top of page

١٨ ربيع الأول ١٤٤٦ هـ

مواقف الإسلاميين من استخدام القوة
طرفان ولا يوجد وسط

بقلم الدكتور سعد الفقيه

استخدام القوة طبيعية بشرية

درج البشر على مبدأ استخدام القوة سواء للدفاع عن النفس أو لتحقيق هدف مشروع وسواء على مستوى الفرد أو الجماعة أو الدولة. ولم يشذ عن هذا المبدأ إلا شراذم فكرية لا تكاد تذكر يسمونهم بالـ pacifists أو المسالمون الذين يرفضون استخدام القوة مطلقاً، والذين اشتهر "المهاتما غاندي" قائد الثورة الهندية "السلبية" ضد بريطانيا بأكبر رمز لهم.


وتتفق كل الدول على حق السلطة في استخدام القوة وامتلاك السلاح سواء في جيش نظامي وقوات هجومية ودفاعية أو في أجهزة مسلحة لحفظ الأمن وإنفاذ القانون. أما على المستوى الفردي فإن الدول تتفاوت في إجازة امتلاك السلاح واستعماله فهناك من يمنعه منعاً باتاً ومن يضع مستويات مختلفة من القيود وهناك من يخفف القيود إلى ما يشبه الحرية الكاملة في امتلاك السلاح واستخدامه.


السلاح مقدّس في أمريكا

في الولايات المتحدة مثلاً يعتبر حمل السلاح واستخدامه عند الحاجة حقاً دستورياً لا يمكن التنازل عنه إلا بتغيير الدستور. ورغم حوادث القتل الجماعي تكتفي الأحزاب في برامجها بمزيد من تنظيم عملية امتلاك واستخدام الأسلحة فقط ولا تتجرأ على طرح إلغاء حمل السلاح لأن الحزب الذي يطرح ذلك سيخسر الانتخابات. ولهذا المبدأ سبب مبدأي قائم على تمكين المواطنين من التمرد على السلطة لو فكرت النخبة الحاكمة بإلغاء الديمقراطية والتفرد بالحكم، كما جاء في نص التعديل الثاني في الدستور "لما كانت المليشيات الحسنة التنظيم ضرورية لأمن الدولة الحرة، فلا يجوز مصادرة حق الناس في اقتناء السلاح وحمله".


الجهاد والقوة في الإسلام

وفي الإسلام شُرع الجهاد في الإسلام بأدلّةٍ قطعية الثبوت وقطعية الدلالة لا مجال للتشكيك فيها، وبذل علماء الإسلام جهداً هائلاً في بيان أحكام الجهاد وشروطه وأركانه وتغير حالاته مع تغير الظروف والمعطيات. ولم يقتصر العلماء على أحكام الجهاد في حالة الخلافة الإسلامية، بل ناقشوا أحكام الجهاد عند زوال الخلافة وتفرق المسلمين وتسلط الظلمة ولم يتركوا فراغاً فقهياً في ذلك. وكذلك ناقش العلماء باستفاضة أحكام الدفاع عن الدين والنفس والمال والعرض والأرض ولا عذر لمن احتاج هذه الأحكام ولم يتعلمها.


طرفان ولا يوجد وسط

ورغم وضوح هذه الأحكام وتوفرها في المدونات الفقهية إلا أنه يغلب على التيارات الإسلامية الحالية نوعان من التطرف في التعامل مع ما له علاقة باستخدام القوة. النوع الأول يبالغ في النأي بنفسه عن استخدام القوة إلى حد طمس مفهوم الجهاد وإعادة تأسيس البرامج والمناهج على استبعاده تماماً، والنوع الثاني يبالغ في استخدام القوة ويلوي أحكام الجهاد بما يبرر سفك الدماء المعصومة، وقليل جداً هم الذين توسطوا وتشبثوا بالمنهج الصحيح. 


تدعي شمولية الإسلام ثم تستبعد القوة 

ومن المفارقة أن التيارات التي من النوع الأول تقول إنها تتبنى الإسلام بمفهومه الشامل ومنهجه الكامل وتُدرّس كوادرها و تربّي أفرادها على هذا الأساس.  وهذه التيارات  لا تقصد ما يقوله العلماء من مشروعية كف اليد في حالات، وتغليب جهاد الكلمة على جهاد السيف في حالات أخرى، وأن وجوب الجهاد قد يتعين "يصبح واجباً عينياً" في مكان دون آخر، إنما تقصد تجاهل مفهوم الجهاد وتربية كوادرها على السلمية المطلقة والنأي بنفسها عن أي استخدام للقوة بل والوقوف مع الطغاة ضد من يستخدم القوة حتى لو كان مجتهداً. 


عقبتان هما السبب

وهذه النزعة في البراءة من استخدام القوة تشكلت بشكل تدريجي بعد أن اصطدمت هذه التيارات بعِقبتين هائلتين. العقبة الأولى هي تماسك النظام الدولي وشرعية مؤسساته وسلطة قوانينه، والعقبة الثانية هي طابور الأنظمة الطاغية في العالم العربي والإسلامي التي تفرغت لحرب الإسلام. 


