top of page

٩ شعبان ١٤٤٦ هـ

هل يقود ترمب أمريكا إلى الفوضى؟

بقلم الدكتور سعد الفقيه

قبل قراءة هذا المقال يفضل قراءة مقالنا السابق 

ترمب وأمريكا والديمقراطية أسئلة ذات أهمية 


تصرفات ترمب تؤكد ما أشرنا إليه في مقال سابق عن مستقبل النظام السياسي في أمريكا. والمقصود بهذه التصرفات ليس أفكاره الخيالية في شراء جرينلاند وضم كندا وتملك غزة بل في استهدافه مؤسسات الدولة والسعي للسيطرة عليها مستفيداً من الجو الشعبوي الذي أتى به للسلطة.


التفويض الذي يتمتع به ترمب ليس نابعاً من فوزه بالأغلبية فقط ولا سيطرة الجمهوريين على مجلسي النواب والشيوخ، بل لأن أعضاء النواب والشيوخ خاضعون لجمهوره الغوغائي الذين انتخبوهم ويعلمون أن تردّدهم في دعم ترمب يعني أنهم لن يُنتخبوا مرة أخرى.


ولهذا السبب سوف يصوّت الشيوخ رغم أنوفهم على تعيينات ترمب لشخصيات في كل المناصب الحساسة رغم ضعف تأهيل الذين رشحهم ورغم سيرتهم الذاتية الملطخة بالفساد والفضائح والفكر المُؤامراتي. والمبرر الوحيد لتولّيهم هذه المناصب الخطيرة مثل الدفاع والعدل والـ"إِف بي آي" والـ"سي آي أي" هو ولائهم لترمب واستعدادهم لتنفيذ أوامره باستهداف خصومه بحجة استهداف الدولة العميقة.


وبعد اتكائه على تفويض الغوغاء له عفا ترمب عن الذين اقتحموا الكونغرس رغم إدانتهم الثابتة في المحكمة، ثم أمر بطرد الآلاف من الموظفين الذين شاركوا في القضايا التي لُوحق بها، وأعطى صلاحيات لشَخص غير منتخب (إيلون ماسك) وخوّله حق تفتيش وإعادة هيكلة وفصل موظفين في كل الإدارات الحكومية.


المؤسسات الإعلامية المؤيدة لترمب يساندها جيش من النشطاء الشعبويين في وسائل التواصل الاجتماعي ممن يتعاملون مع هذه القرارات بِديماغوجية لا تختلف عن الطريقة التي تعامل بها جمهور هتلر ألمانيا وموسوليني إيطاليا و سالازار البرتغال في مسيرتهم للاستبداد. هذه الديماغوجية صنعت إرهاباً شعبياً يحاصر من يرفضه حتى لو كان يحتمي بالدستور واستقلال القضاء. 


ومما يساعد على تفوق هذا المد الشعبوي أن الخط المعارض لترمب ملتزم بقضايا مضمونة الخسارة في المجتمع الأمريكي مثل المثلية وحريّة الجنس والتفريط في تماسك الأسرة. ولذلك فحين يدافع معارضو ترمب عن المثل العليا وحماية الديمقراطية ورفض الاستبداد يقترن دفاعهم تلقائياً بتلك القضايا فيُخلخل الجدل ويضعف الحجة.


هذه الجرأة من قبل ترمب حصلت خلال أقل من شهر من توليه السلطة، فما الذي ينتظر أمريكا في الشهور والسنوات القادمة؟ على الأرجح سيستفيد ترمب من زخم التأييد الحالي، ويتابع قراراته بقرارات أخرى يرسخ فيها من سلطته ويقوّض سلطة المؤسسات ويجرّد خصومه من أسلحتهم السياسية والقانونية. 


وحتى لو لجأ خصومه للقضاء فإن الجهات المكلفة بتنفيذ أمر القضاء تابعة لترمب ولا توجد جهة أخرى تلزمهم بتنفيذ الأوامر القضائية. وهنا مشكلة دستورية خطيرة تعطي ترمب مساحة واسعة للاستبداد وهي أن المحكمة العليا في أمريكا قضت بأن الرئيس ما دام يتصرف بصفته رئيساً للولايات المتحدة فله حصانة كاملة حتى لو خالف الدستور والقانون ولا يمكن محاسبته إلا من قبل الكونغرس. 


وما دام الكونغرس بغرفتيه مع ترمب فقد ضمن ترمب أن الكونغرس لن يحاسبه. وبالمناسبة لا يمكن إزاحة الرئيس إلا بإجراء طويل وصعب ولا يمكن أن يتم إلا  بتصويت ثلثي أعضاء الشيوخ لصالح عزل الرئيس وهو ما لا يبدو في الحسبان حالياً. 


