية خطأ كارثي يفتح الباب للفوضى، بل ربما لفشل الثورة كلها. ولذلك يجب أن لا تكون الشورى إلا في حدود العصبة الثورية ومن ترشحه هذه العصبة ممن تثق برأيه وأمانته. (11)


لا عجلة في الفترة الانتقالية

إذا قضى الشعب عقوداً تحت حكم طاغية تتغلغل فيه أمراض اجتماعية ومشاكل عميقة تحتاج مدة طويلة من الزمن في إزالتها. من هذه الأمراض والمشاكل انتشار الجهل المركب وغياب الوعي السياسي وضعف الثقة بالنفس وانتشار الأنانية والنفاق وكثرة المنتفعين والطفيليين الذين لا يعيشون إلا على القمع والفساد وبقاء المفاهيم المستمدة من هيمنة الطاغية.


ولا يكفي الاعتماد على التوعية والإعلام بل لا بد من عامل الوقت لزوال هذه الأمراض أو تقليلها. ثم لابد من سلسةٍ من البرامج التي تدرب الناس على المسؤولية والتضامن وتعرّفهم بالقاموسِ السياسي على أسس صحيحة. ولا يمكن أن يتشرب الشعب مفهوم الحرية والمسؤولية والعزة والكرامة إلا بعد مرور الوقت الكافي فضلاً عن التوعية والتدريب.


وأي استعجال في وضع دستور أو المبادرة بانتخابات عامة أو المبالغة في الحريات إنما هو تسليم للسلطة للطاغية من جديد وتسهيل المهمة على قوى الثورة المضادة لتحقق مرادها بإعادة تدوير الطغيان والاستبداد.


----------------------------------------------------------------------------------

  1. الثورات في التاريخ كثيرة لكن في هذا المقال استحضرنا منها ثورة ابن الأشعث ضد الحجاج والثورة العباسية وثورة كرومويل والثورة الفرنسية والأمريكية و البلشفية والثورة الإيرانية وثورة ماوتسي تونغ في الصين والثورات العربية في الربيع العربي

  2. راجع مقالنا "حدود البراجماتية في الإسلام"

  3. نجح الخميني في إبقاء ولاء الشعب للثورة سنين طويلة رغم انشغال الدولة بالحرب مع العراق وعجزها عن تحقيق إنجازات مدنية وذلك من خلال إبقاء جذوة الثورة وإقناع الشعب بالمؤامرة ضد الشعب وضد الثورة

  4. من نماذج ذلك تجسس الدول الأوروبية على بعضها وعلى أمريكا وتجسّس أمريكا عليها رغم أنها جميعاً في حلف الناتو وأحلاف أخرى

  5. يفترض أن لا تكون هذه المهمة صعبة في الثورة السورية لكن هناك من يطالب بسرعة تشكيل جيش وأمن وطني وحل كل القوة الثورية فورا، ولو حصل ذلك فاقرأ على الثورة السلام. تطالب "قسد" كذلك بإدماج مسلحيها في الجيش الجديد وهذا كذلك تدمير لدور القوى الصلبة.

  6. من أهم أسباب فشل الثورة في مصر وتونس وليبيا واليمن إبقاء الجيش والأمن والإعلام والمال بيد الدولة العميقة التابعة للنظام السابق فكان من السهولة إعادة تدوير النظام

  7. تلاعب المال السعودي والإماراتي بثورة مصر وتونس وليبيا وتم تجنيد آلاف المرتزقة مع عجز الثوار بسبب غياب الرؤية وسوء التدبير.

  8. استفادت ثورة سوريا من ضرب الله الظالمين بالظالمين واستفادَت من حرب تركيا للأكراد وتمَصلحها من إضعاف نظام الأسد، فعلها تستفيد من فرص قادمة ربما يكون بينها حرب شاملة في المنطقة بين إيران وأمريكا وإسرائيل.

  9. شنت الدول التي موّلت الثورة المضادة في مصر وتونس حملة إعلامية وحزبية على الثوار أقنعت الشعب بفَشلهم وعجزهم عن إدارة الدولة فعلى الثورة السورية أن لا تقع في هذا الفخ.

  10. رغم الفوضى التي سادت الثورة الفرنسية والكيد التي تعرضت له من ممالك أوروبا فقد كانت سببا في سقوط معظم تلك الممالك أو تحولها لملكيات دستورية بمجرد عدوى التوق للحرية والكرامة والعدالة.

  11. لم يكن أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يَستشيران أحداً من المرتدين حتى بعد عودتهم للإسلام، بل إن أبا بكر منع المرتدين من المشاركة في الفتوحات، وأما عمر فسمح لهم بالقتال جنوداً لكن لم يعينهم قادة.


bottom of page