النظام الدولي لا يتحمل النظام الإسلامي

تشكّل النظام الدولي الحديث بطريقة تقدس الحدود القطرية، وأُقيمت المؤسسات الدولية وصِيغت القوانين الدولية بما يعطي القوى العظمى حق التحكم بالدول الأخرى بطريقة "مشروعة". ولأن التيارات الإسلامية لو طرحت استخدام القوة سوف يتعدى نشاطها بطبيعته البلد الواحد فسوف تجد نفسها بالضرورة في مواجهة هذا النظام العالمي. والعكس صحيح فالنّظام العالمي يدرك أن الحركات الإسلامية التي تتبنى الطرح الشامل بمعناه الصحيح لن تحترم الحدود، ومن ثمَّ  ليس غريباً أن يقف منها موقفاً عدائياً شرساً.


أنظمة القمع عدو تلقائي 

من جهة أخرى فإن الحكومات الظالمة التي يتبنى معظمها الحرب على الإسلام تبحث دائماً عن ذريعة لتشويه التيارات الإسلامية من خلال ربط استخدام القوة بالتخريب وما يسمى بـ"الإرهاب"، ومن ثم تبرير الفتك بها واستئصالها. ودرجت هذه التيارات على الاعتقاد أنها تستطيع حرمان الأنظمة الظالمة من هذا التبرير بالنأي بنفسها عن العنف وبهذا تسلم من القمع أو الاستئصال.


كيف تطورت النزعة للسلميّة؟

وفي مواجهة هاتين العقبتين كانت هذه التيارات في البداية تتجنب استخدام القوة مع تأكيدها الإيمان بأحكام الجهاد ومبادئه واحتمالية الحاجة لاستخدام القوة في ظروف معينة. لكن مع الوقت تحول هذا الموقف العملي إلى موقف مبدئي وأعيدت صياغة المناهج والخطط على أن لا مكان لاستخدام القوة مطلقاً، وصارت هذه التيارات كأنها تتبع منهج "غاندي" بنكهة إسلامية. 


الرضوخ للأنظمة مبرر شرعاً ومنطقاً!

ولهذا السبب تحملت هذه التيارات كل أشكال القمع الذي تمارسه الأنظمة وبررت هذا التحمل شرعياً ومنطقياً. أما التبرير الشرعي فهو التورع زعماً أن يكون الدفاع عن النفس نوعاً من أنواع الخروج على الحاكم الشرعي، مع أن الحكام تجاوزوا الكفر البواح إلى شن الحرب على الإسلام. وأما التبرير المنطقي فهو الزعم بأن مقاومة الحاكم بالقوة تتسبب في مزيد من قسوته وقمعه، والحل هو أن تعطيه خدك الأيسر إذا ضرب خدك الأيمن لعله يحن عليك. آخرون تذرّعوا بالمحافظة على الجبهة الداخلية ومنع الفتنة الوطنية إلى غير ذلك من الحجج الواهية.


التعاون مع المحتل أفضل من مواجهته!

وبالغ بعضهم فتجاوز تحمل الأنظمة القمعية إلى تحمل الاحتلال الأجنبي الصريح وساهم فيما يسمى العملية السياسية، وهي مشاركة أعضاء من التيار في المؤسسات التي تعمل تحت مظلة الاحتلال والانخراط في النشاطات السياسية التي تجري بأمر الاحتلال. ومثلما وجدوا تبريراً شرعياً ومنطقياً في تحمل قمع الطاغية فقد وجدوا المخارج الشرعية و لووا عنق المسوغات المنطقية لتبرير التعاون مع المحتل.


من يستخدم القوة ضد الأنظمة فهو عدوّ!

ولهذه الأسباب فإن هذه التيارات تتضايق تلقائياً ممن يلجأ لاستخدام القوة، لكنها لا تكتفي بالنأي عنه بل تضع نفسها في خندق واحد مع النظام وتكرر نفس سردية النظام في التعامل مع من يستخدم القوة ضد السلطة لأسباب دينية. وربما شارك رموز هذه الحركات في الحملة الإعلامية التي تشنها الأنظمة ضد الجهاديين وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك وهو المشاركة في الحملة الأمنية مع الأنظمة وكأنهم جزء من أجهزة المخابرات.


ماذا عن الحركات الجهادية الفلسطينية أليست تقاتل المحتل؟

سلمت الحركات الجهادية الفلسطينية من الوقوع في فخ الرضا بالمحتل، لكنها لم تسلم من مجاملة الطاغية الآخر وهو السلطة الفلسطينية. ومنذ أن اُنشئت هذه الحركات وهي تحني ظهرها للسلطة التي لا تكتفي بالقمع بل جعلت من نفسها جهازاً أمنياً تابعاً للاحتلال أكثر كفاءة في خدمة الاحتلال من المحتل نفسه. ولهذا السبب يبقى تصنيف هذه الحركات مع النوع الأول رغم تبنيها العمل الجهادي.


 النوع الثاني في الطرف الآخر (التيارات الجهادية)؟

التيارات التي تؤمن باستخدام القوة والتي تسمى بـ"التيارات الجهادية" مُعظمها تطرّف في الجانب الآخر. وكنا قد أفردنا المآخذ على التيارات الجهادية وأسباب تراكم هذه الممارسات التي يؤاخذون عليها في مقال مستقلّ يمكن العودة إليه في هذا الرابط 


ومقال آخر فيه نصائح هامة لمن يريد أن يكرر تجربة حمل السلاح


bottom of page