top of page

١٠ رمضان ١٤٤٤ هـ

متى وكيف يؤجر المسلم في العمل السياسي

بقلم الدكتور سعد الفقيه

يسعى الكثير من الناس إلى أعمال عامة نبيلة لا يختلف البشر على احترامها وتمجيدها. هذه الأعمال قد تكون تحت معنى سياسي في السعي لإزالة الاستبداد والفساد والطغيان، أو تحت معنى حقوقي لإزالة المظالم وبسط العدالة أو تحت معنى خيري في دعم الناس ماديا ومعنويا وصحيا وتعليميا.


هذه الأعمال النبيلة قد تشتمل على تضحيةٍ ومعاناةٍ وبذلٍ وتفانٍ، مما يزيد في احترام من يؤديها، لكن يبقى السؤال المهم: كيف يصنّف هذا العمل شرعا؟ ومتى يترتب عليه أجرٌ وثواب؟ وما هي درجة هذا الأجر؟


إخلاص النية وإلا فلا أجر

لا شك أن السعي لإزالة الاستبداد والفساد والطغيان والظلم ودعم الناس ماديا ومعنويا يجلب الأجر العظيم، وقد تُحقق أعلى درجات الأجر لأنها من أفضل أنواع الجهاد. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال "خير الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" (1)  فهذا تأكيد على أن العمل السياسي إذا كان يصب في هذا المعنى فهو مما يترتب عليه الأجر المتحقق من أفضل الجهاد.


لكن إذا لم تخلص النيّة فلن يتحقق هذا الأجر العظيم كما هو معلوم بالضرورة في آيات وأحاديث كثيرة، اشتهر منها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه" (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).


ولا يمكن أن يزعم أحد أن نيته خالصة لله إلا إذا استحضر هذا المقصد في أصل انطلاقه، ثم خلال كل خطوة يقوم بها. أما من يتصدى لهذا العمل حبا لمفهوم العدل وبغضا للظلم، أو حرصا على خدمة وطنه وقومه، أو ما يسمى بـ "دافع إنساني"، فهؤلاء يقدّر ويحترم جهدهم، لكن ليس فيه أجر مهما كان نبيلا، لأنه ليس لله ولا رغبة في تطبيق أوامر الله.


وبالطبع لا يكسب الأجر من سعى في هذا الأمر حبا للشهرة أو رغبة في سلطة أو طمعا في منصب أو حرصا على مصلحة شخصية مادية كانت أو معنوية. وهذا الصنف الأخير فضلا عن أنهم محرومون من الأجر فسعيهم غير مشكور ولا يقدرون ولا يحترمون لأن الهدف ليس نبيلا.


ولكن قد يحصل أن تتلوث نية الإنسان التي كانت في أصلها لله بشيءٍ من حب الشهرة والنفوذ وبعض المصالح الشخصية. فإذا كان هذا التلوث بسبب نزعة بشرية طبيعية لا تؤثر في المسيرة ولا تغير البرنامج والخطة، فلعل الأجر المرتبط بأصل النية مكتوب، ولكن تؤثر في بقية الأجر المرتبط بالاستحضار المستمر لهذه النية. أما إذا انحرفت بالمسيرة وغَيّرت البرنامج والخطة فهذا دليل على أن أصل النيّة قد انحرف، ويُخشى أن يحرم الإنسان الأجر كله.


ولأن من يتصدى لمثل هذه الأعمال عرضةً أكثر من غيره لإغراءات الشهرة والنفوذ والمصالح، فإنه بحاجة مستمرة لجهاد نفس مستمر، فإن نجح في هذه المجاهدة وطرد نوازع النفس فهذا مضاعفة للأجر وتضخيم للأجر والثواب. والذين جربوا هذه الميادين يؤكدون ديمومة وشدّة هذا الصراع وتنوّع أشكاله، وخاصة المنافسة مع الأقران والتضايق من النقد والتداعيات الكثيرة التي تجلبها الشهرة وفتنة المال والنساء وغير ذلك.


الأجر والمسطرة الشرعية

قد ينجح الناشط في الميدان السياسي أو الخيري في تصفية النية ومجاهدة النفس والتخلص من نوازعها بجدارة، لكنه ينزلق في ممارسات مخالفة للمنهج الشرعي إما جهلا أو مجاملة للظروف والأحوال أو بزعم تحقيق مصالح لخدمة الإسلام نفسه. وظاهرة التوسع في اجتهادات خارج إطار النص انتشرت كثيرا بين الذين يصنفون "إسلاميين" حتى وصل حال بعضهم إلى سلخ المشروع الإسلامي من قيمه الدينية وجعله مشروعا يدعو "للقيم الإنسانية" بحجة أن رسالة الإسلام إنما جائت لتأكيد كرامة الإنسان وحريته.