لم يصل هتلر ولا موسوليني و سالازار للسلطة بانقلاب عسكري ولم يتمكنا من الاستبداد باستخدام العنف بل استخدموا ذات الأدوات الديمقراطية والمد الشعبوي في تحقيق أهدافهم. وربما يريد ترمب تكرار ما فعله هؤلاء، لكن هل المعطيات تتشابه في حالته مع حالاتهم؟


أولا: هتلر وموسوليني و سالازار لديهم رؤية وطنية حقيقيّة والتزام مبدئي بفكر يؤمنون به وثقافة تاريخية واقتصادية وخطاب منسجم مع فكرهم. أما ترمب فهو ضعيف الثقافة انتهازي غوغائي وقح له سيرة مليئة بالفضائح ورؤيته مرتبطة بمصلحته الشخصية وليس بالوطن.


ثانيا: عند صعود هتلر و موسوليني و سالازار كان النظام السياسي ألمانيا وإيطاليا والبرتغال عاجزاً عن معالجة التحديات في الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وكان من السهل إقناع الجماهير بالتمرد على هذا العجز السياسي لحل المعضلات الكبيرة. في المقابل فإن مشاكل أمريكا الاقتصادية والاجتماعية الحالية لا تقارن أبدا بوضع أوروبا في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات في القرن الماضي والدوافع النفسية للمواطنين من الصعب أن تصل إلى حد القناعة بالتخلص من المؤسسات الديمقراطية.


ثالثا: كانت كل من ألمانيا وإيطاليا والبرتغال دولة واحدة ونظام سياسي واحد ومؤسسات قليلة يسْهل تقويضها أو تحويلها لصالح المستبد القادم. في المقابل فإن المؤسسات في أمريكا متشعبة بسبب ضخامة الدولة والسلطة الكبيرة للولايات مما يجعل مهمة من ينوي الاستبداد أصعب بكثير. 


رابعاً: لم يكن انتشار السلاح مقبولاً في ألمانيا وإيطاليا والبرتغال مما أعطى فرصة لمن يستلم السلطة أن يحتكر القوة احتكاراً كاملاً ويحمي نفسه في طريقه للاستبداد بقوة السلطة.  أما في أمريكا فإن ثقافة السلاح متجذرة بطريقة تجعل السلطة المركزية في واشنطن عاجزة عن احتكار السلاح خاصة وأن جمهور ترمب ممن يؤيدون مبدأ تملك السلاح. ومن الظريف أن النص على حق امتلاك السلاح في الدستور كان قصداً لمنع أي مشروع استبدادي. 


رغم كل هذه الفروق فإن ترمب جاد إلى أقصى مدى للتفرد بالسلطة واتباع خطى أسلافه في أوروبا. وهو مفتون بالزخم الكبير للمدّ الشّعبوي المؤيد له والدعم الذي حظي به من قبل أغنى رجل في العالم والأغلبية الجمهورية في غرفتي الكونغرس وحكم المحكمة العليا بحَصانته المطلقة، ولذلك فهو يعتقد أن هذه المعطيات تكفي لتنفيذ مراده؟ هذه الجدية من قبل ترمب مقابل العقبات الكبيرة قد تأخذ ثلاث سيناريوهات والله أعلم:


السيناريو الأول: فشل كامل لترمب ونجاح خصومه في إبطال كل خطواته من خلال استخدام القضاء وعجزه عن رفض تنفيذ الأوامر القضائية.


السيناريو الثاني: ينجح ترمب في تحقيق مبتغاه ويعيد هيكلة مؤسسات الدولة والدستور و تمديد ولايته مدى الحياة. 


السيناريو الثالث: يتحدى ترمب كل المؤسسات بما فيها القضاء ثم بعد تحقيق جزء كبير من أهدافه باتجاه الاستبداد يُدخل البلد في أزمات اقتصادية وأمنية ويفقد شعبيته ويصطدم بحملة ضد سواء من خلال المؤسسات أو في الشارع تؤدي لعزله لكن بعد أن تدفع البلد ثمناً ضخماً في فوضى سياسية واقتصادية.


والمرجح والله أعلم هو السيناريو الثالث والذي يعني دخول أمريكا في مشاكل داخلية كبيرة وفقدان المواطنين الأمريكان الثقة بالمؤسسات الحاكمة وبداية التوجه لانفصال ولايات عن الاتحاد الأمريكي. 


إعادة تنبيه

هذا المقال لا يمكن فهمه جيدا إلا بعد قراءة مقالنا السابق 

ترمب وأمريكا والديمقراطية أسئلة ذات أهمية 

  



  • Whatsapp
  • Twitter

عبدالله الغامدي

د. سعد الفقيه

  • Whatsapp
  • Facebook
  • Twitter
  • Snapchat

للإتصال بنا عن طريق البريد الإلكتروني:

لدعم نشاط الحركة الإعلامي:

Digital-Patreon-Wordmark_FieryCoral.png
bottom of page