وكثير من هؤلاء مخلصون -نحسبهم- وعلى درجة عالية من الحماس لخدمة الدين، ولهذا  لم يأتهم الخلل من جهة النية بل جاءهم من جهة "الأتباع". وعلماء المسلمين متفقون على أن الأجر لا يمكن الحصول عليه بمجرد النية، بل لا بد من موافقة العمل للمنهج الشرعي وأن الغاية في الإسلام لا تبرر الوسيلة. (2)


والأدلة كثيرة  متظافرة  في وجوب البقاء داخل إطار الشرع:


قال تعالى " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " فأي سبيل غير الصراط المستقيم الموافق للتعاليم الشرعية مرفوض.


ويقول "قل أطيعوا الله والرسول فان تولوا فان الله لا يحب الكافرين"


ويقول "من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا "


ويقول "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين"


ويقول تعالى  " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم "


ويقول "ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم . ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين"


ويقول " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا "


ويقول " إنما كان قول المؤمنين اذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون "


ويقول" وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب "


ويقول "وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخِيَرةُ من أمرهم"


ولعل البعض كأنه يقرأ هذه الآيات لأول مرة، لما فيها من الوعيد العظيم لمن يخرج عن إطار السنة والنهج النبوي. والتحذير في هذه الآيات واضع بأن التساهل في ذلك يؤدي للكفر والنفاق وليس فقط معصية تبقى صاحبها داخل إطار الإسلام.


هل يؤجر المفرّط بأركان الإسلام؟

يتحمس بعض النشطاء في السياسة والعمل الخيري، و ينغمسون في الحيوية السياسية مما يؤدي للتساهل في بعض المفروضات وخاصة الصلاة. ويزين لهم الشيطان التبرير بأن العمل السياسي أو الخيري مقدم عند الله لأن فيه رفعة شأن الإسلام وأن نفع الناس برسالة الإسلام مقدم على "الطقوس" الفردية.


ولا شك أن هذه التبريرات خطيرة، وقد يترتب عليها إحباط العمل كله، فالمفروضات -وخاصة الصلاة- ليس فيها تساهل، ولا يمكن أن تقبل الأعمال عند التفريط في المفروضات. ورغم خلاف العلماء على تكفير من يعطّل المفروضات، فإنهم متفقون أن التفريط فيها أعظم من الزنا وشرب الخمر وأكل الربا وقتل النفس وقطع الطريق وعقوق الوالدين ومن كل الموبقات.


والظاهرة الأخرى التي سادت في ميادين العمل الإسلامي أن كثيراً من المحافظين على المفروضات لا يجدون حرجا في إدراج المفرّطين فيها في صف الملتزمين وتزكيتهم دينيا، مخدوعين بتفانيهم في مقارعة الطغاة وصوتهم العالي في مواجهة الطغيان. وسبب الإشكال أنهم خلطوا بين احترام وتقدير هذه المواقف، والذي يستحقه أي إنسان حتى لو لم يكن مسلما، وبين تصنيفها في سياق العمل الإسلامي الصافي واعتبار أصحابها من أهل جهاد الكلمة.


كيف يتأثر الأجر بالواجبات الاجتماعية؟

المسلم مأمور بالتزامات تجاه المجتمع تبدأ من والديه وزوجته وأبنائه ثم رَحِمِه وجيرانه وزملائه وتنتهي بآخر عضو في المجتمع. لا يجوز لمن يتصدى للعمل السياسي أو الخيري أن يشغله ذلك عن بر الوالدين وصلة الرحم والإحسان للجار وحسن الخلق وإعانة الضعيف وإغاثة الملهوف وغيرها من مكارم الأخلاق.

وأجر المُتصدي لمهمة سياسية في سبيل الله يزيد وينقص بقدر أدائه حقوق العباد وبقدر درجة حقهم عليه. ولذلك فإن المقصر في حق والديه وزوجته ورَحِمِه وجاره لن يكون له نفس أجر البار بوالديه والمؤدي حق زوجته والواصل لرَحِمِه والمحسن لجاره مهما كان مجتهدا في العمل السياسي . هذا فضلا عن أنه يخسر أجر القدوة في حسن الخلق والتي يجب أن يتحلى بها من يتصدى لأي عمل عام.


بل إن بعض الالتزامات الاجتماعية قد تتعارض تماما مع العمل السياسي إذا كان المتصدي لها قائما على ثغرة تنكشف إذا تركها. فمن كان قائما على خدمة والديه وليس عندهم غيره فلا يجوز أن ينشغل عنهما حتى في الجهاد. والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "ففيهما فجاهد"، أي إن خدمة والديك جهاد مقدم على جهاد القتال ما دام ليس لهما غيرك.


ومثله من كان قائما على أرامل أو أيتام، أو راعيا لعوائل معتقلين وشهداء، أو مؤديا لحقوق دائنين، أو مؤتمنا على أموال وأملاك تضيع إذا انشغل عنها، فكل هؤلاء على ثغرات لا يجوز الانشغال عنها حتى لو كان لعمل عظيم مثل مقارعة الطغاة.


ماذا عن خصال النفاق والأجر؟

يستهين كثير من المسلمين بخصال النفاق والتي تعتبر عند الله أعظم من المعاصي التي لا تقدح في الأمانة. فالكذب والغدر والغش والخيانة والفجور في الخصومة تتعارض مع الأمانة ومن ثم مع الإيمان، وكل منها خصلة من خصال النفاق، وإذا اجتمعت صار من اجتمعت فيه منافقا خالصا. بل إن من يستهين بالكذب والخيانة والغش والغدر غالبا ما يكون في أصل نيته شك، فلا يجتمع الإخلاص لله سبحانه في الجهاد السياسي مع طباع النفاق.


و خصال النفاق سبب لإثم عظيم أيا كان سياقها ومقامها، لكن إذا كانت مخالطة للعمل السياسي فإنها فضلا عن الإثم المترتب عليها تُزيل فرصة الأجر من العمل السياسي ويحل محله إثم والعياذ بالله. وربما يتضاعف الإثم لأن الضرر في العمل السياسي يكون متعديا وواسعا وليس محصورا في شخص واحد كذب عليه أو خانه أو غشه.


وهذا ينطبق على كل خصلة من خصال النفاق، فهي تشمل من يمارس الكذبَ خارج إطار الرخص الشرعية بحجة تحقيق مصلحة، أو يَفجُر في الخصومة مع أقران الجهاد السياسي تلبية لرغبات نفسية من حسد وغِيرة، أو يخون رفقاء الجهاد تسلقا وطمعا، أو يغش في الأموال والمقدرات المرصودة لهذا العمل، أو يحتال على جماعته بحيلٍ تضرهم من أجل التفرد بالشهرة أو المكاسب الدنيوية.


وقد يظن البعض أن من نذر نفسه لمقارعة الطغيان والظلم والفساد يستبعد أن يرضى لنفسه الكذب والغش والغدر، لكن الحقيقة صادمة، وهي أن هذه الصفات شائعة بين كثير من المتصدين للعمل السياسي من المحسوبين بين الإسلاميين. والعجيب أنهم يمارسون الكذب والغش والغدر والفجور في الخصومة ليس خدمة للظالم ولا انقلابا على مسيرتهم بل استجابة لنوازع شخصية أو حسد أو غيرة من الأقران أو تنافسا على قطف ثمرة.


الأجر ودرجة الخطر والمشقة

الخطر المترتب على مواجهة نظام قمعي يقتل ويسجن ويعذب ويسيء السمعة ويسلّط السفهاء والأراذل  أعظم من الخطر المترتب على مواجهة نظام فيه ظلم لكنه يعطي هامشا من التحمل والنشاط، ومن ثم فإن الأجر المترتب على الأول أكبر بالضرورة من الثاني. كما إن الذي يواجه الظالم مباشرة ويحمّله مسؤولية الظلم والفساد والكفر البواح أجره أكبر ممن يتلطف في الانتقاد ويلقي اللوم على البطانة والوزراء.


من جهة أخرى فإن درجة الأجر والمثوبة لمن يتصدى للعمل السياسي توازي مستوى المعاناة ، والألم والخسارة، فمن يتعرض للسجن والتعذيب والفصل من العمل أو مصادرة أمواله أو من يضطر للغربة والابتعاد عن أهله وجماعته ويصبر ويحتسب أعظم أجرا ممن لا يصيبه شيء من ذلك.


الثبات مع طول الأمد وتخلي الأعوان

يظن البعض أن السجن والتعذيب هو أشد أنواع الابتلاء التي يتعرض لها الإنسان، لكن ثبت تاريخيا وبالتجربة الاجتماعية والنفسية أن طول الأمد وبطء النتيجة وتأخر قطف الثمرة وقلة الأعوان أو تخليهم أشد من السجن والتعذيب إذا كان أمد السجن قصيرا. وكثير ممن يصمد أمام السجن والتعذيب لا يصمد أمام طول الأمد وقلة الأعوان والتي هي من بلاء الأنبياء. ولذلك فإن من يثبت على الحق مع طول الأمد وتأخر النتيجة وقلة الأعوان سيكون من أعظم الناس أجرا لأنه أقرب لتجربة الأنبياء، الذين اختبروا في تأخر النصر والتمكين أو قلة الأعوان.


وفي مواجهة الأنظمة الحاكمة في العصر الحديث فإن المناضل السياسي لا يواجه السلطة فقط بل يواجه أجهزة الأمن وعلماء السوء ومثقفي السلطة والطفيليين المنتفعين من السلطة فضلا عن أن أغلب المجتمع يتحاشاه خوفا من أن يصيبهم غبار الأذى الذي لحقه. والثابت أمام كل هذا التحدي الضخم لا شك أجره عظيم وهو الأولى بدرجة "أفضل الجهاد".


وهكذا

فإن من يتصدى للعمل السياسي ومواجهة الظلمة والطغاة عليه أن يستحضر كل هذه المعاني والقيم والالتزامات عسى أن يتضاعف أجره، وعليه أن يتحاشى ما يقلل الأجر أو يحوله إلى إثم والعياذ بالله.


--------------------------------------------------------------


(1) رواية الترمذي وأبي داود "كلمة عدل عند سلطان جائر" ، ورواية النسائي  "كلمة حق عند سلطان جائر"


(2) راجع مقالنا "حدود البراجماتية في الإسلام"

bottom of page